وقوله عز وجل : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار } الآية ، المعنى : واذكر يومَ يُعْرَضُ ، وهذا العرض هو بالمباشرة { أَذْهَبْتُمْ } أي : يقال لهم : { أَذْهَبْتُمْ طيباتكم في حياتكم الدنيا } والطَّيِّبَاتُ هنا : المَلاَذُّ ، وهذه الآية ، وإنْ كانت في الكُفَّار ، فهي رادعة لأُولي النهى من المؤمنين عن الشهوات واستعمالِ الطَّيِّبَاتِ ؛ ومن ذلك قولُ عُمَرَ رضي اللَّه عنه : أتَظُنُّونَ أَنَّا لا نَعْرِفُ طَيِّبَ الطَّعَامِ ؟ ذلك لُبَابُ البُرِّ بِصِغَارِ المعزى ، ولكنِّي رأيتُ اللَّه تعالى نعى على قومٍ أَنَّهم أَذْهَبُوا طَيِّبَاتِهِمْ في حياتِهِمُ الدنيا ، ذكَرَ هذا في كلامِهِ مع الرَّبيع بْنِ زِيَادٍ ، وقال أيضاً نحو هذا لخالد بن الوَلِيدِ حينَ دَخَلَ الشَّامَ ، فَقُدِّمَ إليه طعام طَيِّبٌ ، فقال عمر : هذا لنا ، فما لفقراءِ المسلمينَ الَّذِينَ ماتوا ولم يَشْبَعُوا من خُبْزِ الشَّعِير ؟ فقال خالدٌ : لَهُمُ الجَنَّةُ ، فبكى عُمَرُ ، وقال : لَئِنْ كَانَ حَظُّنَا في الحُطَامَ ، وذَهَبُوا بالجَنَّةِ فَقَدْ بَانُوا بُوْناً بَعِيداً ، وقال جابرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : اشتريت لحماً بدرهم ، فرآني عمر ، فقال : أَوَ كُلَّمَا اشتهى أَحَدُكم شَيْئاً اشتراه فأكَلَهُ ؟ ! أما تخشى أنْ تكون من أهل هذه الآية ، وتلا : { أَذْهَبْتُمْ طيباتكم } . ( ت ) : والآثار في هذا المعنى كثيرةٌ جِدًّا ، فمنها ما رواه أبو داود في سُنَنِهِ ، عن عبد اللَّه بن بُرَيْدَةَ أَنَّ رجُلاً من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، رَحَلَ إلى فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ ، وهو بِمَصْرَ ، فَقَدِمَ عليه ، فقال : أَمَا إنِّي لم آتِكَ زَائِراً ولكنْ سَمِعْتُ أَنا وأَنْتَ حَدِيثاً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، رَجَوْتُ أَنْ يكونَ عندَكَ منْهُ عِلْمٌ ، قال : ما هو ؟ قال : كذا وكذا ، قال : فمالي أَرَاكَ شَعْثاً وأَنْتَ أَمِيرُ الأَرْضِ ؟ ! قال : إنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، كان ينهى عن كثيرٍ من الإرفَاهِ ، قال : فمالي لا أرى عَلَيْكَ حِذَاءً ؟ قال : كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، يأمرنا أَنْ نَحْتَفِيَ أحياناً ، وروى أبو داوُدَ عَنْ أَبي أُمَامَةَ قال : ذكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، يوماً عنده الدنيا ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " أَلاَ تَسْمَعُونَ أَنَّ الْبَذَاذَةَ مِنَ الإيمَانِ ؟ إِنَّ الْبَذَاذَةَ مِنَ الإيمَانِ ، إن الْبَذَاذَةَ مِنَ الإِيمَانِ " قال أبو داوُدَ : يعني : التَّقَحُّلَ ، وفسر أبو عمر بن عبد البَرِّ : البَذَاذَةَ بِرَثِّ الْهَيْئَةِ ، ذكر ذلك في «التمهيد » ، وكذلك فَسَّرَهَا غيره ، انتهى . وروى ابن المبارك في «رقائقه » من طريق الحسن عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ خَرَجَ في أَصْحَابِهِ إلَى بَقِيعِ الغَرْقَدِ ، فَقَالَ : " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمُ اللَّهُ مِنْهُ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُم ! ثُمَّ أَقْبَلَ على أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : هَؤُلاَءِ خَيْرٌ مِنْكُمْ ؛ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إخْوانُنَا ، أَسْلَمْنَا كَمَا أَسْلَمُوا ، وَهَاجَرْنَا كَمَا هَاجَرُوا ، وَجَاهَدْنَا كَمَا جَاهَدُوا ، وَأَتَوا على آجَالِهِمْ فَمَضَوْا فِيهَا وَبَقِينَا في آجالِنَا ، فَمَا يَجْعَلُهُمْ خَيْراً مِنَّا ؟ ! قال : هَؤُلاَءِ خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَأْكُلُوا مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً ، وَخَرَجُوا وَأَنا الشَّهِيدُ عَلَيْهِمْ ، وإنَّكُمْ قَدْ أَكَلْتُمْ مِنْ أُجُورِكُمْ ، وَلاَ أَدْرِي مَا تُحْدِثُونَ مِنْ بَعْدِي " قال : فَلَمَّا سَمِعَهَا الْقَوْمُ عَقَلُوهَا وَانْتَفَعُوا بِهَا ، وَقَالُوا : إنَّا لَمُحاسَبُونَ بِمَا أَصَبْنَا مِنَ الدُّنْيَا ، وَإنهُ لَمُنْتَقَصٌ بِهِ مِنْ أُجُورِنَا ، انتهى . ومنها حديثُ ثَوْبَانَ في «سنن أَبي دَاوُدَ » : قال ثَوْبَانُ : كانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا سَافَرَ كَانَ آخِرُ عَهْدِهِ بِإنْسَانٍ مِنْ أَهْلِهِ فَاطِمَةَ ، وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا فَاطِمَةَ ، فَقَدِمَ مِنْ غَزَاةٍ ، وَقَدْ عَلَّقَتْ مِسْحاً أوْ سِتْراً على بَابِهَا ، وَحَلَّتِ الحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ قُلْبَيْنِ مِنْ فِضَّةٍ ، فَلَمْ يَدْخُلْ ، فَظَنَّتْ أَنَّما مَنَعَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَا رأى ؛ فَهَتَكَتِ السِّتْرَ ، وَفَكَّتِ القُلْبَيْنِ عَنِ الصَّبِيَّيْنِ وَقَطَعَتْهُمَا عَنْهُمَا ، فانطلقا إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْكِيَانِ ، فَأَخَذَهُمَا مِنْهُمَا ، وَقَالَ : يَا ثَوْبَانُ ، اذهب بِهِمَا إلَى آلِ فُلاَنٍ ؛ إنَّ هَؤُلاَءِ أَهْلِي أَكْرَهُ أَنْ يَأْكُلُوا طَيِّبَاتِهِمْ في حَيَاتِهُمْ الدُّنْيَا ، يَا ثَوْبَانُ ، اشتر لِفَاطِمَةَ قَلاَدَةً مِنْ عَصْبٍ وَسِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ » انتهى .
( ص ) : قرأ الجمهور : ( أَذْهَبْتُمْ ) على الخبر ، أي : فيقال لهم : أذهبتم طَيِّبَاتكم ، وابن كثير بهمزة بعدها مَدَّة مُطَوَّلَةً ، وابن عامر بهمزتين حَقَّقَهما ابن ذَكْوَانَ ، ولَيَّنَ الثانيةَ هشامٌ وابن كثير في روايةٍ ، والاستفهامُ هنا على معنى التوبيخ والتقريرِ ، فهو خبر في المعنى ، ولهذا حَسُنَتِ الفاء في قوله : { فاليوم } ، ولو كان استفهاما مَحْضاً لما دخلَتِ الفاء ، انتهى . و{ عَذَابَ الهون } هو الذي اقترن به هوانٌ ، فالهُونُ والهَوَانُ بمعنى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.