وبعد هذا الأمر من الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بتهديد الكافرين ، وجه - سبحانه - أمرا آخر له - صلى الله عليه وسلم - طلب منه فيه ، مواصلة دعوة المؤمنين إلى الاستمرار فى التزود من العمل الصالح فقال - تعالى - : { قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } .
قال الجمل : " قوله { قُل لِّعِبَادِيَ . . . إلخ } مفعول قل محذوف يدل عليه جوابه ، أى : قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا - وقوله - يقيموا وينفقوا مجزومان فى جواب الأمر ، أى : إن قلت لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا . . يقيموا وينفقوا .
ويجوز أن يكون قوله " يقيموا وينفقوا " مجزومين بلام الأمر المقدرة .
أى : ليقيموا الصلاة ولينفقوا . . . .
والمراد بإقامة الصلاة : المواظبة على أدائها فى أوقاتها المحددة لها ، مع استيفائها لأركانها وسننها وآدابها وخشوعها ، ومع إخلاص النية عند أدائها الله - تعالى - .
والمراد بالإِنفاق : ما يشمل جميع وجوه الإِنفاق الواجبة والمستحبة .
والمراد بقوله { سِرّاً وَعَلانِيَةً } ما يتنول عموم الأحوال فى الحرص على بذل المال فى وجوهه المشروعة .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - لعبادى المخلصين ، الذين آمنوا إيمانا حقا ، قل لهم : ليستزيدوا من المواظبة على أداء الصلاة ، وعلى الإِنفاق مما رزقناهم فى جميع الأحوال ، بأن يجعلوا نفقتهم فى السر إذا كانت آداب الدين وتعاليمه تقتضى ذلك ، وأن يجعلوها فى العلن إذا كانت المنفعة فى ذلك .
والإِضافة فى قوله { لعبادى } للتشريف والتكريم لهؤلاء العباد المخلصين .
ولم تعطف هذه الآية الكريمة على ما قبلها وهو قوله { قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } للإِيذان بتباين حال الفريقين ، واختلاف شأنهما .
ومفعول { ينفقوا } محذوف والتقدير ينفقوا شيئا مما رزقناهم .
وعبر - سبحانه - بمن المفيدة للتبعيض فى قوله { مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } للاشعار بأنهم قوم عقلاء يبتعدون فى إنفاقهم عن الإِسراف والتبذير ، عملا بقوله - تعالى - : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }
وهذا التعبير - أيضا - يشعر بأن هذا المال الذى بين أيدى عباده - سبحانه - ما هو إلا رزق رزقهم الله إياه ، ونعمة أنعم بها عليهم ، فعليهم أن يقابلوا أن يقابلوا هذه النعمة بالشكر ، بأن ينفقوا جزءا منها فى وجوه الخير .
وقوله { سِرّاً وَعَلانِيَةً } منصوبان على الحال أى : مسرين ومعلنين ، أو على المصدر أى : إنفاق سر وإنفاق علانية .
وقدم - سبحانه - إنفاق السر على العلانية للتنبيه على أنه أولى الأمرين فى معظم الأحوال لبعده عن خواطر الرياء ، ولأنه استر للمتصدق عليه .
وقوله - سبحانه - { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } مؤكد لمضمون ما قبله من الأمر بإقامة الصلاة وبالإِنفاق فى وجوه الخير بدون تردد أو إبطاء .
ولفظ " خلال " مصدر خاللت بمعنى صاحبت وصادقت ، أو جمع خليل بمعنى صديق ، أو جمع خلة بمعنى الصداقة كقلة وقلال .
أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - بأن من الواجب عليهم أن يكثروا ويداوموا على إقامة الصلاة وعلى الإِنفاق مما رزقهم - سبحانه - ، من قبل أن يفاجئهم يوم القيامة ، ذلك اليوم الذى لا تقبل فيه المعاوضات ، ولا تنفع فيه شفاعة الصديق لصديقه ، وإنما الذى يقبل وينفع فى هذا اليوم هو العمل الصالح الذى قدمه المسلم فى دنياه .
فالجملة الكريمة تفيد حضا آخر على إقامة الصلاة وعلى الإِنفاق عن طريق التذكير للناس بهذا اليوم الذى تنتهى فيه الأعمال ، ولا يمكن فيه استدراك ما فاتهم ، ولا تعويض ما فقدوه من طاعات .
كما تفيد أن المواظبة على أداء هاتين الشعيرتين ، من أعظم القربات التى يتقرب بها المسلم إلى خالقه - سبحانه - والتى تكون سببا فى رفع الدرجات يوم القيامة .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ والكافرون هُمُ الظالمون }
القول في تأويل قوله تعالى : { قُل لّعِبَادِيَ الّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لِعبادِيَ الّذِينَ آمَنُوا بك وصدّقوا أن ما جئتهم به من عندي يُقيمُوا الصّلاةَ يقول : قل لهم : فليقيموا الصلوات الخمس المفروضة عليهم بحدودها ، ولينفقوا مما رزقناهم فخوّلناهم من فضلنا سرّا وعلانية ، فليؤدّوا ما أوجبت عليهم من الحقوق فيها سرّا وإعلانا . مِنْ قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ يقول : لا يقبل فيه فدية وعوض من نفس وجب عليها عقاب الله بما كان منها من معصية ربها في الدنيا ، فيقبل منها الفدية ، وتترك فلا تعاقب . فسمى الله جلّ ثناؤه الفدية عوضا ، إذ كان أخذ عوض من معتاض منه . وقوله : وَلا خِلالٌ يقول : وليس هناك مُخالّة خليل ، فيصفح عمن استوجب العقوبة عن العقاب لمخالته ، بل هنالك العدل والقسط ، فالخلال مصدر من قول القائل : خاللت فلانا فأنا أخالّه مُخَالّة وخِلالاً ومنه قول امرىء القيس :
صرفْتُ الهَوَى عَنْهُنّ مِنْ خَشْيَةِ الرّدَى *** وَلَسْتُ بِمَقْلِيّ الخِلالِ ولا قالي وجزم قوله : يُقِيمُوا الصّلاةَ بتأويل الجزاء ومعناه الأمر ، يراد : قل لهم ليقيموا الصلاة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : قُلْ لِعِبادِيَ الّذِينَ أمَنُوا يُقِيمُوا الصّلاةَ يعني الصلوات الخمس . وَيُنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرّا وَعَلانِيَةً : يقول : زكاة أموالهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قوله : مِنْ قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ قال قتادة : إن الله تبارك وتعالى قد علم أن في الدنيا بيوعا وخلالاً يتخالّون بها في الدنيا ، فينظر رجل من يخالل وعلام يصاحب ، فإن كان لله فليداوم ، وإن كان لغير الله فإنها ستنقطع .
{ قل لعبادي الذين آمنوا } خصهم بالإضافة تنويها لهم وتنبيها على أنهم المقيمون لحقوق العبودية ، ومفعول { قل } محذوف يدل عليه جوابه : أي قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة وأنفقوا . { يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم } فيكون إيذانا بأنهم لفرط مطاوعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم بحيث لا ينفك فعلهم عن أمره ، وأنه كالسبب الموجب له ، ويجوز أن يقدرا بلام الأمر ليصح تعلق القول بهما وإنما حسن ذلك ها هنا ولم يحسن في قوله :
محمد تفد نفسك كل نفسٍ *** إذا ما خفت من أمرٍ تبالاَ
لدلالة قل عليه . وقيل هما جوابا أقيموا وأنفقوا مقامين مقامهما ، وهو ضعيف لأنه لا بد من مخالفة ما بين الشرك وجوابه ولأن أمر المواجهة لا يجاب بلفظ الغيبة إذا كان الفاعل واحدا . { سرّاً وعلانية } منتصبان على المصدر أي إنفاق سر وعلانية ، أو على الحال أي ذوي سر وعلانية ، أو على الظرف أي وقتي سر وعلانية ، والأحب إعلان الواجب وإخفاء المتطوع به . { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه } فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصيره أو يفدي به نفسه . { ولا خلال } ولا مخالة فيشفع لك خليل ، أو من قبل أن يأتي يوم لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله تعالى . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بالفتح فيهما على النفي العام .
استئناف نشأ عن ذكر حال الفريق الذي حقت عليه الكلمة الخبيثة بذكر حال مقابله ، وهو الفريق الذي حقت عليه الكلمة الطيبة . فلما ابتدىء بالفريق الأول لقصد الموعظة والتخلي ثُنّي بالفريق الثاني على طريقة الاعتراض بين أغراض الكلام كما سيأتي في الآية عقبها .
ونظيره قوله تعالى في سورة الإسراء : { وقالوا أإذا كنا عظاماً ورفاتاً إنا لمبعوثون خلقاً جديداً قل كونوا حجارة إلى أن قال وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } [ سورة الإسراء : 50 ، 52 ] .
ولما كانوا متحلين بالكمال صِيغَ الحديث عنهم بعنوان الوصف بالإيمان ، وبصيغة الأمر بما هم فيه من صلاة وإنفاق لقصد الدوام على ذلك ، فحصلت بذلك مناسبة وقع هذه الآية بعد التي قبلها لمناسبة تضاد الحالين .
ولما كان المؤمنون يقيمون الصلاة من قبل وينفقون من قبل تعين أن المراد الاستزادة من ذلك ، ولذلك اختير المضارع مع تقدير لام الأمر دون صيغة فعل الأمر لأن المضارع دال على التجدد ، فهو مع لام الأمر يلاقي حال المتلبس بالفعل الذي يؤمر به بخلاف صيغة ( افعل ) فإن أصلها طلب إيجاد الفعل المأمور به من لم يكن ملتبساً به ، فأصل يقيموا الصلاة } ليقيموا ، فحذفت لام الأمر تخفيفاً .
وهذه هي نكتة ورود مثل هذا التركيب في مواضع وروده ، كما في هذه الآية وفي قوله { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } في سورة الإسراء ( 52 ) ، أي قل لهم ليقيموا وليقولوا ، فحكي بالمعنى .
وعندي : أن منه قوله تعالى : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون في سورة الحجر ( 3 ) ، أي ذرهم ليأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل . فهو أمر مستعمل في الإملاء والتهديد ، ولذلك نوقن بأن الأفعال هذه معمولة للام أمر محذوفة . وهذا قول الكسائي إذا وقع الفعل المجزوم بلام الأمر محذوفة بعد تقدم فعل { قل } ، كما في « مغني اللبيب » ووافقه ابن مالك في « شرح الكافية » . وقال بعضهم : جزم الفعل المضارع في جواب الأمر ب { قل } على تقدير فعل محذوف هو المقول دل عليه ما بعده . والتقدير : قل لعبادي أقيموا يقيموا وَأنفقوا ينفقوا . وقال الكسائي وابن مالك إن ذلك خاص بما يقع بعد الأمر بالقول كما في هذه الآية ، وفاتهم نحو آية { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا .
وزيادة { مما رزقناهم } للتذكير بالنعمة تحريضاً على الإنفاق ليكون شكراً للنعمة .
و { سراً وعلانية } حالان من ضمير { ينفقوا } ، وهما مصدران . وقد تقدم عند قوله تعالى : { سراً وعلانية } في سورة البقرة ( 274 ) . والمقصود تعميم الأحوال في طلب الإنفاق لكيلا يظنوا أن الإعلان يجر إلى الرياء كما كان حال الجاهلية ، أو أن الإنفاق سراً يفضي إلى إخفاء الغني نعمة الله فيجر إلى كفران النعمة ، فربما توخى المرء أحد الحالين فأفضى إلى ترك الإنفاق في الحال الآخر فتعطل نفع كثير وثواب جزيل ، فبين الله للناس أن الإنفاق بِرّ لا يكدره ما يحف به من الأحوال ، وإنما الأعمال بالنيات .
وقد تقدم شيء من هذا عند قوله : { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم } [ سورة التوبة : 79 ] الآية .
وقيل المقصود من السر الإنفاق المتطوع به ، ومن العلانية الإنفاق الواجب .
وتقديم السر على العلانية تنبيه على أنه أولى الحالين لبعده عن خواطر الرياء ، ولأن فيه استبقاءً لبعض حياء المتصدق عليه .
وقوله : { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه } الخ متعلق بفعل { يقيموا الصلوات وينفقوا } ، أي ليفعلوا ذينك الأمرين قبل حلول اليوم الذي تتعذر فيه المعاوضات والإنفاق . وهذا كناية عن عظيم منافع إقامة الصلاة والإنفاق قبل يوم الجزاء عنهما حين يتمنون أن يكونوا ازدادوا من ذينك لما يسرهم من ثوابهما فلا يجدون سبيلاً للاستزادة منهما ، إذ لا بيع يومئذٍ فيشترى الثواب ولا خلال من شأنها الإرفاد والإسعاف بالثواب . فالمراد بالبيع المعاوضة وبالخلال الكناية عن التبرع .
ونظيره قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة } في سورة البقرة ( 254 ) .
وبهذا تبين أن المراد من الخلال هنا آثارها ، بقرينة المقام ، وليس المراد نفي الخلة ، أي الصحبة والمودّة لأن المودّة ثابتة بين المتقين ، قال تعالى : { الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } [ سورة الزخرف : 67 ] . وقد كني بنفي البيع والخلال التي هي وسائل النوال والإرفاد عن انتفاء الاستزادة .
وإدخال حرف الجر على اسم الزمان وهو قبل } لتأكيد القبلية ليفهم معنى المبادرة .
وقرأ الجمهور { لا بيع } بالرفع . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب بالبناء على الفتح . وهما وجهان في نفي النكرة بحرف { لا } .