قوله تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم } ، إن عصوه وتركوا عبادته ، { ولا ينفعهم } ، إن عبدوه ، يعني : الأصنام ، { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله } أتخبرون الله ، { بما لا يعلم } ، الله صحته . ومعنى الآية : أتخبرون الله أن له شريكا ، أو عنده شفيعا بغير إذنه ، ولا يعلم الله لنفسه شريكا ؟ ! { في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } ، قرأ حمزة والكسائي : تشركون بالتاء ، هاهنا وفى سورة النحل موضعين ، وفى سورة الروم ، وقرأ الآخرون كلها بالياء .
ثم حكى - سبحانه - أقبح رذائلهم ، وهى عبادتهم لغير الله ، ودعواهم أن أصنامهم ستشفع لهم فقال - تعالى - :
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ . . . }
هذه الآية الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا . . . } عطف القصة على القصة .
والعبادة : الطاعة البالغة حد النهاية في الخضوع والتعظيم .
أي : وهؤلاء الذين لا يرجون لقاؤنا ، ويطلبون قرآنا غير هذا القرآن أو تبديله ، بلغ من جهلهم وسفههم أنهم يعبدون من دون الله أصناما لا تضرهم ولا تنفعهم ، لأنها جمادات لا قدرة لها على ذلك .
والمقصود بوصفها بأنها لا تضر ولا تنفع : بطلان عبادتها ، لأن من شأن المعبود أن يملك الضر والنفع ، وأن يكون مثيبا على الطاعة ومعاقبا على المعصية .
وقوله : { مِن دُونِ الله } جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل { يعبدون } أي : يعبدونها متجاوزين الله وتاركين طاعته .
و { ما } موصولة أو نكرة موصوفة . والمراد بها الأصنام التي عبدوها من دون الله ؟
قال الجمل : " ونفي الضر والنفع هنا عن الأصنام باعتبار الذات ، وإثباتها لها في سورة الحج في قوله { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } باعتبار السبب ، فلا يرد كيف نفي عن الأصنام الضر والنفع ، وأثبتهما لهما في سورة الحج " .
وقوله : { وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله } حكاية لأقوالهم السخيفة عندما يُدعَوْن إلى عبادة الله وحده .
والشفعاء : جمع شفيع ، وهو من يشفع لغيره في دفع ضر أو جلب نفع .
أي : أنهم يدينون بالعبادة لأصنام لا تضرهم إن تركوا عبادتها ، ولا تنفعهم إن عبدوها ، فإذا ما طلب منهم أن يجعلوا عبادتهم لله وحده وقالوا : إننا نعبد هذه الأصنام لتكون شفيعة لنا عند الله في دنيانا ، بأن نتوسل إليه بها في إصلاح معاشنا ، وفى آخرتنا إن كان هناك ثواب وعقاب يوم القيامة .
وهنا يأمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم في قول : { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ في السماوات وَلاَ في الأرض } .
أي : قل يا محمد لهؤلاء الجاهلين : إن الله - تعالى - لا يخفى عليه شيء في هذا الكون ولا يعلم أن هناك من يشفع عنده مما تزعمون شفاعته . فهل تعملون أنتم ما لا يعلمه . وهل تخبرونه بما لا يعلم له وجوداً في السموات ولا في الأرض ؟ ! !
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة التهكم بهم ، والسخرية بعقولهم وأفكارهم ، ونفي أن تكون الأوثان شفعاء عند الله بأبلغ وجه .
والعائد في قوله { بِمَا لاَ يَعْلَمُ } محذوف . والتقدير بما لا يعلمه .
وقوله { فِي السماوات وَلاَ في الأرض } حال من العائد المحذوف ، وهو مؤكد للنفي ، لأن ما لا يوجد في ها فهو منتف عادة .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت كيف : أنبأوا الله بذلك ؟ قلت : هو تهكم بهم ، وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام ، وإعلام بأن الذي أنبأوا به باطل .
فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق علمه به ، كما يخبر الرجل بما لا يعلمه .
وقوله { فِي السماوات وَلاَ في الأرض } تأكيد لتنفيه ، لأن ما لم يوجد في هما فهو منتف معدوم .
وقوله : { سُبْحَانَهُ وتعالى } عن كل شريك ، وعما قاله هؤلاء الجاهلون من أن الأصنام شفعاء عنده .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد وبخت المشركين على عبادتهم لغير الله وعلى جهالاتهم وتقولهم على الله بغير علم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هََؤُلآءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ويعبد هؤلاء المشركون الذين وصفت لك يا محمد صفتهم من دون الله الذي لا يضرّهم شيئا ولا ينفعهم في الدنيا ولا في الاَخرة ، وذلك هو الاَلهة والأصنام التي كانوا يعبدونها . وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللّهِ يعني أنهم كانوا يعبدونها رجاء شفاعتها عند الله ، قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ لَهُمْ أتُنَبّئُونَ اللّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السّمَوَاتِ وَلا في الأرْضِ يقول : أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض وذلك أن الاَلهة لا تشفع لهم عند الله في السماوات ولا في الأرض . وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله ، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهم : أتخبرون الله أن ما لايشفع في السماوات ولا في الأرض يشفع لكم فيهما ، وذلك باطل لا تعلم حقيقته وصحته ، بل يعلم الله أن ذلك خلاف ما تقولون وأنها لا تشفع لأحد ولا تنفع ولا تضرّ . سُبْحانَهُ وَتَعَالى عَمّا يُشْرِكُونَ يقول : تنزيها لله وعلوّا عما يفعله هؤلاء المشركون من إشراكهم في عبادة ما لا يضرّ ولا ينفع وافترائهم عليه الكذب .
{ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم } فإنه جماد لا يقدر على نفع ولا ضر ، { ويقولون هؤلاء } الأوثان . { شفعاؤنا عند الله } تشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا أو في الآخرة إن يكن بعث ، وكأنهم كانوا شاكين فيه وهذا من فرط جهالتهم حيث تركوا عبادة الموجد الضار النافع إلى عبادة ما يعلم قطعا أنه لا يضر ولا ينفع على توهم أنه ربما يشفع لهم عنده . { قل أتنبّئون الله } أتخبرونه . { بما لا يعلم } وهو أن له شريكا أو هؤلاء شفعاء عنده وما لا يعلمه العالم بجميع المعلومات لا يكون له تحقق ما وفيه تقريع وتهكم بهم . { في السماوات ولا في الأرض } حال من العائد المحذوف مؤكدة للنفي منبهة على أن ما يعبدون من دون الله إما سماوي وإما أرضي ، ولا شيء من الموجودات فيهما إلا وهو حادث مقهور مثلهم لا يليق أن يشرك به . { سبحانه وتعالى عما يشركون } عن إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم به . وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الموضعين في أول " النحل " و " الروم " بالتاء .
وقوله { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم } الآية ، الضمير في { يعبدون } عائد على الكفار من قريش الذين تقدّمت محاورتهم ، و { ما لا يضرهم ولا ينفعهم } هي الأصنام ، وقولهم { هؤلاء شفعاؤنا } هو مذهب النبلاء منهم ، فأمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يقررهم ويوبخهم أهم يعلمون الله بأنباء من السماوات والأرض لا يعلمها هو ؟ وذكر { السماوات } لأن العرب من يعبد الملائكة والشعرى ، وبحسب هذا حسن أن يقول { هؤلاء } وقيل ذلك على تجوز في الأصنام التي لا تعقل ، وفي التوقيف على هذا أعظم غلبة لهم ، ولا يمكنهم ألا أن يقولوا : لا نفعل ولا نقدر ، وذلك لهم لازم من قولهم : { هؤلاء شفعاؤنا } ، و { سبحانه } استئناف تنزيه لله عز وجل ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر هنا : «عما يشركون » بالياء على الغيبة ، وفي حرفين في النحل وحرف في الروم وحرف في النمل{[6050]} ، وذكر أبو حاتم أنه قرأها كذلك نافع والحسن والأعرج وابن القعقاع وشيبة وحميد وطلحة والأعمش ، وقرأ ابن كثير ونافع هنا وفي النمل فقط «تشركون » بالتاء على مخاطبة الحاضر ، وقرأ حمزة والكسائي الخمسة الأحرف بالتاء وهي قراءة أبي عبد الرحمن .