معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا} (155)

قوله تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم } ، أي : فبنقضهم ، وما صلة كقوله تعالى : { فبما رحمة من الله } [ آل عمران :159 ] ، ونحوها .

قوله تعالى : { وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم } ، أي : ختم عليها .

قوله تعالى : { فلا يؤمنون إلا قليلاً } ، يعني : ممن كذب الرسل ، لا ممن طبع على قلبه ، لأن من طبع الله على قلبه لا يؤمن أبداً ، وأراد بالقليل : عبد الله بن سلام وأصحابه ، وقيل معناه : لا يؤمنون قليلاً ولا كثيراً .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا} (155)

ثم عدد - سبحانه - ألونا أخرى من جرائمهم التى عقابهم عليها شديدا فقال - تعالى - : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } .

والفاء فى قوله { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } للتفريع على ما تقدم من قوله { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } والباء للسببية ، وما هنا مزيدة لتأكيد نقضهم للميثاق . والجر والمجرور متعلق بمحذف لتذهب نفس السامع فى تقديره كل مذهب فى التهويل والتشنيع على هؤلاء الناقصين لعهودهم مع الله - تعالى - فيكون المعنى :

فسببب نقض هؤلاء لعهودهم وبسبب كفرهم بآياتنا ، وبسبب قتلهم لأنبيائنا ، وبسبب أقوالهم الكاذبة . بسبب كل ذلك فعلنا بهم ما فعلنا من أنواع العقوبات الشديدة ، وأنزلنا بهم ما أنزلنا من ظلم ومهانة وصغار ومسخ . . . الخ .

ويرى بعضهم أن الجار والمجرور متعلق بقوله - تعالى - بعد ذلك { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } . . .

أى : فسبب نقضهم للميثاق . وكفرهم بآيات الله حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم .

قال الفخر الرازى : واعلم أن القول الأول أولى ويدل عليه وجهان :

أحدهما : أن الكلام طويل جداً من قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } إلى قوله : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } .

الثانى : أن تلك الجنايات المذكورة بعد قوله - تعالى - { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } عظيمة جدا . لأن كفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء ، وإنكارهم للتكليف بقولهم : قلوبنا غلف ، أعظم الذنوب ، وذكر الذنوب العظيمة ، إنما يليق أن يفرع عليه العقوبة العظيمة ، وتحريم بعض المأكولات عقوبة خفيفة فلا حسن تعليقه بتلك الجنايات الكبيرة .

فأنت ترى أن الله - تعالى - قد لعن بنى إسرائيل كما جاء فى قوله - تعالى - { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } ومسخهم قردة وخنازير كما جاء فى قوله - تعالى

{ فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } وكما فى قوله - تعالى - { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير وَعَبَدَ الطاغوت } وتلك العقوبات كلها إنما كانت بسبب الجنايات والمنكرات التي سجلتها عليهم الآيات القرآنية ؛ والتى من أجمعها هذه الآيات التى معنا .

فالآيات التى معنا تسجل عليهم نقضهم للمواثيق ، ثم تسجل عليهم - ثانيا - كفرهم بآيات الله .

وقد عطف - سبحانه - كفرهم بآياته على نقضهم للميثاق الذى أخذه عليهم مع أن ذلك الكفر من ثمرات النقض ، للإِشعار بأن النقض فى ذاته إثم عظيم والكفر فى ذاته إثم عظيم - أيضا - من غير التفات إلى أن له سبباً أو ليس له سبب .

وسجل عليهم - ثالثا - قتلهم الأنبياء غير حق . فقد قتلوا زكريا وحيى وغيرهما من رسل الله - تعالى - .

ولا شك أن قتل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يدل على شناعة جريمة من قتلهم وعلى تولغه فى الجحود والعناد والفجور إلى درجة تعجز العبادات عن وصفها ، لأنه بقتله للدعاة إلىالحق ، لا يريد للحق أن يظهر ولا للفضيلة أن تنتشر ، ولا للخير أن يسود ، وإنما يريد أن تكون الأباطيل والرذائل والشرور هى السائدة فى الأرض .

وقوله : { بِغَيْرِ حَقٍّ } ليس قيدا ؛ لأن تقل النبيين لا يكون بحق أبداً ، وإنما المراد من قوله : { بِغَيْرِ حَقٍّ } بيان أن هؤلاء القاتلين قد بلغوا النهاية فى الظلم والفجور والتعدى . لأنهم قد قتلوا أنبياء الله بدون أى مسوغ يوسغ ذلك ، وبدون أية شبهة تحملهم على ارتكاب ما ارتكبوا ، وإنما فعلوا ما فعلوا لمجرد إرضاء أحقادهم وشهواتهم وأهوائهم . .

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى قوله : فإن قلت : وقتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق فما فائدة ذكره ؟ قلت . معناه أنهم قتلوهم بغير حق عندهم - ولا عند غيرهم - ، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا فى الأرض فيقتلوا . وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم . فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يستحقون به القتل .

ثم سجل عليهم - رابعا - قولهم { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } .

وقوله : { غُلْفٌ } جمع أغلف - كحمر جمع أحمر - والشئ الأغلف هو الذى جعل عليه شى يمنع وصول شئ آخر إليه .

والمعنى : أن هؤلاء الجاحدين قد قالوا عندما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحق إن قلوبنا قد خلقها الله مغطاة بأغطية غليظة ، وهذه الأغطية جعلتنا لا نعى شيئا مما تقوله يا محمد ، ولا نفقة شيئا مما تدعونا إليه ، فهم بهذا الكلام الذى حكاه القرآن عنهم ، يريدون أن يتنصلوا من مسئوليتهم عن كفرهم ، لأنهم يزعمون أن قلوبهم قد خلقها الله بهذه الطريقة التى حالت بينهم وبين فهم ما يراد منهم .

وقريب من هذا قوله - تعالى - حكاية عن المشركين : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ } وقيل : إن قوله : وغلف : جمع غلاف - ككتب وكتاب - وعليه يكون المعنى : أنهم قالوا إن قلوبنا غلف أى أوعية للعلم شأنها فى ذلك شأن الكتب ، فلا حاجة بنا يا محمد إلى ما تدعونا إليه ، لأننا عندنا ما يكفينا .

والذى يبدو لنا أن التأويل الأول أولى ، لأن أقرب إلى سياق الآية ، فقد رد الله عليهم بقوله : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } . والطبع معناه . إحكام الغلق على الشئ وختمه بحيث لا ينفذ إليه شئ آخر .

والمعنى : أن هؤلاء القائلين إن قلوبهم غلف كاذبون فيما يقولون ، وتخليهم عن مسئولية الكفر ليس صحيحا . لأن كفرهم ليس سببه أن قلوبهم قد خلقت مغطاة بأغطية تحجب عنها إدراك الحق - كما يزعمون - بل الحق أن الله - تعالى - ختم عليها ، وطمس معالم الحق فيها ، بسبب كفرهم وأعمالهم القبيحة . فهو - سبحانه - قد خلق القلوب على الفطرة ، بحيث تتمكن من اختيار الخير والشر ، إلا أن هؤلاء اليهود قد أعرشوا عن الخير إلى الشر ، واختاروا الكفر على الإِيمان نتيجة انقيادهم لأهوائهم وشهواتهم . فالله - تعالى - طبع على قلوبهم بسبب إيثارهم سبيل الغى على سبيل الرشد ، فصاروا لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا قيمة له عند الله - تعالى - .

فقوله { إِلاَّ قَلِيلاً } نعت لمصدر محذوف أى إلا إيماناً قليلا . كإيمانهم بنبوة موسى - عليه السلام - وإنما كان إيمانهم هذا لا قيمة له عند الله ، لأن الإِيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعضهم ، يعتبره الإِسلام كفرا بالكل كما سبق أن بينا فى قوله - تعالى - { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً } ومنهم من جعل قوله { إِلاَّ قَلِيلاً } صفة لزمان محذوف أى : فلا يؤمنون إلا زمانا قليلا . ومنهم من جعل الاستثناء فى قوله { إِلاَّ قَلِيلاً } من جماعة اليهود المدلول عليهم بالواو فى قوله { فَلاَ يُؤْمِنُونَ } أى : فلا يؤمنون إلا عددا قليلا منهم كعبد الله بن سلام وأشناهه . والجملة الكريمة وهى قوله : { طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } معترضة بين الجمل المتعاطفة . وقد جئ بها للمسارعة إلى رد مزاعمهم الفاسدة ، وأقاربهم الباطلة .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا} (155)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً } . .

يعني جلّ ثناؤه : فبنقض هؤلاء الذين وصفت صفتهم من أهل الكتاب ميثاقهم ، يعني عهودهم التي عاهدوا الله أن يعملوا بما في التوراة . وكُفْرِهِمْ بآياتِ اللّهِ يقول : وجحودهم بآيات الله ، يعني : بأعلام الله وأدلته التي احتجّ بها عليهم في صدق أنبيائه ورسله ، وحقية ما جاءوهم به من عنده . وَقَتْلِهِمُ الأنْبِياءَ بغيرِ حَقَ يقول : وبقتلهم الأنبياء بعد قيام الحجة عليهم بنبوّتهم بغير حقّ ، يعني : بغير استحقاق منهم ذلك لكبيرة أتوها ولا خطيئة استوجبوا القتل عليها . وقولهم : قُلُوبُنا غُلْفٌ يعني : وبقولهم : قلوبنا غلف ، يعني يقولون : عليها غشاوة وأغطية عما تدعونا إليه ، فلا نَفْقَهُ ما تقول ، ولا نعقله . وقد بينا معنى الغلف ، وذكرنا ما في ذلك من الرواية فيما مضى قبل . بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ يقول جلّ ثناؤه : كذبوا في قولهم قلوبنا غلف ، ما هي بغلف ولا عليها أغطية ولكن الله جلّ ثناؤه جعل عليها طابعا بكفرهم بالله . وقد بينا صفة الطبع على القلب فيما مضى بما أغنى عن إعادته . فَلا يُؤْمِنونَ إلاّ قَلِيلاً يقول : فلا يؤمن هؤلاء الذين وصف الله صفتهم لطبعه على قلوبهم ، فيصدّقوا بالله ورسله وما جاءتهم به من عند الله إلا إيمانا قليلاً ، يعني : تصديقا قليلاً . وإنما صار قليلاً لأنهم لم يصدقوا على ما أمرهم الله به ، ولكن صدّقوا ببعض الأنبياء وببعض الكتب وكذّبوا ببعض ، فكان تصديقهم بما صدّقوا به قليلاً ، لأنهم وإن صدّقوا به من وجه ، فهم به مكذّبون من وجه آخر . وذلك من وجه تكذيبهم من كذّبوا به من الأنبياء وما جاءوا به من كتب الله ورسل الله يصدّق بعضهم بعضا ، وبذلك أمر كلّ نبيّ أمته ، وكذلك كتب الله يصدّق بعضها بعضا ويحقق بعض بعضا ، فالمكذّب ببعضها مكذّب بجميعها من جهة جحوده ما صدّقه الكتاب الذي يقرّ بصحته ، فلذلك صار إيمانهم بما آمنوا من ذلك قليلاً .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ يقول : فبنقضهم ميثاقَهم لعناهم وَقَوْلهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ : أي لا نفقه ، بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ ولعنهم حين فعلوا ذلك .

واختلف في معنى قوله : فَبِما نَقْضِهِمْ . . . الاَية ، هل هو مواصل لما قبله من الكلام ، أو هو منفصل منه ؟ فقال بعضهم : هو منفصل مما قبله ، ومعناه : فبنقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حقّ وَقَوْلهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بكُفْرِهِمْ ولعنهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً لما ترك القوم أمر الله ، وقتلوا رسله ، وكفروا بآياته ، ونقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم . طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ ولعنهم .

وقال آخرون : بل هو مواصل لما قبله قالوا : ومعنى الكلام : فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ، فبنقضهم ميثاقَهم ، وكفرهم بآيات الله ، وبقتلهم الأنبياء بغير حقّ وبكذا وكذا أخذتهم الصاعقة . قالوا : فتبع الكلام بعضه بعضا ، ومعناه مردود إلى أوّله . وتفسير ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة من أجله بما فسر به تعالى ذكره مِن نقضهم الميثاق ، وقتلهم الأنبياء ، وسائر ما بين من أمرهم الذي ظلموا فيه أنفسهم .

والصواب من القول في ذلك أن قوله : فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وما بعده منفصل معناه من معنى ما قبله وأنّ معنى الكلام : فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله ، وبكذا وبكذا ، لعنّاهم وغضبنا عليهم ، فترك ذكر «لعناهم » لدلالة قوله : بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ على معنى ذلك ، إذ كان مَن طبع على قلبه فقد لُعن وسُخط عليه .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الذين أخذتهم الصاعقة إنما كانوا على عهد موسى والذين قتلوا الأنبياء والذين رَمَوْا مريم بالبهتان العظيم ، وقالوا : قتلنا المسيحَ ، كانوا بعد موسى بدهر طويل ، ولم يدرك الذين رَمَوْا مريم بالبهتان العظيم زمان موسى ولا مَن صُعِق من قومه . وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الذين أخذتهم الصاعقة لم تأخذهم عقوبة لِرَميهم مريم بالبهتان العظيم ، ولا لقولهم : إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم . وإذ كان ذلك كذلك ، فبين أن القوم الذين قالوا هذه المقالة ، غير الذين عوقبوا بالصاعقة . وإذا كان ذلك كذلك ، كان بينا انفصال معنى قوله : فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ من معنى قوله : فَأخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا} (155)

{ فبما نقضهم ميثاقهم } أي فخالفوا ونقضوا ففعلنا بهم ما فعلنا بنقضهم ، وما مزيدة للتأكيد والياء متعلقة بالفعل المحذوف ، ويجوز أن تتعلق بحرمنا عليهم طيبات فيكون التحريم بسبب النقص ، وما عطف عليه إلى قوله فبظلم لا بما دل عليه قوله : { بل طبع الله عليها } مثل لا يؤمنون لأنه رد لقولهم قلوبنا غلف فيكون من صلة وقولهم المعطوف على المجرور فلا يعمل في جاره . { وكفرهم بآيات الله } بالقرآن أو بما جاء في كتابهم . { وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف } أوعية للعلوم ، أو في أكنة مما تدعونا إليه . { بل طبع الله عليها بكفرهم } فجعلها محجوبة عن العلم ، أو خذلها ومنعها التوفيق للتدبر في الآيات والتذكر في المواعظ . { فلا يؤمنون إلا قليلا } منهم كعبد الله بن سلام ، أو إيمانا قليلا إذ لا عبرة به لنقصانه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا} (155)

وقوله تعالى { فبما نقضهم } الآية ، إخبار عن أشياء واقعوها هي في الضد مما أمروا به وذلك أن الميثاق الذي رفع الطور من أجله نقضوه ، والإيمان الذي تضمنه { ادخلوا الباب سجداً } إذ ذلك التواضع إنما هو ثمرة الإيمان والإخبات جعلوا بدله كفرهم بآيات الله ، وقولهم : حبة في شعرة وحنطة في شعيرة ، ونحو ذلك مما هو استخفاف بأمر الله وكفر به ، وكذلك أمروا أن لا يعتدوا في السبت ، وفي ضمن ذلك الطاعة وسماع الأمر ، فجعلوا بدل ذلك الانتهاء إلى انتهاك أعظم حرمة ، وهي قتل الأنبياء ، وكذلك أخذ «الميثاق الغليظ » منهم تضمن فهمهم بقدر ما التزموه ، فجعلوا بدل ذلك تجاهلهم . وقولهم { قلوبنا غلف } أي هي في حجب وغلف{[4359]} ، فهي لا تفهم ، وأخبر الله تعالى أن ذلك كله عن طبع منه على قلوبهم ، وأنهم كذبة فيما يدعونه من قلة الفهم ، وقرأ نافع «تعْدّوا » بسكون العين وشد الدال المضمومة{[4360]} ، وروى عنه ورش «تعَدّوا » بفتح العين وشد الدال المضمومة{[4361]} وقرأ الباقون «لا تعْدوا » ساكنة العين خفيفة الدال مضمومة وقرأ الأعمش والحسن «لا تعتدوا » وقوله تعالى : { فبما } ما زائدة مؤكدة ، التقدير فبنقضهم ، وحذف جواب هذا الكلام بليغ منهم ، متروك مع ذهن السامع ، تقديره لعناهم وأذللناهم ، وحتمنا على الموافين منهم الخلود في جهنم{[4362]} .


[4359]:- يقال: غلف قلبه: لم يع الرشد كأن عليه غلافا فهو أغلف- وجمع أغلف: غُلف، أي: قلوبنا في أغطية فلا نفقه ما تقول، وهذا هو المعنى الذي وضحه ابن عطية، وقال القرطبي: "غلف جمع غلاف، أي: قلوبنا أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا"
[4360]:- قال النحاس: "ولا يجوز إسكان العين، ولا يوصل إلى الجمع بين ساكنين في هذا، والذي يقرأ بها إنما يروم الخطأ. (عن القرطبي).
[4361]:- فهي –على هذا- من: عدا يعدو عدوا وعدوانا وعدوا وعداء، وكان عدوانهم باقتناص الحيتان يوم السبت. قال ذلك القرطبي.
[4362]:- ناقشه صاحب البحر في ذلك فقال: "وتسميته ما يتعلق به المجرور جوابا اصطلاحا لم يعهد في علم النحو، ولا تساعده اللغة، لأنه ليس بجواب".