تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا} (155)

المفردات :

فبما نقضهم ميثاقهم : أي : فبسبب نقضهم ومخالفتهم للعهد الوثيق المؤكد وما في قوله : فبما نقضهم : لتوكيد هذا النقص ، فإنها كثيرا ما توصل بالكلام لهذا الغرض كقوله تعالى : فبما رحمة من الله لنت لهم . أي : فبرحمة مؤكدة من الله كنت لينا معهم .

قلوبنا غلف : أي : مغلقة ومغطاة بأغشية تمنعها من قبول ما جاء به الرسول . وغلف : جمع أغلف . وهو : ما له غلاف .

طبع الله عليها بكفرهم : أي : تخلى عن هدايتها بسبب إصرارهم على الكفر

التفسير :

155- فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ . . . أي : فنقض بنو إسرائيل الميثاق الغليظ الذي أخذناه عليهم ، فبسبب هذا النقض لعناهم وعاقبناهم ، كما لعناهم وعاقبناهم بسبب كفرهم بآيات الله الكونية العجيبة التي أجرها الله على يد موسى ، إذ عبدوا العجل بعدها ، وقالوا : أرنا الله جهرة .

وكذلك آيات التوراة فقد أخفوا ما جاء فيها من بشارات عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أساءوا تأويلها ليبرروا كفرهم .

وكما لعناهم بذلك ، لعناهم بقتلهم أنبياءهم بغيا وحسدا دون شائبة من الحق كما فعلوا بيحيي وزكريا وشعيب وغيرهم- ولعناهم وعاقبناهم بقولهم :

قُلُوبُنَا غُلْفٌ . أي : مغطاة بأغطية من الصدود والرفض لدعوتك يا محمد ، فلن تصل إيها براهينك فلا تتعب نفسك معنا .

وقريب من هذا قوله تعالى حكاية عن المشركين :

وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ . . . ( فصلت : 5 ) .

وقيل : إن قوله : غلف : مع غلاف- ككتب وكتاب وعليه يكون المعنى :

وقالوا قلوبنا غلف . أي : أوعية للعلم شأنها في ذلك شأن الكتب فلا حاجة بنا إلى علم جديد .

والتأويل الأول أقرب إلى سياق الآية فقد ورد الله عليهم بقوله : بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً .

المعنى : ليست قلوبهم مغطاة بأغطية تحجب عنها إدراك الحق كما زعموا ، بل الحق : أن الله تعالى ختم عليها ، وطمس معالم الحق فيها بسبب كفرهم وأعمالهم القبيحة ، وإيثارهم الغي على سبيل الرشاد .

فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً .

أي : فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا ، ليس له وزن عند الله لفقدانه العناصر الضرورية لصحته ، ومن هذه العناصر : صدق اليقين ، ومحبة الله ، وإخلاص الوجه له ، وقريب من ذلك قوله تعالى :

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ . . . ( الحجرات : 14 ) .

قال الدكتور محمد سيد طنطاوي :

فقوله : إلا قليلا : نعت لمصدر محذوف أي : إلا إيمانا قليلا ، كإيمانهم بنبوة موسى عليه السلام ، وإنما كان إيمانهم هذا لا قيمة له عند الله ، لأن الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعضهم ، يعتبره الإسلام كفروا بالكل كما سبق أن بينا في قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا . . . ( النساء : 150-151 ) .

ومنهم من جعل قوله : إلا قليلا . صفة لزمان محذوف أي : فلا يؤمنون إلا زمانا قليلا .

ومنهم من جعل الاستثناء في قوله : إلا قليلا . من جماعة اليهود المدلول عليهم بالواو في قوله فلا يؤمنون . أي : فلا يؤمنون إلا عددا قليلا منهم : كعبد الله بن سلام وأشباهه . والجملة الكريمة وهي قوله : طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ . معترضة بين الجمل المتعاطفة ، وقد جيء بها للمسارعة إلى رد مزاعمهم الفاسدة وأقاويلهم الباطلة {[148]}


[148]:د. محمد سيد طنطاوي. تفسير سورة النساء ص 496 ط 2