معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٞ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (178)

قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين كفروا } . قرأ حمزة هذا والذي بعده بالتاء فيهما ، وقرأ الآخرون بالياء ، فمن قرأ بالياء " فالذين " في محل الرفع على الفاعل تقديره ولا يحسبن الكفار إملاءنا لهم خيراً ، ومن قرأ بالتاء يعني ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا ، وإنما نصب على البدل من الذين .

قوله تعالى : { إنما نملي لهم خير لأنفسهم } . والإملاء الإمهال والتأخير ، يقال : عشت طويلاً حميداً وتمليت حيناً ، ومنه قوله تعالى ( واهجرني مليا ) . أي حيناً طويلاً ، ثم ابتدأ فقال :

قوله تعالى : { إنما نملي لهم } . نمهلهم .

قوله تعالى : { ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين } . قال مقاتل : نزلت في مشركي مكة ، وقال عطاء في قريظة والنضير .

أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله القفال ، أنا أبو منصور أحمد بن الفضل البروجردي ، أنا أبو أحمد بكر بن محمد حمدان الصيرفي ، أنا محمد بن يونس ، أنا أبو داود الطيالسي ، أنا شعبة عن علي بن زيد ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي الناس خير ؟ قال : من طال عمره وحسن عمله قيل : فأي الناس شر ؟ قال : من طال عمره وساء عمله " .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٞ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (178)

ثم بين - سبحانه - أن ما يتمتع به الأشرار فى الدنيا من متع إنما هو استدراج لهم ، فقال - تعالى - : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } .

وقوله { نُمْلِي لَهُمْ } من الإملاء وهو الإمهال والتخلية بين العامل والعمل ليبلغ مداه .

يقال : أملى فلان لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء .

ويطلق الإملاء على طول المدة ورغد العيش .

والمعنى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } ، بتطويل أعمارهم ، وبإعطائهم الكثير من وسائل العيش الرغيد هو ، { خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } كلا . بل هو سبب للمزيد من عذابهم ، لأننا { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } بكثرة ارتكابهم للمعاصى { وَلَهْمُ } فى الآخرة { عَذَابٌ مُّهِينٌ } أى عذاب ينالهم بسببه الذل الذى ليس بعده ذل والهوان الذى يتصاغر معه كل هوان .

وقوله { وَلاَ يَحْسَبَنَّ } إلخ . . عطف على قوله - تعالى - { وَلاَ يَحْزُنكَ } ويكون للنهى عن الظن متجها للذين كفروا ليعلموا سوء عاقبتهم .

ويكون مفعولا يحسب قد سد مسدهما أن المصدرية وما بعدها و " ما " فى قوله " أنما نملى لهم " يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون موصولة حذف عائدها .

وقد كتبت متصلة بأن مع أن من حقها أن تكتب منفصلة عنها اتباعا للمصحف الإمام أى لا يحسبن الكافرين أن إملاءنا لهم أو أن الذى نمليه لهم من تأخير حياتهم وانتصارهم فى الحروب فى بعض الأحيان ، هو خير لهم .

وقرأ حمزة " ولا تحسبن الذين كفروا " . فيكون الخطاب بالنهى متجها إلى النبى صلى الله عليه وسلم ويكون المفعول الأول لحسب هو { الذين كَفَرُواْ } وقوله : { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } بدل من الذين كفروا ساداً مسد المفعول الثانى ، أو يكون هو المفعول الثانى .

والمعنى : لا تحسبن يا محمد ولا يحسبن أحد من أمتك أن إملاءنا للذين كفروا هو خير لأنفسهم ، بل هو شر لهم ، لأننا ما أعطيناهم الكثير من وسائل العيش الرغيد إلا على سبيل الاستدراج ، وسنعاقبهم على ما ارتكبوه من آثام عقابا عسيرا .

وقوله { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } استئناف واقع موقع التعليل للنهى عن حسبان الإملاء خيراً للكافرين .

أى إنما نزيدهم من وسائل العيش الرغيد ليزدادوا آثاما بكثرة ارتكابهم للسيئات . فتكون نتيجة ذلك أن نزيدهم من العذاب المهين الذى لا يستطيعون دفعه أو التهرب منه .

و " إنما " فى قوله { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } أداة حصر مركبة من " إن " التى هى حرف توكيد ومن " ما " الزائدة الكافة .

واللام فى قوله { ليزدادوا إِثْمَاً } هى التى تسمى بلام العاقبة كما فى قوله - تعالى - { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } أى : إنما نملى لهم فيزدادون إثما ، فلما كان ازدياد الإثم ناشئا عن الإملاء كان كالعلة له ، وكانت نتيجة هذا الإملاء أن وقعوا فى العذاب المهين .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } وقوله - تعالى - { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٞ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (178)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ أَنّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوَاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مّهِينٌ }

يعني بذلك تعالى ذكره : ولا يظنن الذين كفروا بالله ورسوله ، وما جاء به من عند الله ، أن إملاءنا لهم خير لأنفسهم . ويعني بالإملاء : الإطالة في العمر والإنساء في الأجل¹ ومنه قوله جل ثناؤه : { وَاهجُرْنِي مَلِيّا } : أي حينا طويلاً¹ ومنه قيل : عشت طويلاً وتمليت حينا والملا نفسه : الدهر ، والملوان : الليل والنهار ، ومنه قول تميم بن مقبل :

ألا يا دِيارَ الحَيّ بالسّبُعانِ *** أمَلّ عَلَيها بالبِلَى المَلَوَانِ

يعني بالملوان : الليل والنهار .

وقد اختلفت القراء في قراءة قوله : «وَلا تَحسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّمَا نُملِيَ لهُمْ خَيرٌ لأَنفُسِهِمْ » فقرأ ذلك جماعة منهم : { وَلا يَحسَبنّ } بالياء وفتح الألف من قوله { أنّمَا } على المعنى الذي وصفت من تأويله . وقرأه آخرون : «وَلا تَحسَبنّ » بالتاء و{ أنّمَا } أيضا بفتح الألف من «أنما » ، بمعنى : ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم .

فإن قال قائل : فما الذي من أجله فتحت الألف من قوله : { أنّمَا } في قراءة من قرأ بالتاء ، وقد علمت أن ذلك إذا قرىء بالتاء فقد أعلمت تحسبنّ في الذين كفروا ، وإذا أعملتها في ذلك لم يجز لها أن تقع على «أنما » لأن «أنّما » إنما يعمل فيها عامل يعمل في شيئين نصبا ؟ قيل : أما الصواب في العربية ووجه الكلام المعروف من كلام العرب كسر إن قرئت تحسبن بالتاء ، لأن تحسبن إذا إذا قرئت بالتاء ، فإنها قد نصبت الذين كفروا ، فلا يجوز أن تعمل وقد نصبت اسما في أن ، ولكنى أظن أن من قرأ ذلك بالتاء في تحسبن وفتح الألف من أنما ، إنما أراد تكرير تحسبن على أنما ، كأنه قصد إلى أن معنى الكلام : ولا تحسبن يا محمد أنت الذين كفروا ، لا تحسبن أنما نملي لهم خير لأنفسهم ، كما قال جل ثناؤه : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاّ السّاعَةَ أنْ تَأْتِيَهُمْ بَغتَةً } بتأويل : هل ينظرون إلا الساعة ، هل ينظرون إلا أن تأتيهم بغتة ؟ وذلك وإن كان وجها جائزا في العربية ، فوجه كلام العرب ما وصفنا قبل .

والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأ : { وَلا يَحسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا } بالياء من «يحسبن » ، وبفتح الألف من «أنما » ، على معنى الحسبان للذين كفروا دون غيرهم ، ثم يعمل في «أنما » نصبا¹ لأن «يحسبن » حينئذ لم يشغل بشيء عمل فيه ، وهي تطلب منصوبين . وإنما اخترنا ذلك لإجماع القراء على فتح الألف من «أنما » الأولى ، فدل ذلك على أن القراءة الصحيحة في «يحسبن » بالياء لما وصفنا¹ وأما ألف «إنما » الثانية فالكسر على الابتداء بالإجماع من القراء عليه .

وتأويل قوله : { إنّمَا نُملِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْما } : إنما نؤخر آجالهم فنطيلها ليزدادوا إثما ، يقول : يكتسبوا المعاصي فتزداد آثامهم وتكثر { ولَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } يقول : ولهؤلاء الذين كفروا بالله ورسوله في الاَخرة عقوبة لهم مهينة مذلة .

وبنحو ما قلنا في ذلك جاء الأثر .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، عن الأسود ، قال : قال عبد الله : ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها ، وقرأ : { وَلا يَحسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّمَا نُملِي لَهُمْ خَيرٌ لأَنْفُسِهِمْ إنّمَا نُملِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْما } وقرأ : { نُزُلاً مِنْ عِندِ الله وما عِندَ اللّهِ خَيرٌ للأبرَارِ } .