قوله تعالى : { تدمر كل شيء } مرت به من رجال عاد وأموالها ، { بأمر ربها } ، فأول ما عرفوا أنها عذاب رأوا ما كان خارجاً من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض ، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم ، فجاءت الريح فقلعت أبوابهم وصرعتم ، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال ، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام ، لهم أنين ، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال فاحتملتم فرمت بهم البحر .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الأسفرايني ، أنبأنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ ، أنبأنا يونس بن وهب ، أنبأنا عمرو بن الحارث ، أنبأنا النضر . حدثه عن سليمان بن يسار ، عن عائشة أنها قالت : " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه بياض لهواته ، وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه ، فقلت : يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا ، رجاء أن يكون فيه المطر ، وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهية ، فقال : يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ، قد عذب قوم بالريح ، وقد رأى قوم العذاب فقالوا : { هذا عارض ممطرنا } الآية . { فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } قرأ عاصم ، وحمزة ، ويعقوب : ( يرى ) بضم الياء مساكنهم برفع النون ، يعني : لا يرى شيء إلا مساكنهم ، وقرأ الآخرون : بالتاء وفتحها ، مساكنهم نصب يعني لا ترى أنت يا محمد إلا مساكنهم لأن السكان والأنعام بادت بالريح ، فلم يبق إلا هود ومن آمن معه . { كذلك نجزي القوم المجرمين }
ثم وصف - سبحانه - هذا الريح بصفة أخرى فقال : { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } . أى : هذه الريح التى أرسلها الله - تعالى - عليهم ، من صفاتها أنها تدمر وتهلك كل شئ مرت به يتعلق بهؤلاء الظالمين من نفس أو مال أو غيرهما . .
والتعبير بقوله : { بِأَمْرِ رَبِّهَا } لبيان أنها لم تأتهم من ذاتها ، وإنما أتتهم بأمر الله - تعالى - وبقضائه وبمشيئته .
والفاء فى قوله : { فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } فصيحة - أيضا - . أى : هذه الريح أرسلناها عليهم قدمرتهم ، فصار الناظر إليهم لا يرى شيئا من آثارهم سوى مساكنهم ، لتكون هذه المساكن عبرة لغيرهم .
قال الجمل : وقوله : { لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } قرأ حمزة وعاصم { لاَ يرى } بضم الياء على البناء للمفعول ، ومساكنهم بالرفع لقيامه مقام الفاعل . والباقون من السبعة بفتح تاء الخطاب - على البناء للفاعل - و { مَسَاكِنُهُمْ } بالنصب على أنه مفعول به . .
وقوله : { كَذَلِكَ نَجْزِي القوم المجرمين } أى : مثل ذلك الجزاء المهلك المدمر ، نجازى القوم الذين من دأبهم الإِجرام والطغيان .
وهكذا طوى - سبحانه - صفحة أولئك الظالمين من قوم هود - عليه السلام - وما ظلمهم - سبحانه - ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .
القول في تأويل قوله تعالى : { تُدَمّرُ كُلّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىَ إِلاّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } .
وقوله تُدَمّرُ كُلّ شَيء بأَمْرِ رَبّهَا : يقول تعالى ذكره : تخرّب كلّ شيء ، وترمي بعضه على بعض فتهلكه ، كما قال جرير :
وكانَ لَكُمْ كَبَكْرِ ثَمُودَ لَمّا *** رَغا ظُهْرا فَدَمّرَهُمْ دَمارا
يعني بقوله : دمرهم : ألقى بعضهم على بعض صَرْعى هَلكَى .
وإنما عنى بقوله : تُدّمّرُ كُلّ شيْءٍ بأمْرِ رَبها مما أرسلت بهلاكه ، لأنها لم تدمر هودا ومن كان آمن به .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا طلق ، عن زائدة ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما أرسل الله على عادٍ من الريح إلا قدر خاتمي هذا ، فنزع خاتمه .
وقوله : فَأصْبَحُوا لا يُرَى إلاّ مَساكِنُهُمْ يقول : فأصبح قوم هود وقد هلكوا وفنوا ، فلا يُرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم التي كانوا يسكنونها .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله فأصْبَحُوا لا يُرَى إلاّ مَساكِنُهُمْ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة «لا تُرَى إلاّ مَساكِنُهُمْ » بالتاء نصبا ، بمعنى : فأصبحوا لا ترى أنت يا محمد إلا مساكنهم وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة لا يُرَى إلاّ مَساكِنُهُمْ بالياء في يُرى ، ورفع المساكن ، بمعنى : ما وصفت قبل أنه لا يرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم . وروى الحسن البصري «لا تُرَى » بالتاء ، وبأيّ القراءتين اللتين ذكرت من قراءة أهل المدينة والكوفة قرأ ذلك القارىء فمصيب وهو القراءة برفع المساكن إذا قُرىء قوله يُرَى بالياء وضمها وبنصب المساكن إذا قُرىء قوله : «تَرَى » بالتاء وفتحها ، وأما التي حُكيت عن الحسن ، فهي قبيحة في العربية وإن كانت جائزة ، وإنما قبحت لأن العرب تذكّر الأفعال التي قبل إلا ، وإن كانت الأسماء التي بعدها أسماء إناث ، فتقول : ما قام إلا أختك ، ما جاءني إلا جاريتك ، ولا يكادون يقولون : ما جاءتني إلا جاريتك ، وذلك أن المحذوف قبل إلا أحد ، أو شيء واحد ، وشيء يذكر فعلهما العرب ، وإن عنى بهما المؤنث ، فتقول : إن جاءك منهنّ أحد فأكرمه ، ولا يقولون : إن جاءتك ، وكان الفرّاء يجيزها على الاستكراه ، ويذكر أن المفضل أنشده :
وَنارُنا لَمْ تُرَ نارا مِثْلُها *** قَدْ عَلِمَتْ ذاكَ مَعَدّ أكْرَمَا
فأنث فعل مثل لأنه للنار ، قال : وأجود الكلام أن تقول : ما رؤي مثلها .
وقوله : وكَذَلكَ نَجْزِي القَوْمَ المجرِمينَ يقول تعالى ذكره : كما جزينا عادا بكفرهم بالله من العقاب في عاجل الدنيا ، فأهلكناهم بعذابنا ، كذلك نجزي القوم الكافرين بالله من خلقنا ، إذ تمادوا في غيهم وطَغَوا على ربهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.