اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيۡءِۭ بِأَمۡرِ رَبِّهَا فَأَصۡبَحُواْ لَا يُرَىٰٓ إِلَّا مَسَٰكِنُهُمۡۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (25)

ثم وصف تلك الريح فقال : { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي تهلك كل شيء من الحيوان والناس بأمر ربها . ومعناه أن هذا ليس من باب تأثيراتٍ الكواكب والقِرانَات بل هو أمر حدث ابتداءً بقدرة الله تعالى لأجل تَعْذِيبكم{[51032]} .

قوله : { بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ } قرئ : «ما اسْتُعْجلْتُمْ » مبنياً للمفعول{[51033]} . وقوله : «ريحٌ » يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هُوَ رِيحٌ ، ويجوز أن يكون بدلاً من «هِيَ »{[51034]} و«فِيهَا عَذَابٌ » صفة ل «رِيحٍ » وكذلك «تُدَمّر »{[51035]} .

وقرئ : يَدْمُر كل شيء ، بالياء من تحت مفتوحة ، وسكون الدال ، وضمّ الميم بالرفع على الفاعلية ، أي تهلك كل شيء{[51036]} .

وزيد بن علي كذلك إلا أنه بالتاء من فوق ونصب كل{[51037]} والفاعل ضمير الريح ؛ وعلى هذا فيكون ( دَمَرَ ) الثلاثي لازماً ومتعدياً{[51038]} .

قوله : { فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } قرأ حمزة وعاصم لا يُرَى بضم الياء من تحت مبْنيًّا للمفعول «مَسَاكِنُهُمْ » بالرفع لقيامه مقام الفاعل ، والباقون من السبعة{[51039]} بفتح تاء الخطاب مَسَاكِنَهُمْ بالنَّصب مفعولاً به . والجَحْدَرِيُّ والأعمشُ وابنُ أبي إسحاق والسُّلَمِيّ وأبو رجاء بضم التاء من فوق{[51040]} مبنياً للمفعول مَسَاكِنُهُمْ بالرفع لقيامه مقام الفاعل ، إلا أن هذا عند الجمهور لا يجوز ، أعني إذا كان الفاصل «إلا » فإنه يمتنع لحاق علامة التأنيث ( في الفعل ){[51041]} إلاَّ في ضرورة{[51042]} كقوله ( رَحِمَهُ اللهُ ) :

4457 كَأَنَّهُ جَمَلٌ وَهُمٌ وَمَا بَقِيَتْ *** إلاَّ النُّحَيْزَةُ وَالأَلْوَاحُ والْعُصُبُ{[51043]}

وعيسى الهمداني : لا يُرَى بالياء من تحت مبنياً للمفعول مَسْكَنُهُمْ بالتوحيد{[51044]} .

ونصرُ بنُ عاصم بتاء الخطاب مَسْكَنَهُمْ{[51045]} بالتوحيد أيضاً منصوباً . واجتزئ بالوَاحِدِ عَن الْجَمْعِ .

فصل

روي أن الريح كانت تحمل الفُسْطَاطَ فَترْفَعُهَا في الجوِّ ، وتحمل الظَّعِينَةَ حتى تُرَى كأنها جَرادَةٌ{[51046]} وقيل : إن أوّل من أبصر العذاب امرأة بينهم قالت : ( رَأَيْتُ ){[51047]} ريحاً فيها كشُهب النار .

وروي أن أول ما عرفوا به أنه عذاب أليم أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رجالهم{[51048]} ومواشيهم تطير بهم الريح بين السماء والأرض ، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فقلعت{[51049]} الريح الأبواب ، وصَرَعَتْهُمْ وأمال الله تعالى عليهم الأَحْقَافَ فكانوا تحتها سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيَّام ، لَهُمْ أنينٌ ، ثم أمر الله الريح فكشف عنه الرِّمال واحتملهم ، فرَمَتْ بهم في البحر . وروي أن هوداً لما أحسَّ بالريح خط على نفسه على المؤمنين خطًّا إلى جنب عين تنبعُ ، وكانت الريح التي تصيبيهم ريحاً طَيِّبةً هادية ، والريح التي تُصيبُ قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطير بهم{[51050]} إلى السماء ، وتضربهم على الأرض ، وأثر المعجزةِ إنما ظهر في تلك الريح من هذا الوجه . قال عليه الصلاة والسلام ، «مَا أَمَرَ اللهُ خَازِنَ الرِّيَاحِ أنْ يُرْسِلَ عَلَى عَادٍ إلاَّ مِثْلَ مِقْدَارِ الخَاتَم » وذَلِكَ القَدْرُ أهْلَكَهُمْ بكُلِّيَّتِهِمْ وذلك إظهارُ قدرة الله تعالى . «وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رأى الريح فزع وقال : «اللَّهم إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّها وشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ به » قال تعالى : { كَذَلِكَ نَجْزِي القوم المجرمين } والمقصود به تخويف كفار مكة فإن قيل : لما قال ( تعالى ){[51051]} : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] فكيف يحصل التخويف ؟

فالجواب : أن ذلك قبل نزول الآية{[51052]} .


[51032]:الرازي 28/28.
[51033]:شاذة ذكرها بدون نسبة أبو حيان في البحر 8/64.
[51034]:في التبيان: من "ما".
[51035]:التبيان 1157.
[51036]:ذكرها أبو حيان في مرجعه السابق دون نسبة أيضا وهي شاذة كما ذكرها الزمخشري في الكشاف 3/524.
[51037]:البحر المحيط 8/64 وهي قراءة شاذة كسابقتها.
[51038]:وحكمنا على هذا التعدي واللزوم من اختلاف القراءات تلك.
[51039]:وهم ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو والكسائي وهي متواترة انظر السبعة 598 والإتحاف 393 والكشف لمكي 2/274.
[51040]:وهي شاذة ذكرها أبو الفتح بن جني في المحتسب 2/265 وانظر البحر 8/65 والكشاف 3/524.
[51041]:ما بين الأقواس ساقط من نسخة ب.
[51042]:قال أبو الفتح: "أما "ترى" بالتاء ورفع المساكن فضعيف في العربية والشعر أولى بجوازه من القرآن وذلك أنه من مواضع العموم في التذكير فكأنه في المعنى لا يرى شيء إلا مساكنهم وإذا كان المعنى هذا كان التذكير لإرادته هو الكلام". المحتسب 2/266.
[51043]:كذا رواه المؤلف تبعا للبحر المحيط لأبي حيان وفي اللسان: كأنها ـ أي الناقة ـ وهو من البسيط والوهم: أراد به الضخم. والجمل والجمل حبل السفينة. والنحيزة من نحز البعير إذا أصابه النحاز وهو داء يصيب الإبل، ولوح الجسد عظمة يصفها صارت من الهزال بمنزلة الحبل فما بقي فيها شيء سوى النفس والعظم والعصب. والشاهد: تأنيث الفعل في "بقيت" رغم الفصل بإلا وتلك ضرورة شعرية وانظر البحر 8/65 واللسان "وهم" 4934 ومجمع البيان للطبرسي 9/135 والديوان 2/43 تحقيق د. عبد القدوس أبو صالح ط مؤسسة الإيمان بيروت الطبعة الأولى.
[51044]:قراءة شاذة ذكرها أبو حيان في البحر 8/65.
[51045]:المحتسب 2/265 والبحر المرجع السابق.
[51046]:الكشاف 3/524.
[51047]:سقط من ب.
[51048]:في ب رحالهم بالحاء.
[51049]:في ب فقفلت وفي الرازي: فعلقت وكلها معان متقاربة وممكنة.
[51050]:في ب والرازي: نظيرهم.
[51051]:زيادة من أ.
[51052]:انظر الرازي 28/28 و29.