تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيۡءِۭ بِأَمۡرِ رَبِّهَا فَأَصۡبَحُواْ لَا يُرَىٰٓ إِلَّا مَسَٰكِنُهُمۡۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (25)

الآية 25 ثم وصف ذلك الريح ، فقال : كما أخبر الله تعالى بقوله عز وجل : { تُدمِّر كل شيء بأمر ربها } يخرّج قوله : { تُدمِّر كل شيء بأمر ربها } على وجهين :

أحدهما : { تدمّر كل شيء } أُرسلَت ، وأُمرَت بتدميره ، لا تُجاوز أمر ربها ، ولا تدمّر ما لم تُرسَل ، وتُؤمَر بتدميره كقوله تعالى : { وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } { وما تذر من شيء أنت عليه إلا جعلته كالرميم } [ الذاريات : 41 و42 ] . هذه الآية تُفسّر قوله : { تدمّر كل شيء } أتت عليه ، وأُمرت بتدميره . فأما ما لم [ تؤمر ]{[19346]} بالتدمير فلا على ما ذكر في تلك الآية ، والله أعلم .

والثاني : { تُدمِّر كل شيء } عند من عايَنها ، وتأمّلها ، عنده أنها تدمّر كل شيء ، لا تُبقي شيئا على وجه الأرض لشدتها وقوّتها ، لكنها لا تُجاوز أمر ربها . ألا ترى أنها لا تُدمّر هودا وأتباعه ، وهم فيهم ، وبقرب منه ؟ وهو قوله تعالى : { ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميّت } [ إبراهيم : 17 ] أي تأتيه أسباب الموت ، وما به يموت لو كان فيه أمر الموت .

فعلى ذلك قوله تعالى : { تُدمّر كل شيء } أي تدمّر كل شيء عند من عاينها ، ونظر في أحوالها وأهوالها أن لو كان لها أمر بذلك ، لكنها لم تجاوز أمر ربها . ألا ترى أنه قال في آية أخرى : { فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم } ؟ في ظاهر هذه الآية أنها قد أبقت مساكنهم ، ولم تُدمّرها ، وكذلك قال في آية أخرى : { تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل مُنْقَعِر } [ القمر : 20 ] .

قال بعضهم : إنهم لمّا التجؤوا إلى مساكنهم ، وهربوا منها ، كانت تدخل الريح مساكنهم ، وتُخرِجهم منها ، فتلقيهم في صحاريهم وأفنيتهم موتى .

وقال بعضهم : تنزع مفاصلهم ، وتقطعها ، ثم تُلقيهم في أفنيتهم على ما وصف ، وشبّههم بأعجاز نخل مُنقعِر . فالريح التي تعمل في إخراج أهلها من مساكنهم وإلقائهم في الفيافي ؛ لأن تعمل في هدم المساكن والمنازل أولى ، ومع ذلك وكذلك إذا عملت في نزع المفاصل أو قطعها ؛ ففي نقض البنيان والمساكن أولى . ومع ذلك لم تعمل في هدم مساكنهم . فدل ما ذكرنا أنها لم تجاوز أمر ربها في الإهلاك ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم } الآية : يحتمل لا تُرى إلا مساكنهم ، إلا آثار مساكنهم .

فعلى أحد التأويلين تركت لهم المساكن ، لم تهلكها . وعلى التأويل الآخر تركت آثار مساكنهم ، فأما نفس مساكنهم فقد أهلكتها .

وهذان التأويلان خرجا على ما ذكرنا من التأويلين في قوله تعالى : { تُدمِّر كل شيء بأمر ربها } فالأول على التأويل الأول في قوله : { تدمّر كل شيء } أُرسلت ، وأُمرَت بتدميره ، ولم تُؤمر بتدمير مساكنهم ، فبقِيت .

والتأويل الثاني على التأويل الثاني في قوله : { تدمّر كل شيء } عند من عاينها ، ونظر إليها ، لشدتها وقوتها فتدمّر مساكنهم أيضا ، فلا تُرى إلا آثارها .

لكن سمّاها مساكن باسم ما قد كان ، وإنه أمر مستعمل في عُرف لسان اللغة ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { كذلك نجزي القوم المجرمين } كأن المجرم هو الذي يُديم اكتساب الجرم والإثم ، وقال بعضهم : هو الوثّاب في الجُرم ، والله أعلم .


[19346]:من م، ساقطة من الأصل.