السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيۡءِۭ بِأَمۡرِ رَبِّهَا فَأَصۡبَحُواْ لَا يُرَىٰٓ إِلَّا مَسَٰكِنُهُمۡۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (25)

ثم وصف تلك الريح . بقوله تعالى : { تدمر } أي : تهلك إهلاكاً عظيماً شديداً . { كل شيء } أي : أتت عليه من الحيوان والناس وغيرهما ، هذا شأنها فمن سلم منها كهود عليه السلام ومن آمن به ، فسلامته أمر خارق للعادة . كما أنّ أمرها في إهلاك كل ما مرّت عليه أمر خارق للعادة . { بأمر ربها } أي : المبدع لها والمربي والمحسن بالانتقام من أعدائه .

فإن قيل : ما فائدة إضافة الرب إلى الريح أجيب : بأنّ فائدة ذلك : الدلالة على أنّ الريح وتصريف أعنتها ، مما يشهد بعظيم قدرته لأنها من أعاجيب خلقه ، وأكابر جنوده . وذكر الأمر وكونها مأمورة من جهته عز وعلا يعضد ذلك ويقويه فليس من تأثير الكواكب والقرانات .

قيل : إنّ أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم ، قالت : رأيت ريحاً فيها كشهب النار . وروي : أنّ أوّل ما عرفوا به أنه عذاب أليم : أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم ، وغلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم ، وأمال الله عليهم الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام ، لهم أنين ثم أمر الله تعالى الريح ، فكشفت عنهم الرمال ، وحملتهم ، فرمت بهم في البحر .

وروي : أن هوداً عليه السلام لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطاً إلى جنب عين تنبع وكانت الريح التي تصيبهم ريحاً طيبة هادئة ، والريح التي تصيب قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء وتضربهم على الأرض .

وعن ابن عباس اعتزل هود ومن معه في حظيرة ، ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين على الجلود وتلذه الأنفس . وإنها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء والأرض ، وتدمغهم بالحجارة . وأثر المعجزة إنما ظهر في تلك الريح من هذا الوجه «قال صلى الله عليه وسلم ما أمر الله تعالى خازن الريح أن يرسل على عاد إلا مقدار الخاتم وذلك القدر أهلكهم بكليتهم » كما قال تعالى : { فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم } أي : فجاءتهم الريح فدمّرتهم ، فأصبحوا بحيث لو خضت بلادهم لا ترى إلا مساكنهم . وقرأ عاصم وحمزة : بالياء التحتية المضمومة ورفع النون من مساكنهم ، لقيامه مقام الفاعل . والباقون : بالتاء الفوقية مفتوحة مبنياً للفاعل ، ونصب مساكنهم مفعولاً به . وأمال الألف بعد الراء ورش بين بين ، وأبو عمرو وحمزة والكسائي محضة . وكذلك من { القرى } { كذلك } أي : مثل هذا الجزاء الهائل ؛ في أصله ، أو جنسه ، أو نوعه ، أو شخصه من الإهلاك . { نجزي } بعظمتنا دائماً إذا شئنا { القوم المجرمين } أي : العريقين في الإجرام الذين يقطعون ما حقه الوصل وذلك الجزاء هو الإهلاك على هذا الوجه الشنيع «وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الريح فزع وقال : «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما أرسلت به ، وإذا رأى مخيلة أي : سحابة . قام وقعد ، وجاء وذهب ، وتغير لونه ، فنقول له : يا رسول الله ما تخاف ؟ فيقول : إني أخاف أن يكون مثل قوم عاد حيث قالوا : هذا عارض ممطرنا فاحذروا أيها العرب مثل ذلك إن لم ترجعوا » فإن قيل قال تعالى : { وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم } ( الأنفال : 33 ) فكيف يحصل التخويف أجيب بأنّ ذلك كان قبل نزول الآية .