قوله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } نصب على الإغراء ، أي : فاضربوا رقابهم يعني أعناقهم . { حتى إذا أثخنتموهم } بالغتم في القتل وقهرتموهم ، { فشدوا الوثاق } يعني في الأسر حتى لا يفلتوا منكم ، والأسر يكون بعد المبالغة في القتل ، كما قال : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } ( الأنفال-67 ) ، { فإما مناً بعد وإما فداءً } يعني : بعد أن تأسروهم فإما أن تمنوا عليهم مناً بإطلاقهم من غير عوض ، وإما أن تفادوهم فداء . واختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال قوم : هي منسوخة بقوله : { فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم }( الأنفال-57 ) ، وبقوله : { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ( التوبة-5 ) وإلى هذا القول ذهب قتادة والضحاك والسدي وابن جريج ، وهو قول الأوزاعي وأصحاب الرأي ، قالوا : لا يجوز المن على من وقع في الأسر من الكفار ولا الفداء . وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة ، والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا وقعوا في الأسر بين أن يقتلهم أو يسترقهم أو يمن عليهم ، فيطلقهم بلا عوض أو يفاديهم بالمال ، أو بأسارى المسلمين ، وإليه ذهب ابن عمر ، وبه قال الحسن ، وعطاء ، وأكثر الصحابة والعلماء ، وهو قول الثوري والشافعي ، وأحمد وإسحاق . قال ابن عباس : لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله عز وجل في الأسارى : { فإما مناً بعد وإما فداء } وهذا هو الأصح والاختيار ، لأنه عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سعيد بن أبي سعيد سمع أبا هريرة قال : " بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له : ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة ، فربطوه بسارية من سواري المسجد ، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ماذا عندك يا ثمامة ؟ فقال : عندي يا محمد خير إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت ، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان الغد ، فقال له : ما عندك يا ثمامة ؟ فقال : ما عندي إلا ما قلت لك : إن تنعم تنعم على شاكر ، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد ، فقال له : ما عندك يا ثمامة ؟ فقال : عندي ما قلت لك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أطلقوا ثمامة ، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ، ثم دخل المسجد ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي ، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك ، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي ، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ، فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر ، فلما قدم مكة قال له قائل : أصبوت ؟ فقال : لا ، ولكن أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، عن أيوب ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين قال : " أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عقيل فأوثقوه ، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ففداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف " . قوله تعالى : { حتى تضع الحرب أوزارها } أي : أثقالها وأحمالها ، يعني حتى يضع أهل الحرب السلاح ، فيمسكوا عن الحرب . وأصل الوزر : ما يحمله الإنسان ، فسمى الأسلحة أوزاراً لأنها تحمل . وقيل : الحرب هم المحاربون ، كالشرب والركب . وقيل : الأوزار الآثام ، ومعناه حتى يضع المحاربون آثامها ، بأن يتوبوا من كفرهم فيؤمنوا بالله ورسوله . وقيل : حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا ، ومعنى الآية : أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يدخل أهل الملل كلها في الإسلام ، ويكون الدين كله لله فلا يكون بعده جهاد ولا قتال ، وذلك عند نزول عيسى بن مريم عليهما السلام ، وجاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال " . وقال الكلبي : حتى يسلموا أو يسالموا . وقال الفراء : حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم . { ذلك } الذي ذكرت وبينت من حكم الكفار ، { ولو يشاء الله لانتصر منهم } فأهلكهم كفاكم أمرهم بغير قتال ، { ولكن } أمركم بالقتال ، { ليبلو بعضكم ببعض } فيصير من قتل من المؤمنين إلى الثواب ومن قتل من الكفار إلى العذاب ، { والذين قتلوا في سبيل الله } قرأ أهل البصرة وحفص : ( قتلوا ) بضم القاف وكسر التاء خفيف ، يعني الشهداء ، وقرأ الآخرون : ( قاتلوا ) بالألف من المقاتلة ، وهم المجاهدون ، { فلن يضل أعمالهم } قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد ، وقد فشت في المسلمين الجراحات والقتل .
ثم أرشد الله - تعالى - : المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله عند لقائهم لأعدائهم ، وبعد انتصارهم عليهم ، كما بين لهم الحكمة مشروعية القتال . والجزاء الحسن الذى أعده للمجاهدين ، فقال - تعالى - : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين . . . عَرَّفَهَا لَهُمْ } .
والفاء فى قوله - تعالى - : { فَإِذَا لَقِيتُمُ } لترتيب ما بعدها من إرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله عند قتل أعدائهم ، على ما قبلها وهو بيان حال الكفار .
فالمراد باللقاء هنا : القتال لا مجرد اللقاء والرؤية . كما أن المراد بالذين كفروا هنا المشركون وكل من كان على شاكلتهم ممن ليس بيننا وبينهم عهد بل بيننا وبينهم حرب وقتال .
وقوله - سبحانه - : { فَضَرْبَ الرقاب } أمر للمؤمنين بما يجب فعله عند لقائهم لأعدائهم . وقوله : { فَضَرْبَ } منصوب على أنه مصدر لفعل محذوف . أى : فإذا كان حال الذين كفروا كما ذكرت لكم من إحباط أعمالهم بسبب اتباعهم الباطل وإعراضهم عن الحق ، فإذا لقيتموهم للقتال ، فلا تأخذكم بهم رأفة ، بل اضربوا رقابهم ضربا شديدا .
والتعبير عن القتل بقوله : { فَضَرْبَ الرقاب } ، لتصويره فى أفظع صوره . ولتهويل أمر القتال ، ولإِرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله .
قال صاحب الكشاف : قوله : { لَقِيتُمُ } من اللقاء وهو الحرب { فَضَرْبَ الرقاب } أصله : فاضرب الرقاب ضربا ، فحذف الفعل وقدم المصدر ، فأنيب منابه مضافا إلى المفعول ، وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد ، لأنك تذكر المصدر ، وتدل على الفعل بالنصبة التى فيه .
وضرب الرقاب : عبارة عن القتل . . وذلك أن قتل الإِنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته ، فوقع عبارة عن القتل ، وإن ضرب بغير رقبته من المقاتل .
على أن فى هذه العبارة من الغلظة والشدة ، ما ليس سفى لفظ القتل ، لما فيها من تصوير القتل بأشنع صورة ، وهو حز العنق ، وإطارة العضو الذى هو رأس البدن .
وقوله - سبحانه - : { حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق } بيان لما يكون من المؤمنين بعد مثل حركة أعدائهم ، وإنزال الهزيمة بهم .
وقوله : { أَثْخَنتُمُوهُمْ } من الإِثخان بمعنى كثرة الجراح ، مأخوذ من الشئ الثخين ، أى : الغليظ ، يقال : أثخن الجيش فى عدوه ، إذا بالغ فى إنزاله الجراحة الشديدة به ، حتى أضعفه وأزال قوته .
والوثاق - بفتح الواو وكسرها - اسم الشئ الى يوثق به الأسير كالرباط أى : عند لقائكم - أيها المؤمنون - لأعدائكم ، فاضربوا أعناقكم ، فإذا ما تغلتم عليهم وقهرتموهم ، وأنزلتم بهم الجراح التى تجعلهم عاجزين عن مقاومتكم ، فأحكموا قيد من أسرتموه منهم ، حتى لا يستطيع التفلت أو الهرب منكم .
وقوله - سبحانه - { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } إرشاد لما يفعلونه بعد ذلك .
والمن : الإِطلاق بغير عوض ، يقال : مَّن فلان على فلان إذا أنعم عليه بدون مقابل .
والفداء : ما يقدمه الأسير من أموال أو غيرها لكى يفتدى بها نفسه من الأسر .
وقوله : { مَنًّا } و { فِدَآءً } منصوبان على المصدرية بفعل محذوف : أى : فإما تمنون عليهم بعد السر منا بأن تطلقوا سراحهم بدون مقابل ، وإما أن تفدوا فداء بأن تأخذوا منهم فدية فى مقابل إطلاق سراحهم .
وقوله - سبحانه - { حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } غاية لهذه الأوامر والإِرشادات .
وأوزار الحرب : آلاتها وأثقالها الى لا تقوم إلا بها ، كالسلاح وما يشبه .
وأعددتَ للحرب أوزارها . . . رماحا طوالاً وخيلا ذكورا
أى : افعلوا بهم ما أمرناكم بفعله ، واستمروا على ذلك حتى تنتهى الحرب التى بينكم وبين أعدئاكم بهزيمتهم وانتصارهم عليهم .
وسميت آلات الحرب وأحمالها بالأوزار ، لأن الحرب لما كانت لا تقوم إلا بها ، فكأنها تحملها وتستقل بها ، فإذا انقضت الحرب فكأنها وضعت أحمالها وانفصلت عنها .
ثم بين - سبحانه - الحكمة من مشروعية قتال الأعداء ، مع أنه - سبحانه - قادر على إهلاك هؤلاء الأعداء ، فقال : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } .
واسم الإِشارة : خبر لمبتدأ محذوف ، أى : الأمر ذلك ، أو فى محل نصب على المفعولية بفعل محذوف ، أى : افعلوا ذلك الذى أمرناكم به وأرشدناكم إليه واعلموا أنه - سبحانه - لو يشاء الانتصار من هؤلاء الكافرين والانتقام منهم لفعل ، أى : لو يشاء إهلاكهم لأهلكم ، ولكنه - سبحانه - لم يفعل ذلك بل أمركم بمحاربتهم ليختبر بعضكم ببعض ، فيتميز عن طريق هذا الاختبار والامتحان ، قوى الإِيمان من ضعيفه . كما قال - تعالى - : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما أعده للمجاهدين من ثواب عظيم فقال : { والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله } أى : والذين استشهدوا وهم يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله .
{ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } أى : فلن يضيع أعمالهم ولن يبطلها .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرّقَابِ حَتّىَ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدّواْ الْوَثَاقَ فَإِمّا مَنّا بَعْدُ وَإِمّا فِدَآءً حَتّىَ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلََكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَن يُضِلّ أَعْمَالَهُمْ } .
يقول تعالى ذكره لفريق الإيمان به وبرسوله : فَإذَا لَقِيُتمُ الّذِينَ كَفَرُوا بالله ورسوله من أهل الحرب ، فاضربوا رقابهم .
وقوله : حتى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدّوا الوَثاقَ يقول : حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم ، فصاروا في أيديكم أسرى فَشُدّوا الوَثاقَ يقول : فشدّوهم في الوثاق كيلا يقتلوكم ، فيهربوا منكم .
وقوله : فإمّا مَنّا بَعْدُ وإمّا فِدَاءً يقول : فإذا أسرتموهم بعد الإثخان ، فإما أن تمنوا عليهم بعد ذلك بإطلاقكم إياهم من الأسر ، وتحرروهم بغير عوض ولا فدية ، وإما أن يفادوكم فداء بأن يعطوكم من أنفسهم عوضا حتى تطلقوهم ، وتخلوا لهم السبيل .
واختلف أهل العلم في قوله : حتى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدّوا الوَثاقَ ، فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً فقال بعضهم : هو منسوخ نسخه قوله : فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم وقوله فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ في الحَرْب فَشَرّدْ بِهِمْ مِنْ خَلْفِهُمْ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد وابن عيسى الدامغانيّ ، قالا : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جُرَيج أنه كان يقول ، في قوله : فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً نسخها قوله : فاقْتُلوا المشْرِكِينَ حَيْثُ وَجدْتُموهُمْ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن السديّ فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً قال : نسخها فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً نسخها قوله : فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإذَا لَقِيُتمُ الّذينَ كَفَرُوا إلى قوله : وَإمّا فِدَاءً كان المسلمون إذا لقوا المشركين قاتلوهم ، فإذا أسروا منهم أسيرا ، فليس لهم إلا أن يُفادوه ، أو يمنوا عليه ، ثم يرسلوه ، فنسخ ذلك بعد قوله : فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ : أي عظ بهم من سواهم من الناس لعلهم يذّكرون .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، قال : كتب إلى أبي بكر رضي الله عنه في أسير أُسر ، فذكر أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا ، فقال أبو بكر : اقتلوه ، لقتلُ رجل من المشركين ، أحبّ إليّ من كذا وكذا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فإذَا لَقِيُتمُ الّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرّقابِ . . . إلى آخر الآية ، قال : الفداء منسوخ ، نسختها : فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ . . . إلى كُلّ مَرْصَدٍ قال : فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا حرمة بعد براءة ، وانسلاخ الأشهر الحَرم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً هذا منسوخ ، نسخه قوله : فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة بعد براءة .
وقال آخرون : هي محكمة وليست بمنسوخة ، وقالوا : لا يجوز قتل الأسير ، وإنما يجوز المنّ عليه والفداء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو عتاب سهل بن حماد ، قال : حدثنا خالد بن جعفر ، عن الحسن ، قال : أتى الحجاج بأسارى ، فدفع إلى ابن عمر رجلاً يقتله ، فقال ابن عمر : ليس بهذا أُمرنا ، قال الله عزّ وجلّ حتى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدّوا الوَثاقَ ، فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً قال : البكا بين يديه فقال الحسن : لو كان هذا وأصحابه لابتدروا إليهم .
حدثنا ابن حميد وابن عيسى الدامغانيّ ، قالا : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء أنه كان يكره قتل المشرك صبرا ، قال : ويتلو هذه الآية فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، قال : لا تقتل الأُسارى إلا في الحرب يهيب بهم العدوّ .
قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : كان عمر بن عبد العزيز يفديهم الرجل بالرجل ، وكان الحسن يكره أن يفادي بالمال .
قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن رجل من أهل الشأم ممن كان يحرس عمر بن عبد العزيز ، وهو من بني أسد ، قال : ما رأيت عمر رحمه الله قتل أسيرا إلا واحدا من الترك كان جيء بأسارى من الترك ، فأمر بهم أن يُسترقوا ، فقال رجل ممن جاء بهم : يا أمير المؤمنين ، لو كنت رأيت هذا لأحدهم وهو يقتل المسلمين لكثر بكاؤك عليهم ، فقال عمر : فدونك فاقتله ، فقام إليه فقتله .
والصواب من القول عندنا في ذلك أن هذه الآية محكمة غير منسوخة ، وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ ما قد بيّنا في غير موضع في كتابنا إنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة ، أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الاَخر ، وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المنّ والفداء والقتل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإلى القائمين بعده بأمر الأمة ، وإن لم يكن القتل مذكورا في هذه الآية ، لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى ، وذلك قوله : فَاقْتُلُوا المُشْركِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ . . . . الآية ، بل ذلك كذلك ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرا في يده من أهل الحرب ، فيقتل بعضا ، ويفادي ببعض ، ويمنّ على بعض ، مثل يوم بدر قتل عقبة بن أبي مُعَيْط وقد أُتي به أسيرا ، وقتل بني قُرَيظة ، وقد نزلوا على حكم سعد ، وصاروا في يده سلِما ، وهو على فدائهم ، والمنّ عليهم قادر ، وفادى بجماعة أسارى المشركين الذين أُسروا ببدر ، ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفيّ ، وهو أسير في يده ، ولم يزل ذلك ثابتا من سيره في أهل الحرب من لدن أذن الله له بحربهم ، إلى أن قبضه إليه صلى الله عليه وسلم دائما ذلك فيهم ، وإنما ذكر جلّ ثناؤه في هذه الآية المنّ والفداء في الأسارى ، فخصّ ذكرهما فيها ، لأن الأمر بقتلهما والإذن منه بذلك قد كان تقدم في سائر آي تنزيله مكرّرا ، فأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بما ذكر في هذه الآية من المنّ والفداء ماله فيهم مع القتل .
وقوله : حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها يقول تعالى ذكره : فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا رقابهم ، وافعلوا بأسراهم ما بيّنت لكم ، حتى تضع الحرب آثامها وأثقال أهلها ، المشركين بالله بأن يتوبوا إلى الله من شركهم ، فيؤمنوا به وبرسوله ، ويطيعوه في أمره ونهيه ، فذلك وضع الحرب أوزارها ، وقيل : حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها والمعنى : حتى تلقي الحرب أوزار أهلها . وقيل : معنى ذلك : حتى يضع المحارب أوزاره . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى : وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : حتى تَضَعَ الحَرْبُ أوْزَارَها قال : حتى يخرج عيسى ابن مريم ، فيسلم كلّ يهوديّ ونصرانيّ وصاحب ملة ، وتأمن الشاة من الذئب ، ولا تقرض فأرة جِرابا ، وتذهب العداوة من الأشياء كلها ، ذلك ظهور الإسلام على الدين كله ، وينعم الرجل المسلم حتى تقطر رجله دما إذا وضعها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها حتى لا يكون شرك .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها قال : حتى لا يكون شرك .
ذكر من قال : عُنِي بالحرب في هذا الموضع : المحاربون .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور عن معمر ، عن قتادة حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها قال الحرب : من كان يقاتلهم سماهم حربا .
وقوله : ذلكَ وَلَوْ يَشاءُ اللّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ يقول تعالى ذكره : هذا الذي أمرتكم به أيها المؤمنون من قتل المشركين إذا لقيتموهم في حرب ، وشدّهم وثاقا بعد قهرهم ، وأسرهم ، والمنّ والفداء حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها هو الحقّ الذي ألزمكم ربكم ولو يشاء ربكم ، ويريد لانتصر من هؤلاء المشركين الذين بين هذا الحكم فيهم بعقوبة منه لهم عاجلة ، وكفاكم ذلك كله ، ولكنه تعالى ذكره كره الانتصار منهم ، وعقوبتهم عاجلاً إلا بأيديكم أيها المؤمنون لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ يقول : ليختبركم بهم ، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين ، ويبلوهم بكم ، فيعاقب بأيديكم من شاء منهم ، ويتعظ من شاء منهم بمن أهلك بأيديكم من شاء منهم حتى ينيب إلى الحقّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلَوْ يَشاءُ اللّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ إي والله بجنوده الكثيرة كلّ خلقه له جند ، ولو سلط أضعف خلقه لكان جندا .
وقوله : «وَالّذِينَ قاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ » اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والكوفة «وَالّذِينَ قاتَلُوا » بمعنى : حاربوا المشركين ، وجاهدوهم ، بالألف وكان الحسن البصري فيما ذُكر عنه يقرأه قُتّلُوا بضم القاف وتشديد التاء ، بمعنى : أنه قتلهم المشركون بعضهم بعد بعض ، غير أنه لم يسمّ الفاعلون . وذُكر عن الجحدريّ عاصم أنه كان يقرأه «وَالّذِينَ قَتَلُوا » بفتح القاف وتخفيف التاء ، بمعنى : والذين قتلوا المشركون بالله . وكان أبو عمرو يقرأه قُتِلُوا بضم القاف وتخفيف التاء بمعنى : والذين قتلهم المشركون ، ثم أسقط الفاعلين ، فجعلهم لم يسمّ فاعل ذلك بهم .
وأولى القراءات بالصواب قراءة من قرأه «وَالّذِينَ قاتَلُوا » لاتفاق الحجة من القرّاء ، وإن كان لجميعها وجوه مفهومة .
وإذ كان ذلك أولى القراءات عندنا بالصواب ، فتأويل الكلام : والذين قاتلوا منكم أيها المؤمنون أعداء الله من الكفار في دين الله ، وفي نصرة ما بعث به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ، فجاهدوهم في ذلك فَلَنْ يُضِلّ أعمالَهُمْ فلن يجعل الله أعمالهم التي عملوها في الدنيا ضلالاً عليهم كما أضلّ أعمال الكافرين . وذُكر أن هذه الآية عُنِي بها أهل أُحد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَالّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلّ أعمالَهُمْ ذُكر لنا أن هذه الآية أُنزلت يوم أُحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشّعْب ، وقد فَشَت فيهم الجراحات والقتل ، وقد نادى المشركون يومئذٍ : أُعْلُ هُبَلْ ، فنادى المسلمون : الله أعلى وأجلّ ، فنادى المشركون : يوم بيوم ، إن الحرب سجال ، إن لنا عُزّى ، ولا عُزّى لكم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللّهُ مَوْلانا وَلا مَوْلَى لَكْمُ . إنّ القَتْلَى مُخْتَلِفَةٌ ، أمّا قَتْلانا فأَحْياءٌ يُرْزَقُونَ ، وأمّا قَتْلاكُمْ فَفِي النّارِ يُعَذّبُونَ » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَالّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلّ أعمالَهُمْ قال : الذين قُتلوا يوم أُحد .