معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي  
{فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلۡجَرَادَ وَٱلۡقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ ءَايَٰتٖ مُّفَصَّلَٰتٖ فَٱسۡتَكۡبَرُواْ وَكَانُواْ قَوۡمٗا مُّجۡرِمِينَ} (133)

قوله تعالى : { فأرسلنا عليهم الطوفان } قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومحمد بن إسحاق : دخل كلام بعضهم في بعض : لما آمنت السحرة ، ورجع فرعون مغلوباً ، أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر ، والتمادي في الشر ، فتابع الله عليهم الآيات ، وأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات ، فلما عالج منهم بالآيات الأربع : العصا ، واليد ، والسنين ، ونقص الثمار ، فأبوا أن يؤمنوا فدعا عليهم ، فقال : يا رب ، إن عبدك فرعون علا في الأرض ، وطغى وعتا ، وإن قومه قد نقضوا عهدك ، رب ، فخذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة ، ولقومي عظةً ، ولمن بعدهم آيةً وعبرة ، فبعث الله عليهم الطوفان ، وهو الماء ، أرسل الله عليهم الماء وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة مختلطة ، فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ، ومن جلس منهم غرق ، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة من الماء ، وركد الماء على أرضهم ، لا يقدرون أن يحرثوا ولا يعملوا شيئاً ، ودام ذلك عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت ، وقال مجاهد وعطاء : الطوفان الموت ، وقال وهب : الطوفان الطاعون بلغة اليمن . وقال أبو قلابة : الطوفان الجدري ، وهم أول من عذبوا به ، فبقي في الأرض . وقال مقاتل : الطوفان الماء طغى فوق حروثهم ، وروى ابن ظبيان عن ابن عباس قال : الطوفان أمر من الله طاف بهم ، ثم قرأ { فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون } [ القلم : 19 ] . قال نحاة الكوفة : الطوفان مصدر لا يجمع كالرجحان والنقصان . وقال أهل البصرة : هو جمع ، واحدها طوفانة ، فقال لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن بك ، ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه ، فرفع عنهم الطوفان ، فأنبت الله لهم في تلك السنة شيئا لم ينبته لهم قبل ذلك من الكلأ ، والزرع ، والثمر ، وأخصبت بلادهم ، فقالوا : ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا ، وخصباً ، فلم يؤمنوا ، وأقاموا شهراً في عافية ، فبعث الله عليهم الجراد فأكل عامة زروعهم . وثمارهم ، وأوراق الشجر ، حتى كانت تأكل الأبواب ، وسقوف البيوت والخشب ، والثياب ، والأمتعة ، ومسامير الأبواب من الحديد ، حتى تقع دورهم ، وابتلي الجراد بالجوع ، فكان لا يشبع ، ولم يصب بني إسرائيل شيء من ذلك ، فعجوا وضجوا ، وقالوا : { يا موسى ادع لنا ربك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك } ، وأعطوه عهد الله وميثاقه ، فدعا موسى عليه السلام فكشف الله عنهم الجراد بعدما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت ، وفي الخبر : " مكتوب على صدر كل جرادة جند الله الأعظم " . ويقال : إن موسى برز إلى الفضاء ، فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب ، فرجعت الجراد من حيث جاءت ، وكانت قد بقيت من زروعهم وغلاتهم بقية ، فقالوا : قد بقي لنا ما هو كافينا فما نحن بتاركي ديننا ، فلم يفوا بما عاهدوا ، وعادوا لأعمالهم السوء ، فأقاموا شهراً في عافية ، ثم بعث الله عليهم القمل . واختلفوا في القمل ، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : القمل السوس الذي يخرج من الحنطة ، وقال مجاهد ، والسدي ، وقتادة ، والكلبي : القمل الدبي ، والجراد الطيارة التي لها أجنحة ، والدبي الصغار التي لا أجنحة لها ، وقال عكرمة : هي بنات الجراد ، وقال أبو عبيدة : وهو الحمنان ، وهو ضرب من القراد . وقال عطاء الخراساني : هو القمل ، وبه قرأ أبو الحسن والقمل بفتح القاف ، وسكون الميم . قالوا : أمر الله موسى أن يمشي إلى كثيب أعفر بقرية من قرى مصر تدعى عين شمس ، فمشى موسى إلى ذلك الكثيب ، وكان أهيل فضربه بعصاه ، فانثال عليهم القمل ، فتتبع ما بقي من حروثهم وأشجارهم ونباتهم فأكله ، ولحس الأرض كلها ، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيعضه ، وكان أحدهم يأكل الطعام فيمتلئ قملاً . قال سعيد بن المسيب : القمل السوس الذي يخرج من الحبوب ، وكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحا فلا يرد منها ثلاثة أقفزة ، فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل ، وأخذ أشعارهم ، وأبشارهم ، وأشفار عيونهم ، وحواجبهم ، ولزم جلودهم كأنه الجدري عليهم ، ومنعهم النوم والقرار ، فصرخوا وصاحوا إلى موسى : إنا نتوب ، فادع لنا ربك يكشف عنا البلاء ، فدعا موسى عليه السلام الله فرفع الله القمل عنهم بعدما أقام عليهم سبعة أيام ، من السبت إلى السبت ، فنكثوا وعادوا إلى أخبث أعمالهم وقالوا : ما كنا قط أحق أن نستيقن أنه ساحر منا اليوم ، يجعل الرمل دواب . وقالوا : وعزة فرعون لا نتبعه أبدا ، ولا نصدقه ، فأقاموا شهرا في عافية ، فدعا موسى عليه السلام بعدما أقاموا شهراً في عافية ، فأرسل الله عليهم الضفادع ، فامتلأت منها بيوتهم ، وأقبيتهم ، وأطعمتهم ، وآنيتهم ، فلا يكشف أحدا إناءً ولا طعاماً إلا وجد فيه الضفادع ، وكان الرجل يجلس في الضفادع في ذقنه ، ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع إلى فيه ، وكانت في قدورهم فتفسد عليهم طعامهم ، وتطفئ نيرانهم ، وكان أحدهم يضطجع فتركبه الضفادع ، فتكون عليه ركاماً ، حتى ما يستطيع أن ينصرف إلى شقة الآخر ، ويفتح فاه لأكلته فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه ، ولا يعجن عجينا إلا تشدخت فيه ، ولا يفتح قدراً إلا امتلأت ضفادع ، فلقوا منها أذىً شديداً .

روى عكرمة عن ابن عباس قال : كانت الضفادع برية ، فلما أرسلها الله على آل فرعون سمعت وأطاعت ، فجعلت تقذف نفسها في القدور وهي تغلي ، وفي التنانير وهي تفور ، فأثابها الله بحسن طاعتها برد الماء ، فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا إلى موسى ، وقالوا : هذه المرة نتوب إلى الله تعالى ، ولا نعود ، فأخذ عهودهم ومواثيقهم ، ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بعدما أقام سبعاً ، من السبت إلى السبت ، فأقاموا شهراً في عافية ثم نقضوا العهد وعادوا لكفرهم ، فدعا عليهم موسى فأرسل الله عليهم الدم ، فسال النيل عليهم دماً ، وصارت مياههم دماً ، وما يستقون من الآبار والأنهار إلا وجدوه دماً عبيطاً ، أحمر ، فشكوا ذلك إلى فرعون وقالوا : ليس لنا شراب ، فقال : إنه سحركم ، فقال القوم : من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا دما عبيطاً ؟ وكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي على الإناء الواحد ، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماءً ، وما يلي القبطي دماً ، ويقومان إلى الجرة فيها الماء ، فيخرج للإسرائيلي ماء وللقبطي دم .

حتى كانت المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول : اسقيني من مائك ، فتصب لها من قربتها ، فيعود في الإناء دماً ، حتى كانت تقول : اجعليه في فيك ، ثم مجيه في فيّ ، فتأخذ في فيها ماءً ، فإذا مجته في فيها صار دماً ، وإن فرعون اعتراه العطش حتى إنه ليضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة ، فإذا مضغها يصير ماؤها في فيه ملحاً أجاجاً ، فمكثوا في ذلك سبعة أيام لا يشربون إلا الدم ، قال زيد بن أسلم : الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف ، فأتوا موسى وقالوا : يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن بك ، ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه عز وجل فكشف عنهم ، فلم يؤمنوا ، فذلك قوله عز وجل : { فأرسلنا عليهم الطوفان } .

قوله تعالى : { والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات } ، يتبع بعضها بعضاً ، وتفصيلها أن كل عذاب يمتد أسبوعا ، وبين كل عذابين شهراً .

قوله تعالى : { فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين } .