السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلۡجَرَادَ وَٱلۡقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ ءَايَٰتٖ مُّفَصَّلَٰتٖ فَٱسۡتَكۡبَرُواْ وَكَانُواْ قَوۡمٗا مُّجۡرِمِينَ} (133)

وكان موسى عليه السلام رجلاً حديداً فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب الله تعالى له فقال تعالى :

{ فأرسلنا عليهم الطوفان } وقال سعيد بن جبير : لما آمنت السحرة ورجع فرعون مغلوباً أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي على الشر فتابع الله تعالى عليهم الآيات فأخذهم أوّلاً بالسنين وهو القحط ونقص الثمرات وأراهم قبل ذلك من المعجزات اليد والعصا فلم يؤمنوا فدعا عليهم موسى وقال : يا رب إنّ عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتا وإنّ قومه قد نقضوا العهد فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة فبعث الله تعالى عليهم الطوفان وهو الماء فأرسل الله تعالى المطر من السماء وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة مختلطة فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ومن جلس منهم غرق ولم يدخل من ذلك الماء في بيوت بني إسرائيل شيء وركب ذلك الماء على أرضهم فلم يقدروا أن يحرثوا ولا يعملوا شيئاً ودام ذلك عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت حتى كان الرجل منهم لا يرى شمساً ولا قمراً ولا يستطيع الخروج من داره فصرخوا إلى فرعون واستغاثوا به فأرسل إلى موسى عليه السلام فقال : اكشف عنا العذاب فقد صار بحراً واحداً فإن كشف هذا العذاب آمنا بك فأزال الله تعالى عنهم المطر وأرسل الرياح فجففت الأرض وخرج من النبات ما لم ير مثله قط فقالوا : هذا الذي جزعنا منه خير لنا لكنا لم نشعر فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل ، وقيل : المراد بالطوفان الجدري وهو بضم الجيم وفتح الدال وبفتحهما قروح في البدن تنفط وتنضح ، وقيل : هو الموتان وهو بضم الميم موت في الماشية ، وقيل : هو الطاعون فنكثوا العهد { و } لم يؤمنوا وأقاموا شهراً في عافية فأرسل الله تعالى عليهم { الجراد } فأكل النبات والثمار وأوراق الشجر حتى كان يأكل الأبواب وسقوف البيوت ومسامير الأبواب من الحديد وابتلي الجراد بالجوع فكانت لا تشبع ولم يصب بني إسرائيل شيء من ذلك وعظم الأمر عليهم حتى صارت عند طيرانها تغطي الشمس ووقع بعضها على بعض في الأرض ذراعاً فضجوا من ذلك وقالوا : يا موسى ادع لنا ربك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك فأعطوه عهد الله وميثاقه فدعا موسى عليه السلام فكشف الله عنهم الجراد بعدما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت ، وفي الخبر مكتوب على صدر كل جرادة جند الله الأعظم ، ويقال : إنّ موسى عليه السلام برز إلى الفضاء وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت الجراد من حيث جاءت ، وقيل : أرسل الله تعالى ريحاً فاحتمل الجراد فألقاه في البحر وكان قد بقي من زرعهم وغلاتهم بقية فقالوا : قد بقي لنا ما يكفينا فما نحن بتاركي ديننا { و } لم يؤمنوا وأقاموا أشهراً في عافية وعادوا إلى أعمالهم الخبيثة فأرسل الله تعالى عليهم { القمل } واختلفوا في القمل ، فعن ابن عباس أنه السوس الذي يخرج من الحنطة ، وعن قتادة أنه أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها . وعن عكرمة أنه الحمنان وهو ضرب من القراد ، وعن عطاء القمل المعروف فأكل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصه ، وكان أحدهم يأكل طعاماً فيمتلئ قملاً ، وكان أحدهم يخرج عشرة أجربة إلى الرحا فلا يردّ منها إلا شيئاً يسير ، وعن سعيد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه به موسى عليه السلام بعصاه فصار قملاً فأخذت أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كأنه الجدري ومنعهم النوم والقرار فصاحوا وصرخوا هم وفرعون إلى موسى عليه السلام وقال : إنا نتوب فادع لنا ربك يكشف عنا هذا البلاء فدعا موسى فرفع الله القمل عنهم بعدما أقام عليه سبعة أيام من السبت إلى السبت فنكثوا وعادوا إلى أخبث أعمالهم وقالوا : ما كنا أحق أن نستيقن أنه ساحر منا اليوم جعل الرمل دواب { و } لم يؤمنوا فدعا موسى عليه السلام عليهم بعدما أقاموا شهراً في عافية فأرسل الله تعالى عليهم { الضفادع } فامتلأت منها بيوتهم وأطعمتهم وآنيتهم فلا يكشف أحدهم عن ثوب ولا طعام ولا شراب إلا وجد فيه الضفادع وكان الرجل يجلس في الضفادع إلى رقبته ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه وكان يثب في قدورهم فيفسد عليهم طعامهم ويطفئ نيرانهم وكان أحدهم يضطجع فيركبه الضفدع فيكون عليه ركاماً حتى لا يستطيع أن ينصرف إلى شقه الآخر ويفتح فاه إلى أكلة فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه ولا يعجن عجيناً ولا يفتح قدراً إلا امتلأت ضفادع ، وعن ابن عباس أنّ الضفادع كانت بريّة فلما أرسلها الله تعالى إلى آل فرعون سمعت فأطاعت فجعلت تلقي نفسها في القدور وهي تغلي وفي التنانير وهي تفور فأثابها الله تعالى بحسن طاعتها برد الماء فلقوا منها أذى شديداً فشكوا إلى موسى عليه السلام وقالوا : ارحمنا هذه المرّة فما بقي إلا أن نتوب التوبة النصوح ولا نعود فأخذ عهودهم ومواثيقهم ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بأن أماتها وأرسل الله المطر والريح فاحتملها إلى البحر بعدما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت ثم نكثوا العهد { و } لم يؤمنوا وعادوا لكفرهم وأعمالهم الخبيثة فدعا عليهم موسى بعدما أقاموا شهراً في عافية فأرسل الله تعالى عليهم { الدم } فصارت مياههم كلها دماً فما يستقون من بئر ولا نهر إلا وجدوه ماء عبيطاً أحمر فشكوا إلى فرعون وقالوا : ليس لنا شراب ، فقال : إنه سحركم ، فقالوا : من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا دماً عبيطاً وكان فرعون لعنه الله تعالى يجمع بين القبطيّ والإسرائيليّ على الإناء الواحدة فيكون ما يلي الإسرائيليّ ماء وما يلي القبطيّ دماً ويقومان إلى الجرّة فيها الماء فيخرج للإسرائيلي ماء وللقبطيّ دم حتى كانت المرأة من آل فرعون تأتي للمرأة من بني إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول : اسقيني من مائك فتصبّ لها من قربتها فيعود في الإناء دماً حتى كانت تقول : اجعليه في فيك ثم مجيه في فيّ فتأخذ في فيها ماء وإذا مجته في فيها صار دماً واعترى فرعون العطش حتى أنه كان ليضطرّ إلى مضغ الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها دماً فمكثوا على ذلك سبعة أيام لا يشربون إلا الدم فأتوا موسى وشكوا إليه ما يلقونه وقالوا : ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا موسى عليه السلام ربه فكشف عنهم ، وقيل : الدم الذي سلط عليهم هو الرعاف ، وقوله تعالى : { آيات } نصب على الحال { مفصلات } أي : مبينات لا تشكل على عاقل إنها آيات الله تعالى ونقمته عليهم أو مفصلات لامتحان أحوالهم إذ كان بين كل آيتين منها شهر وكان امتداد كل واحدة أسبوعاً كما مرّت الإشارة إلى ذلك وقيل : إنّ

موسى عليه السلام لبث فيهم بعدما غلب السحرة وآمنوا به عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل { فاستكبروا } عن الإيمان فلم يؤمنوا { وكانوا } أي : فرعون وقومه { قوماً مجرمين } أي : كافرين .