{ ليس لك من الأمر شيء } اعتراض . { أو يتوب عليهم أو يعذبهم } عطف على قوله أو يكبتهم ، والمعنى أن الله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا وليس لك من أمرهم شيء ، وإنما أنت عبد مأمور لإنذارهم وجهادهم . ويحتمل أن يكون معطوفا على الأمر أو شيء بإضمار أن ، أي ليس لك من أمرهم أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء . أو ليس لك من أمرهم شيء . أو التوبة عليهم أو تعذيبهم . وأن تكون أو بمعنى إلا أن . أي ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتسر به أو يعذبهم فتشفي منهم . روي ( أن عتبة بن أبي وقاص شجه يوم أحد وكسر رباعيته ، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم ) فنزلت . وقيل هم أن يدعوا عليهم فنهاه الله لعلمه بأن فيهم من يؤمن . { فإنهم ظالمون } قد استحقوا التعذيب بظلمهم .
وجملة { ليس لك من الأمر شيء } معترضة بين المتعاطفات ، والخطاب للنَّبيء صلى الله عليه وسلم فيجوز أن تُحْمَل على صريح لفظها ، فيكون المعنى نفي أن يكون للنَّبيء ، أي لقتاله الكفارَ بجيشه من المسلمين ، تأثير في حصول النَّصر يوم بدر ، فإن المسلمين كانوا في قلّة من كُلّ جانب من جوانب القتال ، أي فالنصر حصل بمحض فضل الله على المسلمين ، وهذا من معنى قوله : { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] . ولفظ ( الأمر ) من قوله : { ليس لك من الأمر شيء } معناه الشأن ، و ( أل ) فيه للعهد ، أي من الشأن الذي عرفتموه وهو النَّصر .
ويجوز أن تحمل الجملة على أنَّها كناية عن صرف النَّبيء عليْه الصلاة والسلام عن الاشتغال بشأن ما صنع الله بالَّذين كفروا ، من قطع طَرفهم ، وكبْتِهم أو توبة عليهم ، أو تعذيب لهم : أي فذلك موكول إلينا نحقّقُه متى أردنا ، ويتخلّف متى أردنا على حسب ما تقتضيه حكمتنا ، وذلك كالاعتذار عن تخلّف نصر المُسلمين يوم أحُد .
فلفظ ( الأمر ) بمعنى شأن المشركين . والتعريفُ فيه عوض عن المضاف إليه ، أي ليس لك من أمرهم اهتمام . وهذا تذكير بما كان للنَّبيء صلى الله عليه وسلم يوم بدر من تخوّف ظهور المشركين عليه ، وإلحاحه في الدّعاء بالنَّصر . ولعلّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم كان يوَدّ استيصال جميع المشركين يوم بدر حيث وجد مقتضى ذلك وهو نزول الملائكة لإهلاكهم ، فذكّره الله بذلك أنَّه لم يقدّر استيصالهم جميعاً بل جعل الانتقام منهم ألواناً فانتقم من طائفة بقطع طرَف منهم ، ومن بقيّتهم بالكَبْتِ ، وهو الحزن على قتلاهم ، وذهاب رؤسائهم ، واختلال أمورهم ، واستبقى طائفة ليتوب عليهم ويهديهم ، فيكونوا قوّة للمسلمين فيؤمنوا بعد ذلك ، وهم من آمن من أهل مكَّة قبل الفتح ، ويوم الفتح : مثل أبي سفيان ، والحارث بن هشام أخي أبي جهل ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية ، وخالد بن الوليد ، وعذّب طائفة عذاب الدنيا بالأسر ، أو بالقتل : مثل ابن خَطل ، والنضْر بن الحارث ، فلذلك قيل له : « ليس لك من الأمر شيء » .
ووضعت هذه الجملة بين المتعاطفات ليظهر أنّ المراد من الأمر هو الأمر الدائر بين هذه الأحوال الأربعة من أحوال المشركين ، أي ليس لك من أمر هذه الأحوال الأربعة شيء ولكنّه موكول إلى الله ، هو أعلم بما سيصيرون إليه وجَعل هذه الجملة قبل قوله : { أو يتوب عليهم } استئناس للنَّبيء صلى الله عليه وسلم إذ قُدّم ما يدلّ على الانتقام منهم لأجله ، ثُمّ أردف بما يدلّ على العفو عنهم ، ثُمّ أردف بما يدلّ على عقابهم ، ففي بعض هذه الأحوال إرضاء له من جانب الانتصار له ، وفي بعضها إرضاء له من جانب تطويعهم له . ولأجل هذا المقصد عاد الكلام إلى بقية عقوبات المشركين بقوله تعالى : { أو يعذبهم } .
ولكون التَّذكير بيوم بدر وقع في خلال الإشارة إلى وقعة أحُد ، كأنّ في هذا التَّقسيم إيماء إلى ما يصلح بياناً لِحكمة الهزيمة اللاحقة المسلمين يوم أحُد ، إذ كان في استبقاء كثير من المشركين ، لم يصبهم القتلُ يومئذ ، ادّخار فريق عظيم منهم للإسلام فيما بعد ، بَعْد أن حصل رعبهم من المسلمين بوقعة بدر ، وإن حسِبوا للمسلمين أي حساب بما شاهدوه من شجاعتهم يوم أحُد ، وإن لم ينتصروا . ولا يستقيم أن يكون قوله : { ليس لك من الأمر شيء } متعلّقاً بأحوال يوم أحُد : لأنّ سياق الكلام ينبو عنه ، وحال المشركين يوم أحُد لا يناسبه قولُه : { ليقطع طرفاً من الذين كفروا } إلى قوله : { خائبين } .
ووقع في « صَحِيح مسلم » ، عن أنس بن مالك : أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم شُجّ وجهه ، وكُسرت رباعيته يوم أحُد ، وجاء المسلمون يمسحون الدم عن وجه نبيّهم ، فقال النَّبيء عليْه السَّلام : " كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيّهم وهو يدعوهم إلى ربّهم " أي في حال أنَّه يدعوهم إلى الخير عند ربّهم ، فنزلت الآية ، ومعناه : لا تستبْعِد فلاحهم . ولا شكّ أن قوله فنزلت هذه الآية مُتأوّل على إرادة : فذُكِّر النَّبيء صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ، لظهور أن ما ذكروه غير صالح لأن يكون سبباً لأنّ النَّبيء تعجّب من فلاحهم أو استبعده ، ولم يدّع لنفسه شيئاً ، أو عملاً ، حتَّى يقال : « ليس لك من الأمر شيء » . وروى الترمذي : أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم دعا على أربعة من المشركين ، وسمّى أناساً ، فنزلت هذه الآية لنهيه عن ذلك ، ثُمّ أسلموا .
وقيل : إنَّه همّ بالدعاء ، أو استأذن الله أن يدعو عليهم بالاستيصال ، فنهى . ويردّ هذه الوجوه ما في « صحيح مسلم » ، عن ابن مسعود ، قال : كأنِّي أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيئاً من الأنبياء ضربه قومه ، وهو يمسح الدم عن وجهه ، وهو يقول : ربّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون . وورد أنَّه لمَّا شجّ وجهه يوم أحُد قال له أصحابه : لو دعوت عليهم ، فقال : إنِّي لم أبعث لَعَّاناً ، ولكِنِّي بعثت داعياً ورحمة ، اللَّهُمّ اهْدِ قومي فإنَّهم لا يعلمون . وما ثبت من خُلقه صلى الله عليه وسلم أنَّه كان لا ينتقم لنفسه .
وأغرَبَ جماعة فقالوا نزل قوله : { ليس لك من الأمر شيء } نسخاً لما كان يدعو به النَّبيء صلى الله عليه وسلم في قنوته على رِعْل ، وذكْوان ، وعُصية ، ولِحْيان ، الَّذين قتلوا أصحاب بئر معونة ، وسندهم في ذلك ما وقع في « البخاري » أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم لم يزل يدعو عليهم ، حتَّى أنزل الله : { ليس لك من الأمر شيء } . قال ابن عطية : وهذا كلام ضعيف كله وليس هذا من مواضع الناسخ والمنسوخ . وكيف يصحّ أن تكون نزلت لنسخ ذلك وهي متوسطة بين علل النَّصر الواقع يوم بدر . وتفسيرُ ما وقع في « صحيح البخاري » من حديث أبي هريرة : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ترك الدعاء على المشركين بعد نزول هذه الآية أخذاً بكامل الأدب ، لأنّ الله لمَّا أعلمه في هذا بما يدلّ على أن الله أعلَمُ بما فيه نفع الإسلام ، ونقمة الكفر ، ترك الدعاء عليهم إذ لعلّهم أن يسلموا . وإذ جعلنا دعاءه صلى الله عليه وسلم على قبائل من المشركين في القنوت شرعاً تقررّ بالاجتهاد في موضع الإباحة لأن أصل الدعاء على العدوّ مباح ، فتركه لذلك بعد نزول هذه الآية ، من قبيل النسخ بالقياس ، نسخت حكم الإباحة التي هي استواء الفعل والترك بإثبات حكم أولوية الفعل .
ومنهم من أبعد المرمى ، وزعم أن قوله : { أو يتوب عليهم } منصوب بأن مضمرة وجوباً ، وأنّ ( أو ) بمعنى حتَّى : أي ليس لك من أمر إيمانهم شيء حتَّى يتوب الله عليهم ، أي لا يؤمنون إلاّ إذا تاب عليهم ، وهل يجهل هذا أحد حتَّى يحتاج إلى بيانه ، على أن الجملة وقعت بين علل النصر ، فكيف يشتّت الكلام ، وتنتثر المتعاطفات .
ومنهم من جعل { أو يتوب عليهم } عطفاً على قوله { الأمر } أو على قوله { شيء } ، من عطف الفعل على اسم خالص بإضمار أنْ على سبيل الجواز ، أي ليس لك من أمرهم أو توبتهم شيء ، أو ليس لك من الأمر شيء أو توبة عليهم .
فإن قلت : هلاّ جمع العقوبات متوالية : فقال ليقطع طرفاً من الَّذين كفروا ، أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ، أو يتوبَ عليهم ، أو يعذّبهم ، قلت : روعي قضاء حقّ جمع النظير أولاً ، وجمع الضدّين ثانياً ، بجمع القَطْع والكبْتتِ ، ثم جمع التوبة والعذاب ، على نحو ما أجاب به أبو الطيب عن نقد من نقد قوله في سيف الدّولة :
وقفتَ وما في الموت شَكّ لواقف *** كأنَّك في جفن الردى وهو نائم
تَمُرّ بك الأبطال كَلْمى حزينــة *** ووَجْهُك وَضّاح وثَغرك باسـم
إذ قدّم من صفتيه تشبيهه بكونه في جفن الردى لمناسبة الموت ، وأخَّر الحال وهي ووجهك وضّاح لمضادّة قوله كلمى حزينة ، في قصة مذكورة في كتب الأدب .
واللام الجارّة لام الملك ، وكاف الخطاب لمعيّن ، وهو الرسول عليه الصّلاة والسّلام .
وهذه الجملة تجري مجرى المثل إذ ركبت تركيباً وجيزاً محذوفاً منه بعض الكلمات ، ولم أظفر ، فيما حفظت من غير القرآن ، بأنَّها كانت مستعملة عند العرب ، فلعلّها من مبتكرات القرآن ، وقريب منها قوله : { وما أملك لك من اللَّه من شيء } [ الممتحنة : 4 ] وسيجيء قريب منها في قوله الآتي : { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } [ آل عمران : 154 ] و { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } [ آل عمران : 154 ] فإن كانت حكاية قولهم بلفظه ، فقد دلّ على أنّ هذه الكلمة مستعملة عند العرب ، وإن كان حكاية بالمعنى فلا .
وقوله : { فإنهم ظالمون } إشارة إلى أنَّهم بالعقوبة أجدر ، وأنّ التّوبة عليهم إن وقعت فضل من الله تعالى .