أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

{ ويوم يعرض الذين كفروا على النار } يعذبون بها . وقيل تعرض النار عليهم فقلب مبالغة كقولهم : عرضت الناقة على الحوض . { أذهبتم } أي يقال لهم أذهبتم ، وهو ناصب اليوم وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالاستفهام غير أن ابن كثير يقرؤه بهمزة ممدودة وهما يقرآن بها وبهمزتين محققتين . { طيباتكم } لذاتكم . { في حياتكم الدنيا } باستيفائها . { واستمتعتم بها } فما بقي لكم منها شيء . { فاليوم تجزون عذاب الهون } الهوان وقد قرئ به . { بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون } بسبب الاستكبار الباطل والفسوق عن طاعة الله ، وقرئ { تفسقون } بالكسر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

المعنى : واذكر يوم يعرض ، وهذا العرض هو بالمباشرة ، كما تقول عرضت العود على النار والجاني على السوط ، والمعنى : يقال لهم { أذهبتم طيباتكم } .

وقرأ جمهور القراء : «أذهبتم » على الخبر ، حسنت الفاء بعد ذلك . وقرأ ابن كثير والحسن والأعرج وأبو جعفر ومجاهد وابن وثاب . «آذهبتم » بهمزة مطولة على التوبيخ والتقرير الذي هو في لفظ الاستفهام . وقرأ ابن عامر «أأذهبتم » بهمزتين تقريراً .

والتقرير والتوبيخ إخبار بالمعنى ، ولذلك حسنت الفاء وإلا فهي لا تحسن في جواب على حد هذه مع الاستفهام المحض .

والطيبات : الملاذ ، وهذه الآية وإن كانت في الكفار فهي رادعة لأولي النهى من المؤمنين عن الشهوات واستعمال الطيبات ، ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه : أتظنون أنا لا نعرف طيب الطعام ، ذلك لباب البر بصغار المعزى ، ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم أنهم أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا ، ذكر هذا في كلامه مع الربيع بن زياد . وقال أيضاً نحو هذا لخالد بن الوليد حين دخل الشام فقدم إليه طعام طيب ، فقال عمر : هذا لنا ، فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا ولم يشبعوا من خبز الشعير ؟ فقال خالد : لهم الجنة ، فبكى عمر وقال : لئن كان حظنا في الحطام وذهبوا بالجنة لقد باينونا بوناً بعيداً . وقال جابر بن عبد الله : اشتريت لحماً بدرهم فرآني عمر ، فقال : أو كلما اشتهى أحدكم شيئاً اشتراه فأكله ؟ أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية ، وتلا : { أذهبتم } الآية .

و { عذاب الهون } : العذاب الذي اقترن به هوان ، وهذا هو عذاب العصاة المواقعين ما قد نهوا عنه ، وهذا بين في عذاب الدنيا ، فعذاب المحدود في معصية كالحرابة ونحوها مقترن بهون ، وعذاب المقتول في حرب لا هون معه ، فالهون والهوان بمعنى ؟ ! .

ثم أمر تعالى نبيه بذكر هود وقومه عاد على جهة المثال لقريش ، وهذه الأخوة هي أخوة القرابة ، لأن هوداً كان من أشراف القبيلة التي هي عاد .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

انتقال إلى وعيد الكافرين على الكفر بحذافره ، وذلك زائد على الوعيد المتقدم المتعلق بإنكارهم البعث مع عقوقهم الوالدين المسلمين . فالجملة معطوفة على جملة { والذي قال لوالديه أفّ لكما } [ الأحقاف : 17 ] الآيات .

والكلام مقول قول محذوف تقديره : ويقال للذين كفروا يومَ يعرضون على النار { أذهبتم طيباتكم } ، ومناسبة ذكره هنا أنه تقرير لمعنى { لا يظلمون } [ الأحقاف : 19 ] ، أي لا يظلمون في جزاء الآخرة مع أننا أنعمنا عليهم في الدنيا ولو شئنا لعجلنا لهم الجزاء على كفرهم من الحياة الدنيا ، ولكن الله لم يحرمهم من النعمة في الحياة الدنيا فإن نعمة الكافر في الدنيا نعمة عند المحققين من المتكلمين . وعن الأشعري : أن الكافر غير منعم عليه في الدنيا ، وتُؤُوِّل بأنه خلاف لفظي ، أي باعتبار أن عاقبتها سيئة . ونعمة الله في الدنيا معاملة بفضل الرّبوبية وجزاؤهم على أعمالهم في الآخرة معاملة بِعدل الإلهية والحكمة .

وانتصب { يوم يعرض } على الظرفية لفعل القول المحذوف . والعرض تقدم في قوله : { أولئك يعرضون على ربهم } في سورة هود ( 18 ) وقوله : { النار يُعرضون عليها } في سورة غافر ( 46 ) وفي قوله : { وتراهم يعرضون عليها } في سورة الشورى ( 45 ) .

وإذهاب الطيبات مستعار لمفارقتها كما أن إذهاب المرء إبعادٌ له عن مكان له . والذهاب : المبارحة . والمعنى : استوفيتم ما لكم من الطيبات بما حصل لكم من نعيم الدنيا ومتعتها فلم تبق لكم طيبات بعدها لأنكم لم تعملوا لنوال طيبات الآخرة ، وهو إعذار لهم وتقرير لكونهم لا يظلمون فرتب عليه قوله : { فاليوم تجزون عذاب الهون } .

فالفاء فصيحة . والتقدير : إن كان كذلك فاليوم لم يبق لكم إلا جزاء سيّىء أعمالكم ، وليست الفاء للتفريع ولا للتسبب . وليس في الآية ما يقتضي منع المسلم من تناول الطيبات في الدنيا إذا توخّى حلالها وعمل بواجبه الديني فيما عدا ذلك وإن كان الزهد في الاعتناء بذلك أرفع درجة وهي درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة من أصحابه .

وروى الحسن عن الأحنف بن قيْس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول : لأنا أعلم بخفض العيش ولو شئت لجعلت أكباداً ، وصلائق وصِنَاباً وكَراكر وأسْنِمَة{[382]} ولكني رأيت الله نعى على قوم فقال : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } . وإنما أراد عمر بذلك الخشيةَ من أن يشغله ذلك عن واجبه من تدبير أمور الأمة فيقع في التفريط ويؤاخذ عليه . وذكر ابن عطية : أن عمر حين دخل الشام قدّم إليه خالد بن الوليد طعاماً طيباً . فقال عمر : هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا ولم يشبعوا من خبز الشعير ؟ فقال خالد : لهم الجنة ، فبكى عمر . وقال : لئن كان حظنا في المقام وذهبوا بالجنة لقد باينونا بونا بعيداً .

والهُون : الهوان وهو الذلّ وإضافة { عذاب } إلى { الهون } مع إضافة الموصوف إلى الصفة . والباء في قوله : { بما كنتم تستكبرون } للسببية وهي متعلقة بفعل { تجزون } .

والمراد بالاستكبار ، الاستكبار على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى قبول التوحيد .

والفسوق : الخروج عن الدين وعن الحق ، وقد يأخذ المسلم بحظ من هذين الجرمين فيكون له حظ من جزائهما الذي لقيه الكافرون ، وذلك مبين في أحكام الدين . والفسوق : هنا الشرك .

وقرأ الجمهور { أذهبتم } بهمزة واحدة على أنه خبر مستعمل في التوبيخ . وقرأه ابن كثير { أأذهبتم } بهمزتين على الاستفهام التوبيخي .


[382]:- الصلائق بالصاد جمع صليقة وهي الشاة المصلوقة، أي المشوية، والصناب بكسر الصاد ونون مخففة وموحدة صباغ من خردل وزبيب يؤدم به اللحم والكراكر جمع كركرة بكافين مكسورين غدة في صدر البعير تلاصق الأرض إذ برك وهي لحم طيب.