أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (54)

{ وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم } فاعزموا على التوبة والرجوع إلى من خلقكم براء من التفاوت ، ومميزا بعضكم عن بعض بصور وهيئات مختلفة ، وأصل التركيب لخلوص الشيء عن غيره ، إما على سبيل التقصي كقولهم بريء المريض من مرضه والمديون من دينه ، أو الإنشاء كقولهم برأ الله آدم من الطين أو فتوبوا . { فاقتلوا أنفسكم } إتماما لتوبتكم بالبخع ، أو قطع الشهوات كما قيل من لم يعذب نفسه لم ينعمها ومن لم يقتلها لم يحيها . وقيل أمروا أن يقتل بعضهم بعضا . وقيل أمر من لم يعبد العجل أن يقتل العبدة . روي أن الرجل كان يرى بعضه وقريبه فلم يقدر على المضي لأمر الله ، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون ، فأخذوا يقتتلون من الغداة إلى العشي حتى دعا موسى وهارون فكشفت السحابة ونزلت التوبة ، وكانت القتلى سبعين ألفا . والفاء الأولى للتسبب ، والثانية للتعقيب .

{ ذلكم خير لكم عند بارئكم } من حيث إنه طهرة من الشرك ، ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية .

{ فتاب عليكم } متعلق بمحذوف إن جعلته من كلام موسى عليه السلام لهم تقديره : إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم ، أو عطف على محذوف إن جعلته خطابا من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات ، كأنه قال : ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم بارئكم . وذكر البارئ وترتيب الأمر عليه إشعار بأنهم بلغوا غاية الجهالة والغباوة ، حتى تركوا عبادة خالقهم الحكيم إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة ، وأن من لم يعرف حق منعمه حقيق بأن لا يسترد منه ، ولذلك أمروا بالقتل وفك التركيب .

{ إنه هو التواب الرحيم } للذي يكثر توفيق التوبة ، أو قبولها من المذنبين ، ويبالغ في الإنعام عليهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (54)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 54 )

هذا القول من موسى صلى الله عليه وسلم كان بأمر من الله تعالى ، وحذفت الياء في «يا قومي » لأن النداء موضع حذف وتخفيف ، والضمير في «اتخاذكم » في موضع خفض على اللفظ ، وفي موضع رفع بالمعنى ، «العجل » لفظة عربية ، اسم لولد البقرة .

وقال قوم : سمي عجلاً لأنه استعجل قبل مجيء موسى عليه السلام .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وليس هذا القول بشيء( {[608]} ) .

واختلف هل بقي العجل من ذهب ؟ قال ذلك الجمهور وقال الحسن بن أبي الحسن : صار لحماً ودماً ، والأول أصح .

و «توبوا » : معناه ارجعوا عن المعصية إلى الطاعة .

وقرأ الجمهور : «بارئِكم » بإظهار الهمزة وكسرها .

وقرأ أبو عمرو : «بارئْكم » بإسكان الهمزة .

وروي عن سيبويه اختلاس الحركة وهو أحسن ، وهذا التسكين يحسن في توالي الحركات .

وقال المبرد : لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب ، وقرءاة أبي عمرو «بارئكم » لحن( {[609]} ) .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : وقد روي عن العرب التسكين في حرف الأعراب ، قال الشاعر : [ الرجز ]

إذا اعوججن قلت صاحب قوم( {[610]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال امرؤ القيس : [ السريع ]

فاليوم أشرب غير مستحقب . . . إثماً من الله ولا واغل( {[611]} )

وقال آخر : [ الرجز ]

قالت سليمى اشتر لنا سويقا( {[612]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال الآخر : [ السريع ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وقد بدا هَنْكِ مِن المِئْزَرِ( {[613]} )

وقال جرير :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ونهر تيري فما تعرفْكُمُ العربُ( {[614]} )

وقال وضاح اليمن( {[615]} ) : [ الرجز ]

إنما شعري شهد *** قد خلط بجلجلان

ومن أنكر التسكين في حرف الإعراب فحجته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علماً للإعراب .

قال أبو علي : وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات .

وقرأ الزهري : «باريكم » بكسر الياء من غير همز( {[616]} ) ، ورويت عن نافع .

وقرأ قتادة : «فاقتالوا أنفسكم » : وقال : «هي من الاستقالة » .

قال أبو الفتح : «اقتال » هذه افتعل ، ويحتمل أن يكون عينها واواً كاقتادوا ، ويحتمل أن يكون ياء «كاقتاس »( {[617]} ) والتصريف يضعف أن تكون من الاستقالة ، ولكن قتادة رحمه الله ينبغي أن يحسن الظن به في أنه لم يورد ذلك إلا بحجة عنده .

وقوله تعالى : { فتاب عليكم } قبله محذوف تقديره ففعلتم .

وقوله { عليكم } معناه : على الباقين ، وجعل الله تعالى القتل لمن قتل شهادة وتاب على الباقين وعفا عنهم .

قال بعض الناس : { فاقتلوا } في هذه الآية معناه بالتوبة وإماتة عوارض النفوس من شهوة وتعنت وغضب( {[618]} ) ، واحتج بقوله عليه السلام في الثوم والبصل فلتمتهما طبخاً ، وبقول حسان :

. . . . . . . . . . . . . . . . قتلت قتلت فهاتها لم تقتل( {[619]} )


[608]:- لأن العرب تطلق هذا الاسم على ولد البقر.
[609]:- تلحين أبي العباس لأبي عمرو البصري لا يلتفت إليه، لأن أبا عمرو لم يقرأ إلا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن لغة العرب توافقه، وقد جلب ابن عطية رحمه الله ما يكفي من الشواهد، فإنكار المبرد لها هو المنكر، لا أن الذين اعترضوا على المبرد خلطوا ما حركته إعراب بما حركته بناء.
[610]:- تمامه: بالدو أمثال السفين العوم. والدو: الصحراء، والبيت منسوب إلى أبي نخيلة الراجز.
[611]:- كان قد حرم على نفسه شرب الخمر حتى يأخذ الثأر، وبعد أن أخذه أصبح الخمر مباحا في زعمه فقال: فاليوم أشر ألخ. وأشرب فعل معرب، وقد سكن آخره. وقد جاء في اللسان: واحتقب فلان الإثم كأنه جمعه واحتقبه من خلفه، واحتقبه واستحقبه بمعنى، أي احتمله، والواغل هنا هو الذي يدخل على القوم في طعامهم وشرابهم من غير أن يدعوه.
[612]:- تمامه: وها خبر البر أو دقيقا- ينسب هذا البيت للعذامر الكندي، وهومن مشطور الرجز. انظر شرح الشافية لابن الحاجب. وفي رواية (وهات بر البخس أو دقيقا) والبخس الذي يزرع بماء السماء.
[613]:- أوله: (رحت وفي رجليك ما فيهما)، وهو للأقيشر الأسدي كما في خزانة الأدب.
[614]:- أوله: سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ............................... قال في القاموس: ونهر تيرى كضيزى بالأهواز.
[615]:- من مشاهير شعراء الغزل، تشبب بأم البنين زوجة الوليد بن عبد الملك فأمر الوليد بدفنه حيا. واسمه عبد الرحمن بن إسماعيل، سمى بالوضاح لجماله.
[616]:- هذه القراءة لها تخريجان وكلاهما شاذ، انظر أبا (ح). "البحر المحيط"1/207.
[617]:- عبارة أبي (ح): "وقرأ قتادة فيما نقل المهدوي وابن عطية والتبريزي وغيرهم: "فأقيلوا أنفسكم"، وقال الثعلبي" قرأ قتادة: "فاقتالوا أنفسكم"، فأما فأقيلوا فهو أمر من الإقالة، وكأن المعنى إن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه من عبادة العجل، وقد هلكت، فأقيلوها بالتوبة، والتزام الطاعة، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات، وأما فاقتالوا أنفسكم فقالوا: هو افتعل بمعنى استفعل، أي فاستقيلوها، والمشهور استقال لا اقتال، قال ابن جني: يحتمل أن يكون عينها واوا كاقتاد، ويحتمل أن يكون ياء كاقتاس" اهـ.
[618]:- في القول الأول: القتل الحقيقي بمعنى إزهاق الروح، وفي القول الثاني: القتل المعنوي بمعنى إماتة الأهواء والشهوات، والأول هو الظاهر، وقال به أكثر الناس، وهناك من يقول: فاقتلوا أنفسكم أي استسلموا لمن يقتلوا، وقد حكي أن الذين لم يعبدوا العجل قتلوا الذين عبدوه صبرا واستسلاما. فتكون الآراء في القتل ثلاثة، والأول هو الظاهر.
[619]:- نص البيت كله: إن التي ناولتني فرددتها قتِلت قُتِلْت فهاتها لم تُقْتل