ولما كان القرب والإحاطة لله ، كان بالحقيقة لا رقيب إلا هو ، والآية على كل حال منسوخة إن قلنا بالاحتمال{[55890]} الأول أو الثاني ، فقد روى الترمذي في التفسير{[55891]} عن عائشة رضي الله عنها وناهيك بها ولا سيما في هذا الباب أنها قالت : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء ، وقال : هذا حديث حسن صحيح - انتهى . ونقل ابن الجوزي عنها رضي الله عنها أن الناسخ آية{[55892]} { أنا أحللنا لك أزواجك } وكذا عن{[55893]} جماعة منهم علي وابن عباس وأم سلمة رضي الله عنهم ، ولكنه صلى الله عليه وسلم ترك ذلك أدباً مع الله تعالى حيث عبر في المنع بصيغة الخبر والفعل المضارع ، ورعاية لما أشار الله إليه من رعاية حقهن في{[55894]} اختيارهن الدار الآخرة .
ولما قصره صلى الله عليه وسلم عليهن{[55895]} ، وكان قد تقدم إليهن{[55896]} بلزوم البيوت وترك ما كان {[55897]}عليه الجاهلية{[55898]} من التبرج ، أرخى عليهن الحجاب في البيوت ومنع غيره صلى الله عليه وسلم مما كانت العرب عليه من الدخول على النساء لما عندهم من الأمانة في ذلك ، فقال مخاطباً لأدنى أسنان أهل هذا الدين لما ذكر في سبب نزولها ، ولأن المؤمنين كانوا منتهين عن ذلك{[55899]} بغير ناه كما يدل عليه ما يأتي من قول عمر رضي الله عنه في الحجاب : { يا أيها الذين آمنوا } أي ادعوا الإيمان صدقوا دعواكم فيه{[55900]} بأن { لا تدخلوا } مع الاجتماع ، فالواحد من باب الأولى .
ولما كان تشويش الفكر ربما كان شاغلاً عن شيء مما يبنئ الله به كما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم " بينت لي ليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فأنسيتها " - أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، عبر بصفة النبوة في قوله : { بيوت النبي } أي الذي يأتيه الإنباء من علام الغيوب بما فيه غاية رفعته ، في حال من الأحوال أصلاً { إلا } في حال { أن يؤذن لكم } أي ممن له الإذن في بيوته صلى الله عليه وسلم منه أو ممن يأذن له في ذلك ، منتهين { إلى طعام } أي أكله{[55901]} ، حال كونكم { غير ناظرين إناه } أي وقت ذلك الطعام وبلوغه واستواءه للأكل ، فمنع بهذا من كان يتحين طعام النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن في ذلك تكليفاً له صلى الله عليه وسلم بما يشق عليه جداً ، فإنه ربما{[55902]} كان ثم من هو أحوج إلى ذلك الطعام من المتحين أو غير ذلك من الأعذار ، فلا يتوجه الخطاب إلى غير أهل السن السافل ، ومن{[55903]} وقعت له فلتة ممن فوق رتبتهم دخل في خطابهم بما أنزل من رتبته ، والتعبير باسم الفاعل المجرد في " ناظرين " أبلغ في النهي .
ولما كان هذا الدخول بالإذن مطلقاً ، وكان يراد تقييده ، وكان الأصل في ذلك : فإذا دعيتم - إلى آخره ، ولكن لما كان المقام للختم بالجزم فيما يذكر ، وكان للاستدراك أمر عظيم من روعة النفس وهزها للعلم بأن ما بعده مضاد لما قبله قال : { ولكن إذا دعيتم } أي ممن له الدعوة { فادخلوا } أي لأجل ما دعاكم له{[55904]} ؛ ثم سبب عنه قوله : { فإذا طعمتم } أي أكلتم طعاماً أو شربتم شراباً { فانتشروا } أي اذهبوا حيث شئتم في الحال ، ولا تمكثوا بعد الأكل لا مستريحين لقرار الطعام{[55905]} في بطونكم { ولا مستأنسين لحديث } أي طالبين الأنس لأجله ، قال حمزة بن نضر الكرماني في كتابه جوامع التفسير : قال الحسن : حسبك {[55906]}في الثقلاء{[55907]} أن الله لم يتجوز في أمرهم - انتهى ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : حسبك بالثقلاء{[55908]} أن الله لم يحتملهم ، ثم علل ذلك بقوله مصوباً الخطاب إلى جميعه ، معظماً له بأداة البعد : { إن ذلكم } أي الأمر الشديد{[55909]} وهو المكث بعد الفراغ {[55910]}من الأكل والشرب{[55911]} { كان يؤذي النبي } أي الذي هيأناه لسماع ما ننبئه به مما يكون سبب شرفكم وعلوكم في الدارين ، فاحذروا أن تشغلوه عن شيء منه فننبئه بشيء تهلكون{[55912]} فيه . ثم سبب عن ذلك المانع له من مواجهتهم بما يزيل أذاه فقال : { فيستحيي } أي يوجد الحياء ، وأصله إيجاد الحياة . كأن من لا حياء له جماد لا حياة له { منكم } أي أن يأمركم بالانصراف { والله } أي الذي له جميع الأمر { لا يستحيي من الحق } أي لا يفعل فعل المستحيي فيؤديه ذلك إلى ترك الأمر به .
ولما كان البيت يطلق على المرأة لملازمتها له عادة ، أعاد الضمير عليه مراداً به النساء استخداماً فقال : { وإذا سألتموهن } أي الأزواج { متاعاً } أي شيئاً من آلات البيت { فسئلوهن } أي ذلك المتاع ، كائنين وكائنات { من وراء حجاب } أي ستر يستركم عنهن ويسترهن عنكم { ذلكم } أي الأمر العالي الرتبة الذي أدبتكم{[55913]} جميعكم به من السؤال من وراء حجاب وغيره { أطهر لقلوبكم وقلوبهن } أي من{[55914]} وساوس{[55915]} الشيطان {[55916]}التي كان يوسوس بها في أيام الجاهلية قناعة منه بما كانوا في حبالته من الشرك { وما كان لكم }{[55917]} أي وما صح وما استقام في حال من الأحوال { أن تؤذوا } وذكرهم{[55918]} بالوصف الذي هو سبب لسعادتهم{[55919]} واستحق به{[55920]} عليهم من الحق ما لا يقدرون على القيام بشكره فقال : { رسول الله } صلى الله عليه وسلم ، أي الذي له جميع الكمال فله إليكم من الإحسان ما يستوجب منكم{[55921]} به غاية الإكرام والإجلال ، فضلاً عن الكف عن الأذى ، فلا تؤذوه بالدخول إلى شيء من بيوته بغير إذنه أو{[55922]} المكث بعد فراغ الحاجة ولا بغير ذلك .
ولما كان قد قصره صلى الله عليه وسلم عليهن ، ولزم ذلك بعد أن أحل له غيرهن قصرهن عليه بعد{[55923]} الموت زيادة لشرفه وإظهاراً لمزيته فقال : { ولا أن تنكحوا } أي فيما يستقبل من{[55924]} الزمان ، { أزواجه من بعده } أي بعد فراقه لمن دخل بها منهن بموت أو طلاق {[55925]}لما تقدم أنه حي لم يمت{[55926]} { أبداً } فإن العدة منه{[55927]} ينبغي أن لا تنقضي لما له من الجلال والعظمة والكمال ، وهو حي في قبره لا يزال ، وثم علة أعم من هذه لمسها في الميراث ، وهي قطع الأطماع عن امتدادها إلى شيء من الدنيا بعده لئلا يتمنى أحد موته صلى الله عليه وسلم ليأخذ ذلك فيكفر لأنه لا إيمان لمن لا يقدمه على نفسه{[55928]} ، وأما العالية بنت ظبيان التي طلقها النبي صلى الله عليه وسلم .
وتزوجت غيره فكان أمرها قبل نزول هذه الآية - ذكره البغوي{[55929]} عن معمر عن الزهري . ثم علل ذلك بقوله : { إن ذلكم } أي الإيذاء بالنكاح وغيره الذي{[55930]} ينبغي أن يكون على غاية البعد { كان عند الله } أي القادر على كل شيء { عظيماً * } وقد ورد في سبب نزول هذه الآية أشياء ، روى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أنس رضي الله عنه قال : بعثتني أم سليم رضي الله عنها برطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على طبق في أول ما أينع ثمر النخل قال : فدخلت عليه فوضعته بين يديه فأصاب منه ثم أخذ بيدي فخرجنا{[55931]} وكان حديث عهد بعرس زينب{[55932]} بنت جحش رضي الله عنها ، قال : فمر بنساء من نسائه وعندهن رجال يتحدثون فهنأنه وهنأه الناس فقالوا : الحمد لله الذي{[55933]} أقر بعينك يا رسول الله ، فمضى حتى أتى عائشة رضي الله عنها ، فإذا عندها رجال ، قال : فكره ذلك ، وكان إذا كره الشيء عرف في وجهه ، قال : فأتيت أم سليم فأخبرتها ، فقال أبو طلحة رضي الله عنه : لئن كان ما قال ابنك حقاً{[55934]} ليحدثن أمر ، قال : فلما كان من العشي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر ثم تلا هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } الآية ، قال : وأمر بالحجاب وأصله في التفسير من جامع الترمذي{[55935]} ، وروى البخاري{[55936]} وغيره{[55937]} عنه رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم عروساً بزينب رضي الله عنها ، فقالت لي أم سليم : لو أهدينا للنبي صلى الله عليه وسلم هدية ! فقلت لها : افعلي ، فعمدت إلى تمر وأقط وسمن ، فاتخذت حيسة في برمة ، فأرسلت بها معي إليه{[55938]} ، فقال لي{[55939]} : ضعها ، ثم أمرني فقال لي : ادع لي{[55940]} رجالاً - سماهم - وادع لي من لقيت ، ففعلت الذي أمرني ، فرجعت فإذا البيت غاص بأهله - وفي رواية الترمذي ان الراوي قال : قلت{[55941]} لأنس : كم كانوا ؟ قال : زهاء ثلاثمائة{[55942]} - فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله ثم جعل يدعو عشرة عشرة يأكلون منه ، ويقول لهم : اذكروا اسم الله ، وليأكل كل رجل مما يليه ، حتى تصدعوا كلهم عنها ، قال الترمذي : فقال لي{[55943]} : يا أنس ، ارفع ، فرفعت فما أدري حين وضعت كان أكثر أو حين رفعت - فخرج منهم من خرج وبقي نفر يتحدثون ، قال : وجعلت أغتم - قال الترمذي : ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وزوجته مولية وجهها إلى الحائط ، فثقلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقال عبد الرزاق في تفسيره : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحي منهم أن يقول لهم شيئاً - ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم نحو الحجرات وخرجت في أثره ، فقلت : إنهم قد ذهبوا ، فرجع فدخل البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو يقول : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلو بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } الآية ، وفي رواية الترمذي : ثم رجع ، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه ، فابتدروا الباب ، فخرجوا كلهم ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل وأنا جالس في الحجرة ، فلم يلبث إلا يسيراً حتى خرج عليّ وأنزلت هذه الآيات ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأهن{[55944]} على الناس { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي } الآية ، و{[55945]} روى الشيخان{[55946]} وغيرهما عن أنس رضي الله عنه - وهذا لفظ البخاري - في روايات قال : بنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم ، فأرسلت على الطعام داعياً ، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون ، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون ، فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعو ، فقلت : يا نبي الله ! ما أجد أحداً أدعو ، قال : ارفعوا طعامكم ، فجلسوا يتحدثون في البيت فإذا هو كأنه يتهيأ{[55947]} للقيام ، فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، {[55948]}فلما قام قام{[55949]} من قام ، وقعد ثلاثة نفر ، وفي رواية ، ثلاثة رهط ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله .
فقالت : وعليك السلام ورحمة الله ، كيف وجدت أهلك ، بارك الله لك ! فتقرى حجر نسائه{[55950]} كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة رضي الله عنها . ويقلن له كما قالت عائشة - رضي الله عنهن ، ثم{[55951]} رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا القوم جلوس ، وكان النبي{[55952]} صلى الله عليه وسلم شديد الحياء فخرج منطلقاً ، نحو حجرة عائشة رضي الله عنها ، وفي رواية{[55953]} : أولم رسول{[55954]} الله صلى الله عليه وسلم حين بنى بزينب بنت جحش رضي الله عنها فأشبع الناس خبزاً ولحماً ، ثم خرج إلى حجر أمهات المؤمنين كما كان يصنع صبيحة بنائه ، فيسلم عليهن ويدعو لهن ، ويسلمن عليه ويدعون له ، فلما رجع إلى بيته رأى رجلين جرى بهما الحديث ، فلما رآهما رجع عن بيته ، فلما رأى الرجلان{[55955]} نبي الله صلى الله عليه وسلم رجع عن بيته وثبا{[55956]} مسرعين ، فما أدري أنا أخبرته بخروجهما أو أخبر أن القوم خرجوا ، فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخلة وأخرى خارجة أرخى الستر ، وفي رواية{[55957]} : فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه ، وأنزلت آية الحجاب { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي } الآية{[55958]} ، وللبخاري{[55959]} عن عائشة رضي الله عنها قالت : {[55960]}كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : احجب نساءك قالت : فلم يفعل{[55961]} ، وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن ليلاً إلى ليل قبل المناصع ، خرجت سودة بنت زمعة وكانت امرأة طويلة رضي الله عنها ، فرآها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في المجلس فقال : عرفتك يا سودة ، حرصاً على أن ينزل الحجاب ، قالت : فأنزل الله عز وجل الحجاب وللبخاري{[55962]} عن أنس رضي الله عنه ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما كلاهما عن عمر رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ! إن نساءك يدخل{[55963]} عليهن البر والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحجبن ، فنزلت آية الحجاب ، وروي في السبب أشياء غير هذه ، وقد تقدم أنه ليس ببدع أن يكون للآية الواحدة عدة أسباب مستوية الدرجة ، أو بعضها أقرب من بعض ، على أنه قد روى البخاري في التفسير{[55964]} في سياق هذه الآية ما هو صريح في أن قصة سودة بعد الحجاب عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها ، فرآها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال{[55965]} : يا سودة ! أما{[55966]} والله ما تخفين علينا ، فانظري كيف تخرجين ، قالت : فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي {[55967]}وإنه يتعشى وفي يده عرق ، فدخلت فقالت : يا رسول الله ! إني خرجت لبعض حاجتي ، فقال لي عمر كذا وكذا ، قالت : فأوحى الله{[55968]} إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال : قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن وهؤلاء الذين{[55969]} جلسوا - والنبي صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه {[55970]}من الكراهة لجلوسهم{[55971]} بما ذكر من هيئته في حيائه وتهيؤه للقيام ونحو ذلك - لم يستثمروا الفقه من أحواله ، بل كانوا واقفين عندما يسمعونه {[55972]}من مقاله ، وطريقة الكمل{[55973]} الاستبصار برسمه وحاله كما يستبصرون من قاله وفعاله ، قال الحرالي : الحال كل هيئة تظهر{[55974]} عن انفعال باطن ، ويختص بتفهمها المشاهد المتوسم ، وذلك كضحكه{[55975]} صلى الله عليه وسلم للذي رآه يوم خيبر وقد أخذ {[55976]}جراب شحم{[55977]} من فيء يهود وهو يقول : لا أعطي اليوم من هذا أحداً شيئاً ، وكتغير وجهه لعمر رضي الله عنه لما أخذ يقرأ عليه صحيفة من حكم الأولين حتى نبه عمر رضي الله عنه من توسم في وجهه صلى الله عليه وسلم الكراهة لفعل عمر ، وإنباء كل حال{[55978]} منها يحسب ما يفيده الانفعال من الانبساط والانقباض والإعراض{[55979]} ونحو ذلك مما يتوسمه المتفطن ، ويقطع بمقتضاه المتفهم ، وأما الرسم{[55980]} فهو كل ما شأنه البقاء بعد غيبته ووفاته ، فيتفهم منه المعتبر حكم وضعه ومقصد رسمه ، كالذي يشاهد من هيئة بنائه مسجده على حال اجتزاء بأيسر ممكن وكبنائه{[55981]} بيوته على هيئة لا تكلف فيها ، ولا مزيد{[55982]} علة مقدار الحاجة ، وكمثل الكساء الملبد{[55983]} الذي تركه ، وفراشه ونحو ذلك من متاع بيوته ، وكما يتفهم{[55984]} من احتفاله في أداة سلاحه مثل كون سيفه محلى بالفضة وقبضته فضة ، ومثل احتفاله بالتطيب حتى كان{[55985]} يرى في ثوبه وزره ، فيتعرف{[55986]} من رسومه أحكامه ، كما يتعرف من أحواله وأفعاله وأقواله ، وذلك لأن جميع هذه الإبانات كلها هي حقيقة ما هو الكلام - انتهى .
وبرهان ذلك أن الأصل في الكل الكلام النفسي{[55987]} الذي هو المنشأ ، والقول والفعل والحال والرسم مترجمة عنه ، وليس بعضها أحق بالترجمة من بعض ، نعم بعضها أدل من بعض وأنص وأصرح ، فتهيؤ النبي{[55988]} صلى الله عليه وسلم للقيام من بيته مثل ما لو قال : أريد أن تذهبوا ، فإنه يلزم من قيام الرجل من بيته الذي هو محل ما يستره عن غيره أن يريد ذهاب ، غيره منه لئلا يطلع على ما لا يحب أن يطلع{[55989]} عليه أحد{[55990]} ، وإتيانه ليدخل فإذا رآهم رجع مثل ما لو قال : إنما يمنعني من الدخول إلى محل راحتي جلوسكم فيه لثقل جلوسكم عليّ ، وكذا الأحوال والرسول - والله الهادي .
قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ( 53 ) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } .
قال أكثر المفسرين : سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش أَوْلَم عليها بتمر وسويق وذبح شاة . قال أنس : فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أدعو أصحابه إلى الطعام فجعل القوم يجيئون فيأكلون فيخرجون ثم يجيء القوم ويأكلون ويخرجون . فقلت : يا نبي الله قد دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه فقال : " ارفعوا طعامكم " ، فرفعوا ، وخرج القوم ، وبقي ثلاثة أنفار يتحدثون في البيت فأطالوا المكث فتأذى منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحياء ، فنزلت هذه الآية وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينه سترا .
وقال ابن عباس : نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام فيقعدون إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون{[3765]}
هذه بعض آداب الإسلام في الدخول إلى بيوت الناس ، فإنه لا يحل لامرئ أن يدخل بيت أحد من الناس إلا أن يستأذن . فإن أذن له دخل . وذلك لما للبيوت من حرمات لا يجوز هتكها أو المساس بها إلا أن يؤذِنَ الداخلُ أهلَ البيت أنه آت ، فإن أذنوا له وإلا عاد ومضى في سبيله . أما بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أشدُّ حرمة وأعظمُ قداسة وطهرا وأجدر أن تحاط بالتكريم والإجلال والمهابة أكثر من غيرها من البيوت . وهذا هو قوله سبحانه وتعالى مخاطبا المؤمنين : { لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ } { غير } ، منصوب على الحال من واو الجماعة في قوله { تَدْخُلُوا } {[3766]} و { إِنَاهُ } ، يعني وقت نضجه وإدراكه . وفعله أنى يأني ، بوزن رمى يرمي ، نقول : انتظرنا إنى الطعام أي إدراكه . ويقال : أنى الطعام أنىً وإني . وأنى الحميم أي انتهى حره ، ومنه قوله : { حميم آن } {[3767]}
والمعنى : لا تدخلوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يأذن لكم في الدخول أو يطعمكم طعاما حاضرا لا تنتظرون نضجه ولا ترتقبون حضوره فيطول بذلك مقامكم في بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيتأذى منكم .
قوله : { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا } إذا نالوا حظهم من الطعام وجب عليهم الانتشار وهو الخروج من المنزل والتفرق . فإنه إذا تحقق المقصود وهو الإطعام لم يبق بعد ذلك أيما سبب للبقاء أو المكث وبذلك لزم الخروج والتفرق .
قوله : { وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } معطوف على قوله : { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أي لا تمكثوا في البيت مستأنسين بالحديث كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وليمة زينب .
قوله : { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ } المكث في البيت أو طول البقاء فيه من غير حاجة فيه إذاية لصاحب البيت . والإذاية أو الأذيّة كل ما تكرهه النفس مما فيه إساءة أو ضيق أو حرج . وذلك محرم على المسلمين فيما بينهم . فلا جرم أن تكون الإذاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغ في التحريم .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء . فطبعه وجبلَّتهُ الحياء وهو يتأذى من طول مكثكم من غير حاجة إذا كان يستحيي أن يبين لكم ما به من ضيق .
قوله : { وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } أي لا يمتنع الله من بيان الحق وإظهاره .
قوله : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } روي عن أنس قال : قال عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) قلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فأزل الله تعالى آية الحجاب{[3768]} ، وهي قوله : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } اختلفوا في المراد بالمتاع هنا ، فقيل : العارية من العواري . وقيل : الحاجة من الحاجات وقيل : الفتوى من الفتاوى . وقيل غير ذلك : والصواب أن المتاع عام في جميع ما يطلبه الناس من المواعين وسائر المرافق .
وذلك لأمر من الله للمسلمين إذا سألوا نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من الأشياء أو حاجة من الحاجات كفتوى أو استفسار عن مسألة ، أن لا يخاطبوهن أو يسألوهن إلا من وراء ستار بينهم وبينهن . وكذلك نساء المسلمين فإنه لا مساغَ للمسلمين أن يسألوهن أو يخاطبوهن إلا من وراء ستار وأن لا يدخلوا عليهن بيوتهن .
قوله : { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } أطهر من الخواطر التي تعرض للرجال من أمر النساء ، وللنساء من أمر الرجال وكيلا يكون للشيطان عليكم وعليهن سبيل . وسرعان ما ينفذ الشيطان اللعين إلى نفس الناظر والمنظور كليهما . وذلك لدى التخاطب بينهما في البيوت أو الخلوات . ومن أجل ذلك قطعت الشريعة الإسلامية كل سبيل للشيطان وكل احتمالات الوساوس والخواطر المريبة التي تؤزّ النفس وتثير فيها الانفعال والتململ بعد السكينة والرقاد .
ويستدل من هذه الآية الكريمة أنه ما ينبغي لأحد من الناس أن يثق بنفسه في الخلوة بامرأة أجنبية . فإن مجانبة الخلوة بالأجنبية أحصن للنفس ، وأنفى للريبة ، وأبعد للتهمة ، وهذه حقيقة ظاهرة للعيان فلا يجهلها إلا الجاهلون ، ولا يجحده إلا الأفاكون السادرون في الخطيئة والغواية والفسق . حقيقة الحيلولة دون الخلوة المريبة بين الذكر والأنثى . فهما ما يلبثان أن يختليا مرات مكرورة حتى يختلج في نفسيهما طارق الفتنة المنبعثة ، ووخز الغريزة المشبوبة الحرّى .
إنها حقيقة نبَّه إليها الإسلام أشدَّ تنبيه ، صرفا للفتنة ، وصونا للهمم أن تلين ، ودرءا للفحات الشهوة أن تستفحل وتستعر . حقيقة قد غفل عنها صانعو الحضارة المادية الحديثة الذين غرروا بالمجتمعات أشنع تغرير فانتكسوا بها إلى الحضيض من التهتك والتفكك والإباحية .
قوله : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا } ذلك تكرار للنهي عن إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بمختلف وجوه الإذاية . ثم نهى سبحانه عن نكاح أزواجه من بعده ، فزوجاته صلى الله عليه وسلم أمهات للمسلمين في حياته وبعد مماته . وهذه من خصوصياته صلى الله عليه وسلم . فقد خصَّه الله بجملة أحكام لم يشاركه فيها أحد ، تنبيها لرشفه المميز ، وعلو منزلته الفضلى . وليت شعري هل لامرئ فيه مسكة من عقل أو بقية من طبع سليم يجترئ على مجرد الرغبة في واحدة من زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهن الأمهات الفضليات لسائر المؤمنين في الدنيا والآخرة ؟ !
قوله : { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } الإشارة إلى إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذلك بأي وجه من وجوه الإيذاء من القول أو الفعل . وكذلك نكاح أزواجه من بعده فإن ذلك جُرم عظيم وهو من أكبر الكبائر .