ولما علم بما قام من الأدلة وانتصب من القواطع أن هذا مآلهم ، سبب عنه قوله رداً على ما بعد خلق الخافقين في مطلعها من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونسبتهم له إلى الافتراء وما بعده : { فاصبر } أي على مشاق ما ترى في تبليغ الرسالة ، قال القشيري : والصبر هو الوقوف بحكمِ الله والثبات من غير بث ولا استكراه . { كما صبر أولوا العزم } أي الجد في الأمر والحزم في الجد والإرادة المقطوع بها والثبات الذي لا محيد عنه ، الذين مضوا في أمر{[59206]} الله مضياً كأنهم أقسموا عليه فصاروا كالأسد{[59207]} في جبلته{[59208]} والرجل الشديد الشجاع المحفوف بقبيلته ، قال الرازي في اللوامع : فارقت نفوسهم الشهوات والمنى فبذلوا نفوسهم لله صدقاً لاتفاق{[59209]} النفس القلب على البذل .
ولما تشوف السامع-{[59210]} إلى بيانهم قال : { من الرسل } عليهم الصلاة والسلام ، وقيل وهو ظاهر جداً : أن " من " للتبعيض ، والمراد بهم أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تأسيس قواعدها وتثبيت معاقدها ، ومشاهيرهم{[59211]} نوح وإبراهيم وموسى وعيسى{[59212]} صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وقد نظمهم بعضهم في قوله :
أولو العزم نوح والخليل بن آزر *** وموسى وعيسى والحبيب محمد
والخلاف في تعيينهم كثير منتشر هذا{[59213]} القول أشهر ما فيه ، وكله مبني على أن " من " للتبعيض وهو الظاهر ، والقول بأنهم جميع الرسل - قال ابن الجوزي - قاله ابن زيد واختاره ابن الأنباري وقال : " من " للتجنيس لا للتبعيض ، وفي قول أنهم جميع الأنبياء إلا يونس عليه الصلاة والسلام - قال ابن الجوزي : حكاه الثعلبي .
ولما أمره بالصبر الذي هو من أعلى الفضائل ، نهاه عن العجلة التي هي من أمهات الرذائل ، ليصح التحلي بفضيلة الصبر الضامنة للفوز والنصر فقال : { ولا تستعجل لهم } أي تطلب العجلة وتوجدها بأن تفعل شيئاً مما يسوءهم في غير حينه الأليق به . ولما كان ما أمر به ونهى عنه في غاية الصعوبة ، سهله بقوله مستأنفاً : { كأنهم يوم يرون } أي في الدنيا عند الموت مثلاً أو في الآخرة {[59214]}وقت العرض والحساب والهول الأعظم الأكبر الذي تقدمت الإشارة إليه جداً والتحذير منه لأهل المعاصي والبشارة فيه لأهل الطاعة ، فأما هذه الطائفة فإذا رأوا{[59215]} { ما يوعدون } من ظهور الدين في الدنيا والبعث في الآخرة{[59216]} ، وبناه للمفعول لأن المنكىء هو الإيعاد لا كونه من معين{[59217]} { لم يلبثوا } أي في الدنيا حيث كانوا عالين{[59218]} { إلا ساعة } .
ولما كانت الساعة قد يراد بها الجنس وقد تطلق على الزمن الطويل ، حقق أمرها وحقرها بقوله : { من نهار } ولما تكفل ما ذكر في هذه السورة من الحجج الظاهرة والبراهين الباهرة ببيان ما هو مقصودها بحيث لم يبق فيه لبس ، وكان مقصودها آئلاً{[59219]} إلى سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وهو التوحيد اللازم منه إحاطة العلم بكل شيء وشمول القدرة لكل شيء ختمت{[59220]} بما ختمت به إبراهيم إلا أن لحواميم لباباً ، حذف المبتدأ ومتعلق الخبر وقيل : { بلاغ } أي هذا الذي-{[59221]} ذكر هنا هو-{[59222]} من الظهور وانتشار النور بحيث يرد المنذرين ويوصلهم إلى رضى العزيز الحكيم الكافل بالنور الدائم والنعيم المقيم ، ومن لم يوصله فذلك الذي حكم العزيز بشقائه فلا حيلة لغيره في شفائه من عظيم دائه ، ولذلك سبب عن كونه بلاغاً قوله زيادة على ختام إبراهيم ما يناسب مطلعها : { فهل يهلك } بني للمفعول من أهلك{[59223]} ، لأن المحذور الهلاك وإن لم يعين المهلك{[59224]} ، وللدلالة على أن إهلاكهم عليه سبحانه وتعالى يسير جداً { إلا القوم } الذين فيهم أهلية القيام بما يحاولونه من اللدد{[59225]} { الفاسقون * } أي العريقون في إدامة الخروج من محيط ما يدعو إليه هادي العقل والفطرة الأولى من الطاعة الآتي بها النقل إلى مضل المعصية الناهي عنها النقل والعقل ، وأما الذين فسقوا والذين يفسقون فإن هادي هذه السورة يردهم ويوصلهم إلى المقصود ، فهذا الآخر نتيجة قوله أولها { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } وذكر اليوم الموعود{[59226]} هو الأجل الذي{[59227]} أوجد الخافقان{[59228]} {[59229]}لأجله و{[59230]}بسببه والدلالة على القدرة بخلقهما{[59231]} من غير إعياء هو ذكره أولهما أنهما ما خلقا إلا بالحق ، وذكر البلاغ هو تنزيل الكتاب من الله وحكمه على العريق بالفسق بالهلاك مع الهادي الشفيق ولغيره{[59232]} بالنجاة بعد{[59233]} انسيابه في الفسق مع التكرر{[59234]} هو من ثمرات العزة والحكمة ، فقد التحم هذا الآخر بذاك الأول أيّ التحام ، واتصل{[59235]} بمعناه اتصال الجوهر النفيس في متين النظام ، والتأم بأول{[59236]} التي تليها أحسن التئام{[59237]} فسبحان من جعله{[59238]} أشرف الكلام ، لكونه صفة الملك العلام ، منزلاً{[59239]} على خاتم الرسل الكرام ، {[59240]}ورسول - الملك العلام - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأهل بيته الكرام وسلم تسليماً كثيراً{[59241]} .
فهذا الآخر نتيجة قوله أولها { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } وذكر اليوم الموعود هو الأجل الذي أوجد الخافقان لأجله وبسببه والدلالة على القدرة بخلقهما من غير إعياء هو ذكره أولهما أنهما ما خلقا إلا بالحق ، وذكر البلاغ هو تنزيل الكتاب من الله وحكمه على العريق بالفسق بالهلاك مع الهادي الشفيق ولغيره بالنجاة بعد انسيابه في الفسق مع التكرر هو من ثمرات العزة والحكمة ، فقد التحم هذا الآخر بذاك الأول أيّ التحام ، واتصل بمعناه اتصال الجوهر النفيس في متين النظام ، والتأم بأول التي تليها أحسن التئام فسبحان من جعله أشرف الكلام ، لكونه صفة الملك العلام ، منزلاً على خاتم الرسل الكرام ، ورسول - الملك العلام - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأهل بيته الكرام وسلم تسليماً كثيراً .
قوله : { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } ذلك أمر من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالتأسي بإخوانه المرسلين الذين احتملوا المكاره والشدائد وصبروا على مساءات أقوامهم وشرورهم . وخص منهم أرباب الثبات والبأس وقوة الاحتمال وهم أولو العزم ، أي الحزم والصبر والثبات ، وهم على الراجح خمسة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام .
قوله : { ولا تستعجل لهم } أي بالدعاء عليهم أن يحيق بهم العذاب بل اصبر واحتمل كما صبر المرسلون المقربون أولو الجد والهمم العالية ، فعسى أن يؤمنوا فتنشأ عنهم أمم وأجيال على منهج الله وعقيدة الإسلام .
قوله : { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } إذا عاين الخاسرون النار وأيقنوا أنها مستقرهم ومأواهم أحسوا حينئذ كأنهم لم يلبثوا في دنياهم غير ساعة من ساعات النهار { بلاغ } مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : هذا بلاغ . ويجوز النصب على أنه مصدر{[4221]} يعني هذا الذي وعظتم به فيه كفاية لكم من الذكرى .
قوله : { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } أي هل يهلك إلا الخارجون عن أمر الله أو عن الاتعاظ بهذا البلاغ والعمل بمقتضاه . وبذلك لا يهلك بعذاب الله إلا الضالون الخارجون عن طاعة ربهم . وقيل : لا يهلك على الله إلا هالك . وقيل : هذه الآية أقوى آية في الرجاء{[4222]} .