نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{قُلِ ٱدۡعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدۡعُواْ ٱلرَّحۡمَٰنَۖ أَيّٗا مَّا تَدۡعُواْ فَلَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَلَا تَجۡهَرۡ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتۡ بِهَا وَٱبۡتَغِ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلٗا} (110)

ولما كان إيمان أهل العلم الأول به وإذعانهم له وتركهم لأديانهم - التي أخذوها عن الأنبياء الآتين إليهم بالكتب لأجله بعد إقامة الدليل القاطع على أنه من عند الله - موجباً لكل من له أدنى إنسانية أن يؤمن به ويقبل عليه ويدعو من أنزله دون غيره دائماً ، لا في أوقات الشدة فقط { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } وكانت أوقات الإجابة أولى بالدعاء من غيرها ، وكانت حالة السجود لا سيما مع البكاء والخشوع أولاها " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " كان المعاندون من العرب كأنهم قالوا لأن ذلك من شأنهم ومن حقهم بعد ما قام من الأدلة : آمناً فعلِّمنا كيف ندعو وبأيّ اسم نهتف ؟ ولما كان الجلالة هو الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى ، وكان قد ورد في النحل من التنويه به ما لم يرد في غيرها لما تقدم من الأسرار مع أنه عد فيها من النعم ما لم يعد في غيرها ، ومنها تعليم الإنسان البيان ، وذلك أليق باسم الرحمن

{ الرحمن علم القرآن }[ الرحمن : 1 ] الآيات ، وكانت الرحمة دنيوية وأخروية من الخالق ومن الخلائق قد كررت في هذه السورة ثماني مرات { عسى ربكم أن يرحمكم } ، { جناح الذل من الرحمة } ، { وقل رب ارحمهما } { ابتغاء رحمة من ربك } ، { ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم } ، { إنه كان بكم رحيماً } ، { إلا رحمة من ربك } خزائن رحمة ربي وكان ذلك ظاهراً في إرادة عمومها ، فكان اسم الرحمن به أليق ، وقع الجواب بقوله تعالى : { قل ادعوا الله } أي الملك الأعظم ذا الجلال والإكرام في ذات إحاطته { أو ادعوا الرحمن } في معنى استغراقه بالرحمة ، أي سموا - أي أوقعوا الدعاء مسمين في حال دعائكم - ربكم الذي سبحتموه في السجود بأي اسم أردتم مما أذن فيه ، فاهتفوا بهذا الاسم الدال على الجلال ، واستحقاق مسماه الدعاء لذاته ، أو بهذا الاسم الدال على الجمال واستحقاقه الدعاء لإنعامه ، مطلقاً وفي حالة السجود { أيّاً ما تدعوا } أي به من أسمائه فقد حصلتم به على القصد ، فإن المسمى واحد وإن تعددت أسماؤه الدالة على الشرف . ولما كان في الرحمن جمال ظاهر في باطنه جلال ، لأن عموم الرحمة لبعض نعمة ، ولبعض استدراج ونقمة ، فكان لذلك جامعاً لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى ، سبب عن ذكر كل من الاسمين : العلم الجامع ، والوصف الواقع موقعه ، قوله : { فله } أي المسمى بهذين الاسمين وحده ، وهو الواحد الأحد { الأسماء الحسنى } هذان الاسمان وغيرهما مما ورد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو دال على التحميد والتمجيد والتقديس والتعظيم ، فهذا الضمير استخدام ، وقد تضمن هذا القول أن معنى اسم الرحمن أشمل من اسم الرحيم وإن كان بناء كل منهما للمبالغة ؛ قال الإمام أبو الحسن الحرالي رحمه الله في شرحه للأسماء الحسنى : الرحمانية استغراق الخلق بالرحمة في إنشائهم ، والرحيمية إجراء الخلق على ما يوافق حسهم ويلائم خَلقهم وخُلقهم ومقصد أفئدتهم ، فإذا اختص ذلك بالبعض كان رحيمية ، وإذا استغرق كان رحمانية ولاستغراق معنى اسم الرحمن لم يكن لتمام معناه وجود الخلق ، فلم يجر بحق على أحد منهم ، وإنما يوجد فيهم حظ خاص من معناه يجري عليهم به اسم الرحيم لا اسم الرحمن ، فلذلك لحق اسم الرحمن في معنى استغراقه باسم الله في ذات إحاطته فقال تعالى { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } فإذا تحقق القلب اختصاصه بالله علماً كان أصلاً للفظ به قولاً فعلمت أنه لا رحمن إلا الله كما أنه لا إله إلا الله ، ولحق باسم الإله فقد علم فقد التمام لمعناه في الخلق كما قد فقد أصل علم الاعتبار من معناه في اسم إله ، والتوحيد في اسم الرحمن واجب لاحق بالفرض في توحيد الإله ، ولذلك ولي اسم الله في موارده في الكتب وفي هذا التعديد أي الوارد في حديث الترمذي والبزار وغيرهما من أسماء الله الحسنى عن أبي هريرة رضي الله عنه - انتهى .

وقد مر في آخر الحجر ما ينفع هنا .

ولما ذكر السجود وعقبه بالدعاء ، أشار إلى أنه في كل حالة حسن ، وفي الصلاة أولى وأحسن ، بعد أن ذكر قريباً الصلوات الخمس ، وكان ربما فهم من قوله { إن قرءان الفجر كان مشهوداً } ، ومن قوله : { إذا يتلى عليهم } قوة الجهر به قال تعالى : { ولا تجهر بصلاتك } أي بقراءتك فيها ، أو سمى القراءة صلاة لأنها شرط فيها جهراً قوياً حتى تسمعه المشركون ، فإن المخالفين قد عرف عنادهم فلا يؤمن سبهم للقرآن ولمن أنزله ولمن جاء به ، بل كانوا يفعلون ذلك ويلغون ، وربما صفقوا وصفروا ليغلطوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويخلطوا عليه قراءته { ولا تخافت } أي تسر { بها } إسراراً بليغاً كأنك تناظر فيه آخر بحيث لا تسمع من وراءك ليأخذوه عنك { وابتغ } أي اطلب بغاية جهدك { بين ذلك } أي الجهر والمخافتة التي أفهمت أداة البعد عظمة شأنهما { سبيلاً * } أي طريقاً وسطاً ؛ روى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال : نزلت ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مختفٍ بمكة ، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم { ولا تجهر بصلاتك } أي بقراءتك ، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن { ولا تخافت بها } عن أصحابك فلا تسمعهم - انتهى .

أطلق هنا اسم الكل على الجزء إشارة إلى أن المقصود الصلاة وفيما تقدم اسم الجزء على الكل لأن المقصود الأعظم هناك القراءة في الفجر ، وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن هذه الآية نزلت في الدعاء ، وقد تقدم غير مرة أنه ليس ببدع أن يكون للشيء أسباب كثيرة .