نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{۞إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ} (76)

ولما دل على عجزهم في تلك الدار ، وعلمهم أن المتصرف في جميع الأقدار ، إنما هو الواحد القهار ، دل على أن ذلك له أيضاً في هذه الدار وقوع العلم به بإهلاك أولي البطر ، والمرح والأثر ، من غير أن يغنوا عمن أضلوا ، أو يغني عنهم من أضلهم من ناطق ، وما أضلهم من صامت ، تطبيقاً لعموم { وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها } على بعض الجزئيات ، تخويفاً لمن كذب النبي صلى الله عليه وسلم ، لا سيما من نسبه إلى السحر ، وإعلاماً بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقاطعون الأشقياء وإن كانوا أقرب الأقرباء ، لأنه سبحانه عذب قارون ومن كان معه بعذاب لم يسبقهم فيه أحد ، وهم من بني إسرائيل ومن أقرب بني إسرائيل إلى موسى عليه الصلاة والسلام ، فعلم كل من كان اغتر بما أوتيه أن الحق لله في كل ما دعت إليه رسله ، ونطقت به كتبه ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ، ولم يغن عنهم شيئاً ما اعتمدوا عليه ، فكان معبودهم في الحقيقة مما جمعوه من حطام الدنيا فاعتقدوا أنهم نالوا به السعادة الدائمة والعز الباقي ، فكان مثله - كما يأتي في التي بعده - كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً ، وكل ذلك بمرأى من موسى عليه الصلاة والسلام حين كذبه ونسبه إلى السحر وتكبر عليه ، فلم يسأل الله تعالى فيه لخروجه باستكباره من الوعد بالمنة على الذين استضعفوا في الأرض ، وكان ذلك العذاب الذي عذبوا به من جنس ما عذب به فرعون في الصورة من حيث إنه تغييب وإن كان ذلك في مائع ، وهذا صلب جامد ، ليعلم أنه قادر على ما يريد ، ليدوم منه الحذر ، فيما سبق منه القضاء والقدر ، ونزع موسى عليه الصلاة والسلام من كل سبط من أسباط بني إسرائيل شهيداً من عصيهم وقال لهم : هاتوا برهانكم فيها ، فعلموا بإبراق عصا هاورن عليه الصلاة والسلام دون عصيهم أن الحق لله في أمر الحبورة وفي جميع أمره فقال : { إن قارون } ويسمى في التوراة قورح ، ثم بين سبب التأكيد بقوله : { كان } أي كوناً متمكناً { من قوم موسى } تنبيهاً على أنه جدير بأن ينكر كونه كذلك لأن فعله معهم لا يكاد يفعله أحد مع قومه ، وذلك أنه كان من الذين آمنوا به وقلنا فيهم { ونريد أن نمن على الذين } إلى آخره ، لأنه ابن عم موسى عليه الصلاة والسلام على ما حكاه أبو حيان وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما { فبغى عليهم } أي تجاوز الحد في احتقارهم بما خولناه فيه من هذا الحطام المتلاشي ، والعرض الفاني ، فقطع ما بينه وبينهم من الوصلة ، ووصل ما بينه وبين فرعون وأضرابه ، من الفرقة ، فأخرجه ذلك من حوزة المنة والأمانة والوراثة إلى دائرة الهلاك والحقارة والخيانة ، كما بغى عليهم فرعون ؛ وكان أصل " بغى " هذه : أراد ، لكن لما كان العبد لا ينبغي أن يكون له إرادة ، بل الإرادة لسيده كما نبه عليه { ما كان لهم الخيرة } ، جعلت إرادته تجاوز الحد ، وعديت ب " على " المقتضية للاستعلاء تنبيهاً على خروجها عن أصلها .

ولما ذكر بغيه ، ذكر سببه الحقيقي ، فقال : { وآتيناه } أي ومع كوننا أنعمنا عليه بجعله من حزب أصفيائنا آتيناه بعظمتنا { من الكنوز } أي الأموال المدفونة المدخرة ، فضلاً عن الظاهرة التي هي بصدد الإنفاق منها لما عساه يعرض من المهمات { ما } أي الذي أو شيئاً كثيراً لا يدخل تحت حصر حتى { إن مفاتحه } أي مفاتح الأغلاق التي هو مدفون فيما وراء أبوابها { لتنوء } أي تميل بجهد ومشقة لثقلها { بالعصبة } أي الجماعة الكثيرة التي يعصب - أي يقوي - بعضهم بعضاً ، وفي المبالغة بالتعبير بالكنوز والمفاتيح والنوء والعصبة الموصوفة ما يدل على أنه أوتي من ذلك ما لم يؤته أحد ممن هو في عداده ، وكل ذلك مما تستبعده العقول ، فلذلك وقع التأكيد { أولي القوة } أي تميلهم من أثقالها إياهم ، والنوء : الميل ، قال الرازي : والنوء : الكوكب مال عن العين عند الغروب ، يقال : ناء بالحمل - إذا نهض به مثقلاً ، وناء به الحمل - إذا أماله لثقله .

ولما ذكر بغيه ، ذكر وقته ، والوقت قد يكون واسعاً كما نقول : جرى كذا عام كذا ، وفيه التعرض للسبب القريب فقال : { إذ قال له } وقال : { قومه } إشارة إلى تناهي بغيه بافتخاره وكبره على أقاربه الذين جرت العادة أن لا يغضب كلامهم ولا يؤرث التعزر عليهم ولا يحمل إلا على النصح والشفقة ، وساغت نسبة القول للكل وإن كان القائل البعض ، بدليل ما يأتي ، إما عداً للساكت قائلاً لرضاه به لأنه مما لا يأباه أحد ، وإما لأن أهل الخير هم الناس ، ومن عداهم عدم : { لا تفرح } أي لا تسر سروراً يحفر في قلبك فيتغلغل فيه فيحرفك إلى الأشر والمرح ، فإن الفرح بالعرض الزائل يدل على الركون إليه ، وذلك يدل على نسيان الآخرة ، وذلك على غاية الجهل والطيش وقلة التأمل للعواقب ، فيجر إلى المرح فيجر إلى الهلاك ، قال الرازي : ومن فرح بغير مفروح به استجلب حزناً لا انقضاء له ، وعللوا نهيهم له بما يفهم أشد الشفقة والمحبة فقالوا مؤكدين لاستبعاد من يرى تواصل النعم السارة على أحد أن يكون غير محبوب : { إن الله } أي الذي له صفات الكمال فلا شيء أجل منه ، فبه ينبغي أن يفرح { لا يحب } أي لا يعامل معاملة المحبوب { الفرحين* } أي الراسخين في الفرح بما يفنى ، فإن فرحهم يدل على سفول الهمم .