التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۖ بَل لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ كُلّٞ لَّهُۥ قَٰنِتُونَ} (116)

{ وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ { 116 } بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ { 117 } وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ { 118 } إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ { 119 } }

تعليق على الحلقة الثالثة عشرة

من سلسلة الآيات الواردة في اليهود

في الآيتين الأوليين : حكاية بأسلوب تنديدي لقول الذين يقولون : إن الله اتخذ ولداً وتنزيه له عن ذلك . فهو الذي أبدع السموات والأرض وخلقهما من العدم على هذا النظام البديع وهو الذي يخضع له كل ما فيهما . وهو الذي يقول للشيء إذا أراده كن فيكون ومثل هذا الإله منزه ومستغنٍ عن الولد والشريك والندّ .

وفي الآيتين الأخريين :

1- حكاية لاقتراح بعض الجاهلين أن يكلمهم الله أو تأتيهم منه آية بأسلوب فيه تحدّ وتعجيز .

2- وردّ تنديدي عليهم فهم في اقتراحهم وتعجيزهم كالذين من قبلهم ، وهذا مظهر من مظاهر تشابه القلوب والأخلاق .

3- وتنبيه إلى أن الله تعالى إنما أنزل آياته بينات لمن يريد أن يؤمن به ويرغب في الاهتداء إليه . وأن الله إنما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الحق وبشيراً ونذيراً وحسب .

4- وتسلية للنبي فهو غير مسؤول عن إيمان الذين خبثت سرائرهم وقست قلوبهم واستحقوا النار بوقوفهم موقف التعجيز والمكابرة .

وقد تعددت أقوال وروايات المفسرين {[214]} في من عنته الآيات فقالوا : إنهم النصارى ، وقالوا : إنهم اليهود ، وقالوا : إنهم المشركون . وكل من هؤلاء قد نسب الولد لله سبحانه وتعالى وفي سورة التوبة آية تحكي عقيدة اليهود بأن العزير ابن الله : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ { 30 } } أما دعوى المشركين والنصارى فقد حكتها آيات كثيرة مكية ومدنية . وقد حكت آيات مكية ومدنية كثيرة تحدي المشركين واليهود النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بالمعجزات ومنها ما هو من نوع ما ذكرته الآية الثانية {[215]} .

غير أن عطف الآيات على ما قبلها وكونها من سلسلة طويلة في حق بني إسرائيل وأفعالهم ومواقفهم يجعلنا نرجح أن اليهود هم المقصودون في الآيات . ولعل جملة { الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم } قرينة على أن المقصود هم اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان أجدادهم يطلبون من موسى أن يريهم الله جهرة تارة وأن يكلمهم الله تارة وأن يأتيهم بالآيات تارة على ما ذكرته بعض آيات السلسلة على سبيل التذكير والتنديد . وبهذا الذي نرجو أن يكون صواباً تكون هذه الآيات حلقة من سلسلة الآيات الواردة في يهود بني إسرائيل أيضا .

ولقد ورد أن وصف اليهود بجملة { لاَ يَعْلَمُونَ } فيه نظر ؛ لأنهم كانوا يوصفون بأهل العلم وأهل الكتاب ووصفوا بذلك في القرآن . وقد أجاب القاسمي على هذا جواباً سديداً وهو : أن الله تعالى نفى عنهم العلم بطلبهم ما طلبوا ؛ لأن ذلك لا يطلبه من عنده علم ، وقد يصح أن يزاد على هذا أن النفي من قبل التبكيت والتنديد والله أعلم .

ولقد روى الطبري في صدد الآية الثالثة عن محمد بن كعب القرظي وابن جريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم : «ليت شعري ما فعل أبواي ثلاثاً فأنزلها الله » . وقد فند الطبري الرواية وأول الجملة بتأويل مماثل لتأويلنا .

وهذه الجملة قد تكررت في مقامات عديدة نصا أو معنى ، ولا سيما في العهد المكي للهدف نفسه على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة ، ويظهر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاءها في هذا المقام في صدد ما كان من شدة إنكار اليهود وجحودهم ودسائسهم .

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثاً رواه البخاري أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «قال الله تعالى كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ ولداً » {[216]} . وفي الحديث تنديد رباني بالمشركين والجاحدين لليوم الآخر بأسلوب آخر غير الأسلوب القرآني الذي تكرر ذلك كثيراً لحكمة يعلمها الله ورسوله .


[214]:انظر تفسيرها في كتب التفسير السابقة الذكر
[215]:انظر آيات سورة آل عمران [183] والأنعام [158] والنحل [33] والفرقان [12]
[216]:التاج 4/37 و38 فصل التفسير