إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۖ بَل لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ كُلّٞ لَّهُۥ قَٰنِتُونَ} (116)

{ وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا } حكاية لطرفٍ آخرَ من مقالاتهم الباطلةِ المحكية فيما سلف معطوفةٌ على ما قبلها من قوله تعالى : { وَقَالَت } [ المائدة ، الآية : 18 ] الخ لا على صلةِ مَنْ لما بينهما من الجمل الكثيرة الأجنبيةِ ، والضميرُ لليهود والنصارى ومن شاركهم فيما قالوا من الذين لا يعلمون ، وقرئ بغير واو على الاستئناف نزلت حين قالت اليهودُ : عزيرٌ ابنُ الله والنصارى : المسيحُ ابنُ الله ومشركو العربِ : الملائكةُ بناتُ الله . والاتخاذُ إما بمعنى الصُنع والعمل فلا يتعدَّى إلا إلى واحد ، وإما بمعنى التصيير ، والمفعولُ الأول محذوف أي صَيَّر بعضَ مخلوفاته ولداً { سبحانه } تنزيهٌ وتبرئةٌ له تعالى عما قالوا وسبحانَ عَلَمٌ للتسبيح كعُثمانَ للرجل ، وانتصابُه على المصدرية ولا يكاد يُذكر ناصبُه أي أُسبِّحُ سبحانه أي أنزّهُه تنزيهاً لائقاً به وفيه من التنزيه البليغِ من حيث الاشتقاقُ من السبْح الذي هو الذهابُ والإبعادُ في الأرض ومن جهة النقلِ إلى التفعيل ومن جهة العُدول من المصدر إلى الاسمِ الموضوعِ له خاصةً لاسيما العلمُ المشيرُ إلى الحقيقة الحاضرةِ في الذهن ومن جهة إقامتِه مُقامَ المصدر مع الفعل ما لا يخفى ، وقيل : هو مصدر كغُفرانٍ بمعنى التنزُّه أي تنَزَّهَ بذاته تنزُّهاً حقيقاً به ففيه مبالغةٌ من حيث إسنادُ البراءةِ إلى الذات المقدسة وإن كان التنزيهُ اعتقادَ نزاهتِه تعالى عما لا يليق به لا إثباتَها له تعالى وقولُه تعالى : { بَل لَهُ مَا في السموات والأرض } رد لما زعموا وتنبيهٌ على بطلانه وكلمةُ ( بل ) للإضراب عما تقتضيه مقالتُهم الباطلةُ من مجانسته سبحانه وتعالى لشيء من المخلوقات ومن سرعة فَنائِه المَحوِجة إلى اتخاذ ما يقوم مَقامه فإن مجرد الإمكان والفَناء لا يوجب ذلك . ألا يُرى أن الأجرامَ الفَلَكيةَ مع إمكانها وفَنائِها بالآخرة مستغنيةٌ بدوامها وطولِ بقائها عما يجري مجرَى الولدِ من الحيوان أي ليس الأمرُ كما زعموا بل هو خالقٌ جميعَ الموجودات التي من جملتها عزيرٌ والمسيحُ والملائكة { كُلٌّ } التنوين عوضٌ عن المضاف إليه أي كلُّ ما فيهما كائناً ما كان من أولي العلم وغيرِهم { لَهُ قانتون } منقادون لا يستعصي شيءٌ منهم على تكوينه وتقديره ومشيئتِه ، ومن كان هذا شأنُه لم يُتصوَّرْ مجانستُه لشيء ، ومن حق الولدِ أن يكون من جنس الوالد ، وإنما جيءَ ( بما ) المختصةِ بغير أولي العلم تحقيراً لشأنهم وإيذانا بكمال بُعدِهم عما نسَبوا إلى بعضٍ منهم ، وصيغةُ جمع العقلاء في ( قانتون ) للتغليب أو كلُّ مَنْ جعلوه لله تعالى ولداً له قانتون أي مطيعون عابدون له معترفون بربوبيته تعالى { أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة } [ الإسراء ، الآية 57 ] .