محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۖ بَل لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ كُلّٞ لَّهُۥ قَٰنِتُونَ} (116)

{ وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون 116 } .

{ وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون } يريد الذين قالوا : المسيح ابن الله ، وعزيرٌ ابن الله ، والملائكة بنات الله . فأكذب الله تعالى جميعهم في دعواهم وقولهم : إن لله ولدا . فقال : { سبحانه } أي تقدس وتنزه عما زعموا تنزها بليغا . وكلمة { بل } للإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من مجانسته سبحانه وتعالى لشيء من المخلوقات . أي ليس الأمر كما زعموا ، بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عزير والمسيح والملائكة ، والتنوين في { كل } عوضٌ عن المضاف إليه . أي كل ما فيهما ، كائنا ما كان من أولي العلم وغيرهم { له قانتون } منقادون ، لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته ، ومن كان هذا شأنه لم يتصور مجانسته لشيء . ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد .

قال الراغب في ( تفسيره ) : نبه على أقوى حجة على نفي ذلك . وبيانها : هو أن لكل موجود في العالم ، مخلوقا طبيعيا ، أو معمولا صناعيا ، غرضا وكمالا أوجد لأجله . وإن كان قد يصلح لغيره على سبيل العرض ، كاليد للبطش ، والرجل للمشي ، والسكين لقطع مخصوص ، والمنشار للنشر ، وإن كانت اليد قد تصلح للمشي في حال ، والرِّجل للتناول ، لكن ليس على التمام . والغرض في الولد للإنسان إنما هو لأن يبقى به نوعه ، وجزء منه ، لما لم يجعل الله له سبيلا إلى بقاءه بشخصه ، فجعل له بذرا لحفظ نوعه . ويقوي ذلك ، أنه لم يجعل للشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية بذرا واستخلافا ، لما لم يجعل لها فناء النبات والحيوان . ولما كان الله تعالى هو الباقي الدائم ، بلا ابتداء ولا انتهاء ، لم يكن لاتخاذه الولد لنفسه معنى . ولهذا قال : { سبحانه أن يكون له ولد } أي هو منزه عن السبب المقتضي للولد . ثم لما كان اقتناء الولد لفقر ما ، وذلك لما تقدم ، أن الإنسان افتقر إلى نسل يخلفه لكونه غير كامل إلى نفسه – بيّن تعالى بقوله : { له ما في السماوات والأرض } أنه لا يتوهم له فقر ، فيحتاج إلى اتخاذ ما هو سدٌّ لفقره ، فصار في قوله : { له ما في السماوات والأرض } دلالة ثانية . ثم زاد حجة بقوله : { قانتون } وهو أنه لما كان الولد يعتقد فيه خدمة الأب ومظاهرته كما قال : { وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } {[707]} بيّن أن كل ما في السماوات والأرض ، مع كونه ملكا له ، قانت أيضا ، إما طائعا ، وإما كارها ، وإما مسخرا . كقوله : { يسجد له من في السماوات والأرض طوعا وكرها } {[708]} وقوله : { وإن من شيء إلا يسبّح بحمده } {[709]} وهذا أبلغ حجة لمن هو على المحجة .

ثم قال الراغب : إن قيل من أين وقع لهم الشبهة في نسبة الولد إلى الله تعالى ؟ قيل قد ذكر في الشرائع المتقدمة : كانوا يطلقون على البارئ تعالى اسم الأب وعلى الكبير منهم اسم الإله ، حتى إنهم قالوا : إن الأب هو الرب الأصغر وإن الله هو الأب الأكبر ، وكانوا يريدون بذلك أنه تعالى هو السبب الأول في وجود الإنسان ، وإن الأب هو السبب الأخير في وجوده وإن الأب هو معبود الابن من وجه أي مخدومه . وكانوا يقولون للملائكة : آلهة . كما قالت العرب للشمس : إلاهة . وكانوا يقصدون معنى صحيحا كما يقصد علماؤنا بقولهم : الله محب ومحبوب ، ومريد ومراد ونحو ذلك من الألفاظ . كما يقال للسلطان : الملك . وقول الناس : رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك ، مما يكشف عن تقدم ذلك التعارف . ويقوي ذلك ما يروى أن يعقوب كان يقال له بكر الله ، وأن عيسى كان يقول : أنا ذاهب إلى أبي . ونحو ذلك من الألفاظ . ثم تصور الجهلة منهم ، بأخرة ، معنى الولادة الطبيعية . فصار ذلك منهيا عن التفوه به في شرعنا ، تنزها عن هذا الاعتقاد ، حتى صار إطلاقه ، وإن قصد به ما قصده هؤلاء ، قرين الكفر ، اه كلام الراغب رحمه الله .


[707]:[16/ النحل/ 72} ونصها: {واللّه جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطّيّبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة اللّه هم يكفرون 72}.
[708]:[13/ الرعد/ 15] ونصها: {وللّه يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدوّ والآصال 15}.
[709]:[17/ الإسراء/ 44} ونصها: {تسبّح له السماوات السّبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا 44}.