الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۖ بَل لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ كُلّٞ لَّهُۥ قَٰنِتُونَ} (116)

قوله تعالى : { وقالوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ } : الجمهورُ : " وقالوا " بالواوِ عطفاً لهذِه الجملةِ الخبريةِ على ما قبلَها وهو أحسنُ في الربط . وقيل : هي معطوفةً على قوله : " وسعى " فيكونُ قد عَطَفَ على الصلة مع الفعلِ بهذه الجملِ الكثيرة ، وهذا ينبغي أن يُنَزَّه القرآنُ عن مِثْله . وقرأ ابن عامر - وكذلك هي في مصاحف الشام - " قالوا " من غير واوٍ ، وذلك يَحْتمل وجهين ، أحدُهما : الاستئنافُ . الثاني : حَذْفُ حرفِ العطفِ وهو مرادٌ ، استغناء عنه بربطِ الضميرِ بما قبلَ هذه الجملةِ . و " اتَّخَذَ " بجوزُ أن يكونَ بمعنى عَمِل وَصنَع ، فيتعدَّى لمفعولٍ واحدٍ ، وأن يكونَ بمعنى صَيَّر ، فيتعدَّى لاثنين ، ويكونُ الأولُ هنا محذوفاً تقديرُه : " وقالوا اتَّخذَ اللهُ بعضَ الموجودات ولداً " إلا أنَّه مع كثرةِ دَوْرِ هذا التركيبِ لم يُذْكَرْ معها إلا مفعولٌ واحدٌ : { وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً } [ الأنبياء : 26 ] ، { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ } [ المؤمنون : 91 ] { وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [ مريم : 92 ] . والوَلَدُ : فَعَل بمعنى مَفْعول كالقَبْض والنَّقْص ، وهو غيرُ مقيسٍ ، والمصدرُ : الوِلادة والوَليديَّة ، وهذا الثاني غريبٌ جداً .

قوله : { بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } " بَلْ " إضرابٌ وانتقالٌ ، و " له " خبرٌ مقدَّمٌ و " ما " مبتدأ مؤخرٌ ، وأتى هنا ب " ما " لأنه إذا اختلَطَ العاقلُ بغيره كان المتكلمُ مُخَيَّراً في " ما و " مَنْ " ، ولذلك لَمَّا اعتَبَر العقلاءَ غلَّبهم في قوله " قانتون " فجاء بصيغةِ السلامةِ المختصَّةِ بالعقلاء . قال الزمخشري " فإن قلت : كيف جاءَ ب " ما " التي لغير أولي العلمِ مع قوله " قانتون " ؟ قلت : هو كقولِه :

" سبحانَ ما سَخَّركُنَّ " وكأنه جاء ب " ما " دون " مَنْ " تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنِهِمْ ، وهذا جنوحٌ منه إلى أنَّ " ما " قد تقع على أولي العلمِ ، ولكنَّ المشهورَ خلافُه . وأمَّا قولُه " سبحانَ ما سَخَّركُنَّ لنا " فسبحانُ غَيرُ مضافٍ ، بل هو كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . سبحان مِنْ علقمةَ . . . . . . . . . . . . . .

و " ما " مصدرية ظرفية .

قوله : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } مبتدأٌ وخبرٌ ، و " كلٌّ " مضافَةٌ إلى محذوفٍ تقديراً ، أي : كلُّ مَنْ في السموات والأرض ، وقال الزمخشري : " ويجوزُ أن يكونَ كلَّ مَنْ جَعَلوه لله وَلَداً " قال الشيخ : " وهذا بعيدُ جداً لأن المجعولَ ولداً لم يَجْرِ له ذِكْرٌ ، ولأنَّ الخبرَ يشتركُ فيه المجعولُ [ ولداً ] وغيرُه " قوله : " لم يَجْرِ له ذِكْر " بل قد جَرَى ذِكْرُه فلا بُعْدَ فيه .

وجَمَعَ " قانِتون " حَمْلاً على المعنى لِما تقدَّم من أَنَّ " كُلاًّ " إذا قُطِعَتْ عن الإِضافة جاز فيها مراعاةُ اللفظِ ومراعاةُ المعنى وهو الأكثر نحو :

{ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [ النمل : 87 ] . ومِنْ مراعاةِ اللفظِ : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } [ الإسراء : 84 ]

{ فكُلاًّ أَخَذْنا بذَنْبِه } [ العنكبوت : 40 ] ، وحَسُنَ الجمعُ هنا لتواخي رؤوسِ الآي . والقُنُوت : الطاعةُ والانقيادُ أو طولُ القيام أو الصمتُ أو الدعاءُ .