البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۖ بَل لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ كُلّٞ لَّهُۥ قَٰنِتُونَ} (116)

الولد : معروف ، وهو فعل بمعنى مفعول ، كالقبض والنقض ، ولا ينقاس فعل بمعنى مفعول ، وفعله : ولد يلد ولادة ووليدية ، وهذا المصدر الثاني غريب .

القنوت : القيام ، ومنه أفضل الصلاة طول القنوت ، أي القيام والطاعة والعبادة والدعاء .

قنت شهراً : دعا .

{ وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه } : نزلت في اليهود ، إذ قالوا : { عزير ابن الله } أو في النصارى ، إذ قالوا : { المسيح ابن الله } أو في المشركين ، إذ قالوا : الملائكة بنات الله ، أو في النصارى والمشركين ، أقوال أربعة ، والأخير قاله الزجاج .

ولاختلافهم في سبب النزول ، اختلفوا في الضمير في وقالوا ، على من يعود ؟ فقيل : هو عائد على الجميع من غير تخصيص .

فإن كلاً منهم قد جعل لله ولداً ، قاله ابن إسحاق ، والجمهور على قراءة : وقالوا بالواو ، وهو آكد في الربط ، فيكون عطف جملة خبرية على جملة مثلها .

وقيل : هو عطف على قوله : { وسعى في خرابها } ، فيكون معطوفاً على معطوف على الصلة ، وفصل بينهما بالجمل الكثيرة ، وهذا بعيد جداً ، ينزه القرآن عن مثله .

وقرأ ابن عباس وابن عامر وغيرهما : قالوا بغي واو ، ويكون على استئناف الكلام ، أو ملحوظاً فيه معنى العطف ، واكتفى بالضمير والربط به عن الربط بالواو .

وقال الفارسي : وبغير واو هي في مصاحف أهل الشام .

تقدم أن اتخذ : افتعل من الأخذ ، وأنها تارة تتعدى إلى واحد نحو قوله : { اتخذت بيتاً } قالوا : معناه صنعت وعملت ، وإلى اثنين فتكون بمعنى : صير .

وكلا الوجهين يحتمل هنا .

وكل من الوجهين يقتضي تصوره باستحالة الولد ، لأن الولد يكون من جنس الوالد .

فإن جعلت اتخذ بمعنى عمل وصنع ، استحال ذلك ، لأن الباري تعالى منزه عن الحدوث ، قديم ، لا أولية لقدمه ، وما عمله محدث ، فاستحال أن يكون ولد أله .

وإن جعلت اتخذ بمعنى صير ، استحال أيضاً ، لأن التصيير هو نقل من حال إلى حال ، وهذا لا يكون إلا فيما يقبل التغيير ، وفرضية الولد به تقتضي أن يكون من جنس الوالد لا تقتضي التغيير ، فقد استحال ذلك .

وإذا جعلت اتخذ بمعنى صير ، كان أحد المفعولين محذوفاً ، التقدير : وقالوا اتخذ بعض الموجودات ولداً .

والذي جاء في القرآن إنما ظاهره التعدي إلى واحد ، قال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولداً } { ما اتخذ الله من ولد } { وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً } وقال القشيري : أتى بالولد ، وهو أحدى الذات ، لا جزاء لذاته ، ولا تجوز الشهوة في صفاته . انتهى .

ولما كانت هذه المقالة من أفسد الأشياء وأوضحها في الاستحالة ، أتى باللفظ الذي يقتضي التنزيه والبراءة من الأشياء التي لا تجوز على الله تعالى ، قبل أن يضرب عن مقالتهم ويستدل على بطلان دعواهم .

وكان ذكر التنزيه أسبق ، لأن فيه ردعاً لمدعي ذلك ، وأنهم ادعوا أمراً تنزه الله عنه وتقدس ، ثم أخذ في إبطال تلك المقالة فقال : { بل له ما في السموات والأرض } : أي جميع ذلك مملوك له ، ومن جملتهم من ادعوا أنه ولد الله .

والولادة تنافي الملكية ، لأن الوالد لا يملك ولده .

وقد ذكر بعض المفسرين هنا مسألة من اشترى والده أو ولده أو أحداً من ذوي رحمه ، وموضوعها علم الفقه .

ولما ذكر أن الكل مملوك لله تعالى ، ذكر أنهم كلهم قانتون له ، أي مطيعون خاضعون له .

وهذه عادة المملوك ، أن يكون طائعاً لمالكه ، ممتثلاً لما يريده منه .

واستدل بنتيجة الطواعية على ثبوت الملكية .

ومن كان بهذه الصفة لم يجانس الوالد ، إذ الولد يكون من جنس الوالد .

وأتى بلفظ ما في قوله : { بل له ما في السموات والأرض } ، وإن كانت لما لا يعقل ، لأن ما لا يعقل إذا اختلط بمن يعقل جاز أن يعبر عن الجميع بما .

ولذلك قال سيبويه : وأما ما ، فإنها مبهمة تقع على كل شيء ، ويدل على اندراج من يعقل تحت مدلول ما جمع الخبر بالواو والنون ، التي هي حقيقة فيما يعقل ، واندرج فيه ما لا يعقل على حكم تغليب من يعقل .

فحين ذكر الملك ، أتى بلفظة ما ، وحين ذكر القنوت ، أتى بجمع ما يعقل ، فدل على أن ذلك شامل لمن يعقل وما لا يعقل .

قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاء بما الذي لغير أولي العلم مع قوله قانتون ؟ قلت : هو كقوله : سبحان ما سخركن لنا ، وكأنه جاء بما دون من ، تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم ، كقوله : { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } انتهى كلامه ، وهو جنوح منه إلى أن ما وقعت على من يعلم ، ولذلك جعله كقوله : ما سخركنّ لنا .

يريد أن المعنى : سبحان من سخركن لنا ، لأنها يراد بها الله تعالى .

وما عندنا لا يقع إلا لما لا يعقل ، إلا إذا اختلط بمن يعقل ، فيقع عليهما ، كما ذكرناه ، أو كان واقعاً على صفات من يعقل ، فيعبر عنها بما .

وأما أن يقع لمن يعقل ، خاصة حالة إفراده أو غير إفراده ، فلا .

وقد أجاز ذلك بعض النحويين ، وهو مذهب لا يقوم عليه دليل ، إذ جميع ما احتج به لهذا المذهب محتمل ، وقد يؤول ، فيؤول قوله : سبحان ما سخركن ، على أن سبحان غير مضاف ، وأنه علم لمعنى التسبيح ، فهو كقوله :

سبحان من علقمة الفاخر***

وما : ظرفية مصدرية أي مدة تسخيركن لنا .

والفاعل يسخر مضمر يفسره المعنى وسياق الكلام ، إذ معلوم أن مسخرهن هو الله تعالى .

وقول الزمخشري : وكأنه جاء بما دون من ، تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم ، ليست ما هنا مختصة بمن يعقل ، فتقول عبر عنهم بما التي لما لا يعقل تحقيراً لهم ، وإنما هي عامة لمن يعقل ولما لا يعقل .

ومعنى قانتون : قائمون بالشهادة ، قاله الحسن ، أو في القيامة للعرض ، قاله الربيع ، أو مطيعون ، قاله قتادة ؛ أو مقرّون بالعبودية ، قاله عكرمة .

وقيل : قائمون بالله .

وأورد على من يقول القنوت : القيام لله بالشهادة والعبودية ، أنه : كيف عم بهذا القول وكثير ليس بمطيع ؟ وأجيب : أن ظاهره العموم ، والمعنى الخصوص ، أي أهل كل طاعة له قانتون ، وبأن الكفار يسجد ضلالهم ، وبظهور أثر الصنعة فيه ، وجرى أحكام الله عليه ، وذلك دليل على تذلله لله تعالى ، ذكره ابن الأنباري .

{ وكلّ له } : مرفوع بالابتداء ، والمضاف إليه محذوف ، وهو عبارة عن من في السموات والأرض ، أي كل من في السموات والأرض ، وهو المحكوم عليهم بالملكية .

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون كل من جعلوه لله ولداً ، وهذا بعيد جداً ، لأن المجعول لله ولداً لم يجر ذكره ، ولأن الخبر يشترك فيه المجعول ولداً وغيره .

و { قانتون } : خبر عن كل ، وجمع حملاً على المعنى .

وكلّ ، إذا حذف ما تضاف إليه ، جاز فيها مراعاة المعنى فتجمع ، ومراعاة اللفظ فتفرد .

وإنما حسنت مراعاة الجمع هنا ، لأنها فاصلة رأس آية ، ولأن الأكثر في لسانهم أنه إذا قطعت عن الإضافة كان مراعاة المعنى أكثر وأحسن .

قال تعالى : { وكلّ كانوا ظالمين } { وكلّ أتوه داخرين } و { كلّ في فلك يسبحون } وقد جاء إفراد الخبر كقوله : { قل كلّ يعمل على شاكلته } وسيأتي إن شاء الله تعالى هناك ذكر محسن إفراد الخبر .

/خ123