التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ} (13)

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( 13 ) } .

( 1 ) شعوبا وقبائل : أوجه الأقوال في الكلمتين على ما تلهمه روح الآية وتقديم الأولى على الثانية أن ( الشعب ) هو الأصل البعيد الجامع وأنه سمي بذلك لأنه يتشعب إلى فروع ، وأن ( القبيلة ) هي الأصل القريب المتفرع عن الشعب التي يتجمع فيها أفراد الفرع المنحدرين من أب أقرب .

( 2 ) لتعارفوا : لتتعارفوا أي ليعرف بعضكم بعضا .

تعليق على الآية

{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا }

وما فيها من تلقينات رائعة ، وما ورد في صددها من أحاديث .

عبارة الآية واضحة ، وفيها هتاف للناس جميعا بأن الله قد خلقهم متساوين من ذكر وأنثى . وأن تفرقهم إلى شعوب وقبائل للتعارف وليس للتفاضل . وأن أكرمهم عند الله هو أتقاهم بالإقبال على صالح العمل واجتناب الآثام وأن الله عليم خبير بأعمالهم وشؤونهم لا تخفى عليه منهم خافية .

وقد روى المفسرون أكثر من رواية لمناسبة نزول الآية . منها أن صحابيا اشترى عبد على شريطة عدم منعه من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فواظب على ذلك ، وقد غاب فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له : إنه محموم فعاده ، ثم بلغه أنه يحتضر فحضر موته وتولى غسله ودفنه فدخل على الأنصار والمهاجرين من ذلك أمر عظيم فنزلت الآية لتهتف بما هتفت به{[2004]} . ومنها أنها نزلت في ثابت ابن قيس ؛ حيث غمز رجل لم يفسح له في المجلس فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : انظر في وجوه القوم فنظر ، فقال ما رأيت ؟ قال رأيت أبيض وأحمر وأسود قال : فإنك لا تفضلهم إلا بالدين والتقوى{[2005]} . ومنها أن بلالا لما علا الكعبة ليؤذن عقب فتح مكة قال : الحارث ابن هشام أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا ، فأخبر الله رسوله وأوحى بالآية لزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والإزراء بالفقراء{[2006]} .

والروايات غير موثقة الإسناد والرواية الأخيرة تقتضي أن تكون الآية نزلت عقب الفتح المكي وهو ما لا تطمئن النفس به . ولقد روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلاها في خطبته التي ألقاها على الناس عقب الفتح كآية كانت نازلة قبل ؛ حيث روي النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته ( يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها . فالناس رجلان بر تقي كريم على الله . وفاجر شقي هين على الله والناس بنو آدم ، وخلق الله آدم من تراب . قال الله تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى . . . } {[2007]} والرواية الأولى لا تتسق مع فحوى الآية .

وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار أجل من أن يداخلهم هم عظيم بسبب ما ظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم من بر وتكريم لمسلم ، ولو كان عبدا وهو ما روته الرواية الأولى . وقد يكون في الرواية الثانية مناسبة ؛ لأنها فيها شيئا مما يتناسب مع الآية ، ومع ذلك فإنه يتبادر لنا أنا الآية قد جاءت معقبة على الآيات السابقة وبخاصة على الآيتين ( 11 و 12 ) اللتين نهتا المسلمين عن إساءة بعضهم لبعض وجاها وغيابا بسخرية وانتقاص أو نبز أو لمز أو سوء ظن أو غيبة أو تجسس وكشف عورة ، على اعتبار أن فاعل ذلك إنما يفعله وهو يظن أنه أرفع وأفضل وأكرم من غيره . وإنها بالتالي جزء من سلسلة الآيات ، وتتمة لما احتوته من تعليم وتأديب ساميين .

على أن الآية بما هتفت به الناس واستهدفته من تذكيرهم بمساواتهم لبعض في الأصل والطبيعة وحقوق الحياة . ومن تقرير كون التفاضل بينهم إنما يكون في العمل الصالح وتقوى الله . وكون الأكرم عند الله إنما هو الأتقى . هي جملة تامة لذاتها تقرر وجهة نظر الشريعة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى . في مساواة الناس في الحقوق والواجبات العامة مساواة تامة . وفي هدم درجات التفاوت والطبقات في الإسلام ونسف امتيازاتها القائمة على الأنساب والأحساب والثروات ، وما يماثلها من الأعراض وفي جعل التفاضل منوطا بالسلوك الشخصي الذي عبر عنه بتعبير { أتقاكم } والذي يدخل في نطاقه مراقبة الله في السر والعلن وابتغاء رضائه في الائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه ، وقد أمر بكل ما فيه الحق والعدل والبر والتقوى وأداء الواجبات نحو الله والناس ونهى عن كل ما فيه إثم وبغي ومنكر وتقصير نحو الله والناس . وهي من أجل ذلك يصح أن تعتبر من روائع جوامع الكلم القرآنية وأقواها وأبعدها مدى وأثرا في الحياة الاجتماعية والسياسية والشخصية والإسلامية .

ويلفت النظر بخاصة إلى المخاطب في الآية . فبينما خاطبت الآيات السابقة لها المسلمين جاءت هذه الآية لتخاطب الناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأنسابهم وأحسابهم وأديانهم ونحلهم خطابا مطلقا يمتد ما دامت الحياة الدنيا ؛ لأن الموضوع الخطير الذي تقرره هو الذي يتناسب مع هذا الخطاب أكثر . وفيها شيء من معنى التنديد اللاذع بما اعتاده الناس من التفاخر بالأحساب والأنساب والثروات وما يماثلها من الأعراض .

وهذه الدلالات قوية البروز في الخطبة الرائعة التي ألقاها السيد الرسول صلوات الله عليه بعد فتح مكة ، وتلا فيها الآية والتي أوردنا خبرها قبل .

ولقد روى المفسرون في سياق هذه الآية وفي صددها أحاديث نبوية قوية التلقين والعظة . منها حديث رواه ابن ماجه عن أبي هريرة جاء فيه ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) {[2008]} وحديث أخرجه الطبراني عن محمد ابن حبيب بن خراش العصري عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( المسلمون إخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى ) {[2009]} وحديث أخرجه أبو بكر البزار عن حذيفة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان ) {[2010]} وحديث رواه الطبري جاء فيه ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الناس لآدم وحواء طف الصاع لم يملؤوه إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا على أنسابكم يوم القيامة إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) {[2011]} وحديث رواه الإمام أحمد عن عقبة ابن عامر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أنسابكم هذه ليست بحسبة على أحد ، كلكم بنو آدم . طف الصاع لم يملؤوه ، ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى ، وكفى بالرجل أن يكون بذيئا بخيلا فاحشا ) {[2012]} وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي ذر قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل : انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله ) {[2013]} .

ومن الجدير بالتذكير في هذا السياق آيات في سورة ( المؤمنون ) تحتوي التلقين الذي احتوته الأحاديث الشريفة وهي { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون 101 فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون 102 ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون 103 } .


[2004]:انظر تفسير الزمخشري
[2005]:انظر تفسير الخازن
[2006]:المصدر نفسه
[2007]:فصل التفسير في التاج ج 4 ص 216 وعبية الجاهلية: فخرها وكبرها كما فسرها مؤلف التاج وقد روى ابن كثير والبغوي والخازن والقاسمي هذا الحديث وجاء في روايتهم كلمة (عيبة) بدلا من (عبية)
[2008]:النصوص من ابن كثير
[2009]:المصدر نفسه
[2010]:المصدر نفسه
[2011]:النصوص من ابن كثير
[2012]:المصدر نفسه
[2013]:المصدر نفسه