التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{إِذَا زُلۡزِلَتِ ٱلۡأَرۡضُ زِلۡزَالَهَا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الزلزلة

في السورة إنذار بيوم القيامة وهوله وحسابه ، وحثّ على الخير وتحذير من الشرّ بصورة عامة . ومن المفسّرين من روى مكيتها وحسب ، {[1]} ومنهم من قال : إنها من المختلف على مكيته ومدنيته بسبب تعدّد الروايات {[2]} . والطابع المكي قويّ البروز عليها ، بحيث يسوغ ترجيح مكّيتها إن لم نقل الجزم بذلك ، بل ويلهم أنها من السور المبكرة في النزول . وتكاد تكون هي وسورة القارعة المتفق على مكيتها ونزولها مبكرة سورتين متماثلتين . ولقد جاء في حديث رواه الترمذي عن أنس أن قراءة هذه السورة تعدل نصف القرآن ، وفي حديث آخر عنه أنها تعدل بربع القرآن {[3]} .

وقد يكون التباين من الرواة . وعلى كل حال فقد يكون قصد التذكر بأهوال يوم القيامة والحثّ على الخير واجتناب الشرّ من الحكمة المتوخاة في الحديث ، والله تعالى أعلم .

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا { 1 } وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا { 2 } وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا { 3 } يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا { 4 } بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا { 5 } يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ [ 1 ] النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ { 6 } فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ { 7 } وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ { 8 }

في الآيات إشارة إلى يوم القيامة وهوله وحسابه : فالأرض ترتجف وتتشقق وتقذف ما في بطنها كأنها تتزلزل . والناس يتساءلون عما كان ويكون . لا يلبثون أن يعرفوا أن الله قد حقق بذلك وعده بيوم القيامة والحساب . وحينئذ يهرعون جماعات جماعات ؛ ليروا نتائج أعمالهم ويوفوا عليها أجورهم ، كلّ بما قدّم من خير أو شرّ . فالذين يعملون خيرا مهما قلّ سيلقون خيرا ، ولا يضيع عليهم منه شيء . والذين يعملون شرا مهما قلّ سيلقون شرا .

والسورة مع احتوائها حقيقة يوم القيامة والحساب الإيمانية هي سورة وعظ وترغيب وترهيب مطلقة التوجيه للناس عموما ، واستهدفت كما هو المتبادر إثارة الخوف من ذلك اليوم ، وحمل الناس على الإقبال على العمل الصالح ، والابتعاد عن الأعمال السيئة ، وعدم الاستهانة بالشرّ مهما قلّ ، وعدم إهمال الخير مهما ضؤل . وهي من هذه الناحية تنطوي على تلقين مستمر المدى .

طائفة من الروايات والأحاديث في سياق آيات هذه السورة

ولقد روى البغوي في سياق وتأويل جملة { وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا } حديثا عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تقيء الأرض أفلاذ أكبادها أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة ، فيجيء القاتل فيقول : في هذا قتلت ، ويجيء القاطع فيقول : في هذا قطعت رحمي . ويجيء السارق فيقول : في هذا قطعت يدي ، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا » . والحديث إن صحّ فإن روايته لم تذكر أنه بسبيل تفسير الجملة . كما أن أثقال الأرض التي في بطنها ليست فقط القاتل والقاطع والسارق . ولذلك نظل نرجّح التأويل الذي أوّلنا به الجملة .

ولقد روى المفسر نفسه بطرقه حديثا عن أبي هريرة قال : «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } قال : أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها أن تقول : عمل عليّ كذا وكذا يوم كذا وكذا ، فهذه أخبارها » . وهذا الحديث مما ورد في جامع الترمذي أيضا {[2489]} حيث ينطوي فيه تفسير نبوي فيه إنذار وتنبيه متساوقان مع ما احتوته السورة من ذلك .

ولقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة حديثا في سياق آيتي { وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } جاء فيه : «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الحمر ، وقد أوضح الشارح أن السؤال عن ما إذا كان يجب على ما يقتنيه المسلم من الحمر زكاة فقال لم ينزل عليّ فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة { وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } " {[2490]} حيث ينطوي في الحديث حثّ على عمل الخير ، ومن ذلك الصدقات مهما قلت ، وبأي اسم كان ، ونهى عن الشرّ مهما تفه ، فيتساوق التلقين النبوي كذلك مع التلقين القرآني .

ولقد روى البغوي بطرقه عن مقاتل قوله : إن الآيتين المذكورتين نزلتا في رجلين ، وذلك أنه لما نزلت { ويطعمون الطعام على حبّه } كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه الثمرة والكسرة والجوزة ونحوها ، ويقول : ما هذا بشيء ، إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبّه ، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير كالكذبة والغيبة والنظرة وأشباه ذلك ، ويقول : إنما وعد الله النار على الكبائر ، وليس في هذا إثم ، فأنزل الله الآيتين يرغّبهم في القليل من الخير أن يعطوه فإنه يوشك أن يكثر . ويحذرهم اليسير من الذنب فإنه يوشك أن يكثر .

والآيتان منسجمتان مع آيات السورة ، وهما بسبيل تبشير وإنذار عامين ، ومبدأين قرآنيين شاملين محكمين . والمتبادر من صيغة الرواية أنها بسبيل شرح ما ينطوي فيهما من بعض حكمة التنزيل .

ولقد روى الطبري بطرقه في سياق الآيتين حديثا عن أبي إدريس قال : «إن أبا بكر كان يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت هذه الآية ، فرفع يده من الطعام وقال : إني لراء ما عملت من خير وشرّ . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن ما ترى مما تكره فهو بمثاقيل ذرّ الشر ، ويدخر الله لك مثاقيل ذرّ الخير حتى تعطاه يوم القيامة " » . وحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : «أنزلت { إذا زلزلت } وأبو بكر قاعد فبكى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك ؟ قال : يبكيني هذه السورة ، فقال له : " لولا أنكم تخطئون وتذنبون فيغفر الله لكم لخلق الله أمة يخطئون ويذنبون فيغفر لهم " » . فإذا صحّت الأحاديث فتكون الحكمة النبوية قد توخّت تطمين المخلصين من المؤمنين في صدد ما قد يصدر منهم من هفوات ، والله أعلم .

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيتين حديثا رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال : «لما أنزلت { وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } قلت : يا رسول الله إني لراء عملي ؟ قال : نعم ، قلت : تلك الكبار الكبار ؟ قال : نعم ، قلت الصغار الصغار ؟ قال : نعم ، قلت : واثكل أمي ؟ قال : أبشر يا أبا سعد فإن الحسنة بعشر أمثالها ، ثم إلى سبعمائة ضعف ، ويضاعف الله لمن يشاء ، والسيئة بمثلها أو يغفر الله ، ولن ينجو أحد منكم بعمله إلا أن يتغمدني الله منه برحمة » .

فإن صح الحديث فتكون الحكمة النبوية قد توخت فيه التحذير من الكبائر والصغائر معا ، والتحذير كذلك من اعتداد الإنسان بأعماله ، ومنه على الله بها مع تأميل المؤمنين المخلصين في نفس الوقت بعفو الله ورحمته .

ولقد روى الطبري بطرقه في سياق الآيتين كذلك حديثا عن عائشة قالت : «قلت : يا رسول الله إن عبد الله بن جدعان كان يصل الرحم ، ويفعل ويفعل ، هو ذاك نافعه ؟ قال : لا ، إنه لم يقل يوما ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين » . وحديث عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : «ذهبت أنا وأخي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إن أمّنا كانت في الجاهلية تقري الضيف وتصل الرحم هل ينفعها عملها ذلك شيئا ؟ قال : لا » . وحديث جاء فيه : «إن سلمان بن عامر جاء رسول الله فقال : إن أبي كان يصل الرحم ، ويفي بالذمة ، ويكرم الضيف ، قال : مات قبل الإسلام ؟ قال : نعم . قال : لن ينفعه ذلك . فولّى ، فقال رسول الله : عليّ بالشيخ ، فجاء فقال له : إنها لن تنفعه ، ولكنها تكون في عقبه ، فلن تخزوا أبدا ، ولن تذلوا أبدا ، ولن تفتقروا أبدا » . وحديث عن أنس جاء فيه : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزي بها في الآخرة ، وأما الكافر فيعطيه بها في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة لم تكن له حسنة » .

وهذه الأحاديث لم ترد بصيغها في كتب الأحاديث الصحيحة ، وهذا لا يمنع صحّتها . وفحواها متّسق مع التقريرات والتلقينات التي انطوت في آيات عديدة ، والتي تنبّه على أن الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر شرط لا بد منه لنفع الأعمال الصالحة في الآخرة .


[1]:التاج جـ 5 ص 382.
[2]:كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [128] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.
[3]:التاج جـ 5 ص 173 و 174.
[2489]:التاج 4/264
[2490]:نفسه