الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَلَهُۥٓ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (112)

قوله تعالى : { وَهُوَ مُحْسِنٌ } : جملةٌ في موضعِ نصبٍ على الحالِ والعاملُ فيها " أَسْلم " ، وعَبَّر بالوجهِ لأنه أشرفُ الأعْضاءِ وفيه أكثرُ الحواسِّ ، ولذلك يقال : وَجْهُ الأمرِ أي مُعظَمُه قال الأعشى :

أُؤوِّلُ الحُكْمَ على وَجْهِهِ *** ليسَ قضائي بالهوى الجائِرِ

ومعنى أَسْلَمَ : خَضَع ، ومنه :

وأَسْلَمْتُ وَجْهي لِمَنْ أَسْلَمَتْ *** له المُزْنُ تَحْمِيلُ عَذْباً زُلالا

وهذه الحالُ مؤكِّدة لأنَّ مَنْ أَسْلَمَ وجهه لله فهو مُحْسِنٌ ، وقال الزمخشري : " وهو مُحْسِنٌ له في عمله " فتكونُ على رأيه مبيِّنة ، لأنَّ مَنْ أَسْلَم وجهَه قسمان : مُحْسِنٌ في عمله وغيرُ محسنٍ . قال الشيخ : " وهذا منه جُنوحٌ إلى الاعتزال " .

قوله { فَلَهُ أَجْرُهُ } الفاءُ جوابُ الشرطِ إنْ قيل بأنَّ " مَنْ " شرطية ، أو زائدةٌ في الخبرِ إنْ قيل بأنَّها موصولةٌ ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولين عند قولِه

{ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } [ البقرة : 81 ] وهذه نظيرُ تلك فَلْيُلْتفتُ إليها . وهنا وجهٌ آخرُ زائدٌ على ما في تلك ذكره الزمخشري وهو أن تكونَ " مَنْ " فاعلةً بفعلٍ محذوفٍ أي : بلى يَدْخُلها مَنْ أَسْلم ، و " فله أجرُه " كلامٌ معطوفٌ على يَدْخُلَها . هذا نصُّه . و " له أجره " مبتدأٌ وخبرُه ، إمَّا في محلّ ِجزمٍ أو رفعٍ على حَسَبِ ما تقدَّم من الخلافِ في " مَنْ " ، وحُمِل على لفظِ " مَنْ " فأُفْرِدَ الضميرُ في قوله : { فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ } وعلى معناها فجُمع في قولِه : { عليهم وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ، وهذا أحسنُ التركيبين - أعني البَداءَةَ بالحَمْلِ على اللفظ ثم الحَمْلِ على المعنى . والعاملُ في " عند " ما تعلَّق به " له " من الاستقرارِ ، ولمَّا أحال أجرَه عليه أضافَ الظرفَ إلى لفظةِ الربِّ لِما فيها من الإِشعار بالإِصلاحِ والتدبيرِ ، ولم يُضِفْهُ إلى الضمير ولا إلى الجلالةِ فيقول : فله أجرهُ عنده أو عندَ الله ، لما ذكرْتُ لك ، وقد تقدَّم الكلامُ في قولِه تعالى : " ولا خَوْفٌ " وما فيه من القرآءت .