الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

قولُه تعالى : { عَنِ الأَهِلَّةِ } : متعلِّقٌ بالسؤال قبلَه ، يُقال : " سألَ به وعنه " بمعنىً . والضميرُ في " يَسْأَلُونك " ضميرُ جماعةٍ ، وفي القصةِ أن السائل اثنان ، فَيَحْتَمِلُ ذلك وجهين ، أحدُهما : أنَّ ذلك لكونِ الاثنين جمعاً . والثاني : من نسبةِ الشيء إلى جمْعٍ وإنْ لم يَصْدُرْ إلاَّ من واحدٍ منهم أو اثنين ، وهو كثيرٌ في كلامِهِم .

والجمهور على إظهار نونِ " عَنْ " قبل لام " الأهلَّة " وورش على أصِله من نقلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها ، وقُرِىءَ شاذاً : " علَّ هِلَّة " وتوجيهُها أنه نَقَلَ حركةَ همزة " أهلة " إلى لامِ التَّعريفِ ، وأدغم نونَ " عن " في لام التعريف لسقوطِ همزةِ الوصلِ في الدَّرْج ، وفي ذلك اعتدادٌ بحركةِ الهمزةِ المنقولةِ وهي لغةُ مَنْ يقول : " لَحْمَر " من غيرِ همزةِ وصلٍ .

وإنما جُمِعَ الهلالُ وإنْ كان مفرداً اعتباراً باختلافِ أزْمَانِهِ ، قالوا من حيث كونُهُ هلالاً في شهرٍ غيرُ كونِهِ هلالاً في آخرَ . والهلالُ هذا الكوكبُ المعروفُ . واختَلَفَ اللغويون : إلى متى يسمى هِلالاً ؟ فقال الجمهورُ : يُقال له : هلالٌ لِلَيْلَتَيْنِ ، وقيل : لثلاثٍ ، ثم يكونُ قمراً . وقال أبو الهيثم : " يُقال له هلالٌ لليلَتْين من أول الشهر ولَيْلَتين من آخره وما بينهما قمرٌ " . وقال الأصمعي : " يقال له هلالٌ إلى أن يُحَجِّرَ ، وتحجيرُه أن يستديرَ له كالخيطِ الرقيق " ، ويُقال له بَدْرٌ من الثانيةَ عشرةَ إلى الرابعةَ عشرةَ ، وقيل : " يُسَمَّى هلالاً إلى أن يَبْهَرَ ضَوءُه سوادَ الليل ، وذلك إنَّما يكونُ في سبعِ ليالٍ " ، والهلالُ يكونُ اسماً لهذا الكوكبِ ، ويكونُ مصدراً ، يقال : هَلَّ الشهرُ هلالاً .

ويقال : أُهِلَّ الهلالُ واسْتُهِلَّ مبنياً للمفعولِ وأَهْلَلْنَاه واسْتَهْلَلْنَاهُ ، وقيل : يقال : أَهَلَّ واسْتَهَلَّ مبنياً للفاعلِ وأنشد :

865 - وشهرٌ مُسْتَهِلٌّ بعدَ شهرٍ *** وحَوْلٌ بعدَهُ حولٌ جَدِيدُ

وسُمِّي هذا الكوكبُ هلالاً لارتفاعِ الأصواتِ عند رؤيتِه ، وقيل : لأنه من البيان والظهورِ ، أي : لظهورهِ وقتَ رؤيَتِهِ بعد خَفَائِهِ ، ولذلك يُقال : تَهَلَّلَ وَجْهُهُ : ظَهَرَ فيه بِشْرٌ وسرورٌ وإنْ لم يَكُنْ رفَعَ صوتَه . . . ومنه قول تأبَّط شرّاً .

وإذا نَظَرْتَ إلى أَسِرَّةِ وَجْهِه *** بَرَقَتْ كبَرْقِ العارضِ المُتَهَلِّلِ

وقد تقدَّم أن الإِهلال الصراخُ عند قولِه : { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [ البقرة : 173 ] وفِعال المضعَّفُ يَطَّردُ في تكسيرِه أَفْعِلة كأَهِلَّة ، وشَذَّ فيه فِعَل كقولهم : عِنَن وحِجَج في : عِنَان وحِجاج .

وقَدَّر بعضُهم مضافاً قبلَ " الأهِلَّة " أي : عَنْ حكمِ اختلافِ الأهِلَّة لأن السؤال عن ذاتِها غيرُ مفيدٍ ، ولذلك أُجيبوا بقولِه : " قل هي مواقيتُ " وقيل : إنهم لَمَّا سألوا عن شيء قليلِ الجَدْوى أُجيبوا بما فيه فائدةٌ ، وعَدَلَ عن سؤالِهم إذ لا فائدة فيه ، وعلى هذا فلا يُحْتاجُ إلى تقديرِ مضافٍ .

و " للناسِ " متعلِّقٌ بمحذوفٌ ، لأنه صفةٌ ل " مواقيت " أي : مواقيتُ كائنةً للناسِ . والمواقيتُ : جَمْعُ ميقات ، رَجَعِتِ الواوُ إلى أصلها إذا الأصلُ : مِوْقات من الوقت ، وإنما قُلِبت ياءً لكسرِ ما قبلها ، فلمّا زَالَ موجبُه في الجمعِ رُدَّت واواً ، ولا يَنْصَرِفُ لأنه بزنةِ مُنْتهى الجموعِ . والميقات منتهى الوقت .

قوله : { وَالْحَجِّ } عطفٌ على " الناس " ، قالوا : تقديرُه : ومواقيتُ الحَجِّ ، فحذف الثاني اكتفاءً بالأول ، ولمَّا كانَ الحجُّ مِنْ أعظمِ ما تُطْلَبُ مواقيتهُ وأشهرُه بالأهِلَّة أُفْرِد بالذِّكر ، وكأنه تخصَّص بعد تعميم ، إذ قولُه " مواقيتُ للناسِ " ليس المعنى لذواتِ الناس ، بل لا بُدَّ من مضافٍ أي : مواقيتُ لمقاصدِ الناسِ المحتاجِ فيها للتأقيتِ ، ففي الحقيقة ليس معطوفاً على الناسِ ، بل على المضافِ المحذوفِ الذي ناب " الناس " منابَه في الإِعراب .

وقرأ الجمهورُ " الحج " بالفتح في جميعِ القرآنِ إلا حمزةَ والكسائي وحفصاً عن عاصم فقرؤوا { حِجُّ الْبَيْتِ } [ آل عمران : 97 ] بالكسر ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن ، وهل هما بمعنىً واحدٍ أو مختلفان ؟ قال سيبويه : " هما مصدران " فالمفتوحُ كالردِّ والشدِّ ، والمكسورُ كالذِّكر ، وقيل : بالفتحِ هو مصدرٌ ، وبالكسرِ هو اسمٌ .

قوله : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ } كقوله : { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ } [ البقرة : 177 ] وقد تقدَّم ؛ إلا أنَّه لم يُخْتلف هنا في رفع " البر " ، لأنَّ زيادةَ الباءِ في الثاني عَيَّنت كونَه خبراً ، وقد تقدَّم لنا أنها قد تُزادُ في الاسم ولا حاجة إلى إعادة ما تقدَّم .

وقرأ أبو عمرو وحفص وورش " البُيوت " و " بُيوت " بضمِّ الباء وهو الأصلُ ، وقرأ الباقون بالكسرِ لأجلِ الياء ، وكذلك في تصغيره ، ٌٌٌ ولا يُبالَى بالخروجِ من كسرٍ إلى ضمٍ لأنَّ الضمةَ في الياءِ ، والياءُ بمنزلة كسرتين فكانت الكسرةُ التي في الباء كأنها وَلِيَتْ كسرةً ، قاله أبو البقاء .

و " مِنْ " في قولِه : " مِنْ ظهورِها " و " من أبوابها " متعلقةٌ بالإِتيان ومعناها ابتداءُ الغاية . والضميرُ في " ظهورها " و " أبوابِها " للبيوتِ ، وجِيء به كضميرِ المؤنثةِ الواحدِ لأنه يجوزُ فيه ذلك .

وقوله : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى } " كقوله : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ } [ البقرة : 177 ] سواءٌ بسواء ولمَّا تقدَّم جملتانِ خبريتان ، وهما : " وليس البرُّ " { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى } عُطِف عليهما جملتان أمريتان ، الأولى للأولى ، والثانية للثانية ، وهما : " وَأْتُوا البيوت " " واتَّقوا الله " . وفي التصريح بالمفعول في قوله : " واتقوا الله " دلالةٌ على أنه محذوفٌ من اتقى ، أي : اتقى الله .