الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ وَلَا تُقَٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِيهِۖ فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (191)

قوله تعالى : { حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } : " حيث " منصوبٌ بقوله : " اقتلوهم " ، و " ثَقِفْتُموهم " في محلِّ خفضٍ بالظرف ، وثَقِفْتموهم أي : ظَفِرتْم بهم ، ومنه : " رجلٌ ثقيف " : أي سريعُ الأخذ لأقرانِه ، قال :

فإمَّا تَثْقَفوني فاقتلوني *** فَمَنْ أَثْقَفْ فليسَ إلى خلودِ

وثَقِفَ الشيءَ ثقافةً إذا حَذَقَه ، ومنه الثقافةُ بالسيف ، وثَقِفْتُ الشيء قَوَّمُتُه ومنه الرماح المُثَقَّفة ، قال الشاعر :

ذَكَرْتُكِ والخَطِيُّ يَخْطِرُ بَيْننا *** وقد نَهِلَتْ مِنَّا المثقَّفَةُ السُّمْرُ

قوله : { مِّنْ حَيْثُ } متعلِّقٌ بما قبله ، وقد تُصُرِّفَ في " حيث " بجَرِّها بمِنْ كما جُرَّت بالباء وفي ، وبإضافة " لدى " إليها . و " أَخْرجوكم " في محلِّ جرٍّ بإضافتها إليه . ولم يذكر " للفتنة " ولا " للقتل " - وهما مصدران - فاعلاً ولا مفعولاً ، إذ المراد إذا وُجِدَ هذان ، من أيِّ شخص كان بأي شخصٍ كان ، وقد تقدَّم أنه يجوز حَذْفُ الفاعلِ مع المصدر .

قوله : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ } قرأ الجمهورُ الأفعالَ الثلاثة : " ولا تُقاتلوهم حتى يقاتِلوكم ، فإنْ قاتلوكم " بالألف من القتال ، وقرأها حمزة والكسائي من غير ألف من القتل . فأما قراءة الجمهور فهي واضحةٌ لأنها نَهْيٌ عن مقدِّمات القتل ، فدلالتها على النهي عن القتل بطريقِ الأوْلى . وأمّا قراءةُ الأخوين ففيها تأويلان ، أحدُهما : أن يكونَ المجازُ في الفعل ، أي : ولا تأخذوا في قتلهم حتى يأخذوا في قَتْلكم . ومنه { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ } [ آل عمران : 146 ] ثم قال : " فما وَهَنوا " أي ما وَهَن مَنْ بقيَ منهم ، وقال الشاعر :

فإنْ تَقْتُلونا نُقَتِّلْكُمُ *** وإنْ تَفْصِدوا الدَّمَ نَفْصِدِ

أي : فإنْ تقتلوا بعضنا . وأَجْمَعوا على " فاقتلوهم " أنَّه من القتل ، وفيه بشارةٌ بأنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم مُتَمَكِّنون منهم ، بحيثُ إنكم أَمَرْتُم بقتلِهم لا بقتالِهم لنصرتِكم عليهم وخُذْلانِهم ، وهي تؤيِّد قراءةَ الأخوينِ ، ويؤيِّدُ قراءةَ الجمهورِ : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .

و " عند " منصوبٌ بالفعل قبله . و " حتى " متعلقةٌ به أيضاً غايةٌ له بمعنى " إلى " ، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار " أَن " كما تقرَّر . والضميرُ في " فيه " يعودُ على " عند " ، إذ ضميرُ الظرفِ لا يتعدَّى إليه الفعلُ إلا ب " في " ، لأنَّ الضميرَ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولِها ، وأصلُ الظرفِ على إضمارِ " في " اللهم إلا أَنْ يُتَوَسَّعَ في الظرفِ فَيَتَعدَّى الفعلُ إلى ضميره مِنْ غيرِ " في " ، لا يُقال : " الظرف ليس حكمه حكمَ ظاهره ، ألا ترى أنَّ ضميرَه يُجَرُّ بفي وإن كان ظاهرُه لا يجوزُ ذلك فيه . ولا بدَّ مِنْ حذفٍ في قوله : { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } أي : فإنْ قاتلوكم فيه فاقتلوهم فيه ، فَحَذَفَ لدلالةِ السياقِ عليه .

قوله : { كَذَلِكَ جَزَآءُ } فيه وجهان : أحدُهما : أنَّ الكافَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و " جزاءُ الكافرين " خبرُه ، أي : مثلُ ذلك الجزاءِ جزاؤهم ، وهذا عند مَنْ يرى أن الكافَ اسمٌ مطلقاً ، وهو مذهبُ الأخفش . والثاني : أن يكونَ " كذلك " خبراً مقدماً ، و " جزاءٌ " مبتدأ مؤخراً ، والمعنى : جزاءُ الكافرين مثلُ ذلك الجزاءِ وهو القتلُ . و " جزاء " مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه أي : جزاءُ الله الكافرين . وأجاز أبو البقاء أن يكونَ " الكافرين " مرفوعَ المحلِّ على أن المصدرَ مقدرٌ من فعلٍ مبنيٍّ للمفعولِ ، تقديرُه : كذلك يُجْزى الكافرون ، وقد تقدَّم لنا في ذلك خلافٌ .