الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (234)

قولُه تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } الآية : فيه أوجهٌ : الأولُ : أَنَّ " الذين " مبتدأٌ لا خبرَ له ، بل أَخْبر عن الزوجات المتصلِ ذِكْرُهُنَّ به ، لأنَّ الحديثَ معهنَّ في الاعتدادِ ، فجاء الخبرُ عن المقصود ، إذ المعنى : مَنْ مات عنها زوجُها تربَّصت . وإليه ذهب الكسائي والفراء ، وأنشد الفراء :

لعَلِّيَ إنْ مَالَتْ بِيَ الريحُ مَيْلَةً *** على ابن أبي ذِبَّانَ أَنْ يتندَّما

فقال : " لعلي " ثم قال : " أن يتندم " فأخبر عن ابن أبي ذبَّان ، فترك المتكلم ، إذا التقديرُ : لعل ابن أبي ذبان أن يتندَّمَ إنْ مالت بي الريحُ ميلةً . وقال آخر :

بني أسدٍ إنَّ ابن قَيسٍ وقَتْلَه *** بغيرِ دَمٍ دارُ المَذَلَّةِ حُلَّتِ

فأخبرَ عن قتلِه بأنه دارُ مذلَّة ، وتَرَكَ الإِخبار عن ابن قيس .

وتحريرُ مذهبِ الكسائي والفراء أنه إذا ذُكِر اسمٌ ، وذُكِر اسمٌ مضافٌ إليه فيه معنى الإِخبارِ تُرِك عن الأولِ وأُخْبِر عن الثاني/ نحو : " إنَّ زيداً وأخته منطلقةٌ " ، المعنى : أنَّ أخت زيد منطلقة ، لكنَّ الآية الكريمة والبيتَ الأول ليسا من هذا الضربِ ، وإنما الذي أورده تشبيهاً بهذا الضرب قوله :

فَمَنْ يكُ سائِلاً عني فإني *** وجِرْوَةَ لا تَرُودُ ولا تُعارُ

ولتحرير هذا المذهب والردِّ عليه وتأويلِ دلائِله كتابٌ غيرُ هذا .

الثاني : أَنَّ له خبراً وهو " يتربَّصْن " ولا بُدَّ من حذفٍ يصحِّحُ وقوعَ هذه الجملةِ خبراً عن الأول لخلوِّها من الرابط ، والتقديرُ : وأزواجُ الذين يُتَوفَّوْن يتربَّصْنَ . ويدلُّ على هذا المحذوفِ قولُه : " ويَذَرون أزواجاً " فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليهُ مُقامَه لتلك الدلالةِ . الثالث أن الخبرَ أيضاً " يتربَّصْن " ولكن حُذِفَ العائدُ من الكلامِ لدلالةِ عليه ، والتقدير : يتربصن بعدهم أو بعد موتِهم ، قاله الأخفش . الرابع : أنَّ " يتربَّصْنَ " خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، التقديرُ : أزواجُهم يتربَّصْنَ ، وهذه الجملةُ خبرٌ عن الأول ، قاله المبردُ . الخامس : أنَّ الخبرَ محذوفٌ بجملتِه قبلَ المبتدأ ، تقديرُه : فيما يُتْلى عليكم حكمُ الذين يُتَوَفَّوْن ، ويكون قولُه " يتربَّصْنَ " جملةً مبيِّنَةً للحكم ومفسِّرة له ، فلا موضع لها من الإِعرابِ ، ويُعْزى هذا لسيبويه . قال ابن عطية : " وحكى المهدويُّ عن سيبويه أنَّ المعنى : " وفيما يُتْلَى عليكم الذين يُتَوَفَّون ، ولا أعرفُ هذا الذي حكاه ، لأنَّ ذلك إنما يتَّجهُ إذا كان في الكلام لفظُ أمرٍ بعد المبتدأ نحو قوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ } [ المائدة : 38 ] ، { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ } [ النور : 2 ] ، وهذه الآيةُ فيها معنى الأمر لا لفظُه ، فتحتاجُ مع هذا التقديرِ إلى تقديرِ آخر يُسْتغنى عنه إذا حَضَرَ لفظُ الأمرِ " . السادس : أنّ بعضَ الجملةِ قَام مَقام شَيءً مضافٍ إلى عائدِ المبتدأ ، والتقديرُ : " والذين يُتَوفَّون منكم ويذرون أزواجاً يتربصُ أزواجُهم " فَحُذِف " أزواجهُم " بجملته ، وقامَتِ النون التي هي ضميرُ الأزواج مَقامَهُنَّ بقيدِ إضافتهنَّ إلى ضميرِ المبتدأ .

وقراءةُ الجمهورِ " يُتَوَفَّوْنَ " مبنياً لِما لم يُسَمَّ فاعلُه ، وقرأ مير المؤمنين - ورواها المفضل عن عاصم - بفتح الياء على بنائه للفاعل ، ومعناها يَسْتوفون آجالَهم ، قاله أبو القاسم الزمخشري .

والذي يُحكى أن أبا الأسود كان خلفَ جنازةٍ فقال له رجل : مَن المتوفِّي ؟ بكسر الفاء ، فقال : اللهُ ، وكان أحدَ الأسباب الباعثة لعلي رضي الله عنه على أَنْ أمرَه بوضعِ كتابٍ في النحو . [ وهذا ] تُناقِضُه هذه القراءة .

وقد تقدَّم احتمالات في قوله : " يَتَرَبَّصْنَ بأنفسِهن ثلاثةَ قُروء " وهل " بأنفسهن " تأكيدٌ أو لا ؟ وهل نصبُ " قروء " على الظرفِ أو المفعوليةِ ؟ وهي جاريةٌ ههنا .

قوله : { مِنكُمْ } في محلِّ نصبٍ على الحالِ من مرفوعِ " يَتَوَفَّوْن " والعاملُ فيه محذوفٌ تقديره : حالَ كونِهم منكم . و " مِنْ " تحتمل التبعيض وبيانَ الجنسِ .

قوله : { وَعَشْراً } إنما قال " عشراً " من غير تأنيثٍ في العدد لأحد أوجهٍ ، الأولُ : أنَّ المراد " عَشْر ليال " . مع أيامِها ، وإنما أوثرت الليالي على الأيام في التاريخ لسَبْقها . قال الزمخشري : " وقيل " عَشْراً " ذهاباً إلى الليالي ، والأيامُ داخلةٌ فيها ، ولا تراهم قطُّ يستعملون التذكيرَ ذاهبين فيه إلى الأيام ، تقول : " صُمْت عشراً " ، ولو ذكَّرْت خَرَجْتَ من كلامِهم ، ومن البيِّن قولُه تعالى : { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } [ طه : 103 ] ، { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } [ طه : 104 ] .

والثاني - وهو قولُ المبرد - : أَنَّ حَذْف التاء لأجلِ أنَّ التقديرَ عشرُ مُدَدٍ كلُّ مدة منها يومٌ وليلةٌ ، تقول العرب : " سِرْنا خمساً " أي : بين يوم وليلة قال :

فطافَتْ ثلاثاً بين يومٍ وليلةٍ *** وكان النكيرُ أَنْ تُضِيفَ وتَجْأرا

والثالث : أنَّ المعدودَ مذكرٌ وهو الأيام ، وإنما حُذِفَت التاء لأنَّ المعدودَ المذكَّر متى ذُكِرَ وَجَبَ لَحاقُ التاء في عدده ، وإذا حُذِفَ لفظاً جاز في العددِ الوجهان : ذِكْرُ التاءِ وعدمُها . حكى الكسائي : " صُمْنَا من الشهرِ خمساً " ، ومنه الحديث : " وأتبعَه بستٍّ من شوال " ، وقال آخر :

999 - وإلاَّ فسيري مثلَ ما سار راكبٌ *** تيمَّمَ خَمْساً ليس في سيره أَمَمْ

نَصَّ النحويون على ذلك . قال الشيخ : " فلا يُحْتَاج إلى تأويلها بالليالي ولا بالمُدَد كما قدَّره الزمخشري والمبرد على هذا " قال : " وإذا تقرر هذا فجاء قولُهُ : " وعشراً " على أحدِ الجائزين ، وإنما حَسُنَ حذفُ التاءِ هنا لأنه مقطعُ كلامٍ فهو شبيهٌ بالفواصِلِ ، كما حَسَّنَ قولَه : { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } [ طه : 103 ] كونُه فاصلةً ، فقوله : " ولو ذَكَّرْتَ لخرَجْتَ من كلامهم " ليس كما ذكر ، بل هو الأفصحُ . وفائدةُ ذكره " إن لبثتم إلاَّ يوماً " بعد قولِهِ " إلا عَشْراً " أنه على زعمِهِ أرادَ الليالي والأيامُ داخلةٌ معها ، فقولُهُ " إلا يوماً " دليلٌ على إرادةِ الأيام " ، قال الشيخ : " وهذا عندنا يَدُلُّ على أنَّ المرادَ بالعشر الأيامُ ، لأنهم اختلفوا في مُدَّة اللَّبْث ، فقال بعضُهم : " عشراً " وقال بعضُهم : " يوما " فدلَّ على أنَّ المقابَلَ باليومِ إنما هو أيام ، إذ لا يَحْسُنُ في المقابَلَةِ أن يقولَ بعضُهم : عشرُ ليال ، فيقول البعضُ : يومٌ " .

قوله : { بِالْمَعْرُوفِ } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ حالاً من فاعل " فَعَلْنَ " أي : فَعَلْنَ ملتبساتٍ بالمعروفِ ومصاحباتٍ له . والثاني : أنه مفعولٌ به أي : تكونُ الباءُ باءَ التعدية . والثالثُ : أن يكونَ نعتَ مصدر محذوفٍ أي : فَعَلْنَ فِعْلاً بالمعروف ، أي : كائناً ، ويجيءُ فيه مذهب/ سيبويه : أنه حالٌ من ضميرِ المصدرِ المعرفةِ أي : فَعَلْنَه - أي الفعلَ - ملتبساً بالمعروفِ وهو الوجهُ الرابعُ .

و " بما تعملون " متعلق ب " خبيرٌ " . وقُدِّمَ لأجلِ الفاصلةِ . و " ما " يجوزُ أن تكونَ مصدريةً وأن تكونَ بمعنى الذي أو نكرةً موصوفة ، وهو ضعيفٌ . وعلى هذين القولين فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ ، وعلى الأولِ لا يُحتاج إليه إلا على رأيٍ ضعيفٍ .