قوله تعالى : { فَصَلَ } : أي : انفصلَ ، فلذلك كان قاصراً . وقيل : إنَّ أصلَه التَّعدِّي إلى مفعولٍ ولكنه حُذِفَ ، والتقديرُ : فَصَلَ نفسَه ثم كَثُرَ حَذْفُ هذا المفعولِ حتى صار الفعلُ كالقاصِرِ .
و " بالجنودِ " متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من " طالوت " أي : مصاحباً لهم . وبين جملةِ قولِهِ " فلمَّا فَصَلَ " وبين ما قبلَها من الجملِ جملةٌ محذوفةٌ يَدُلُّ عليها فحوى الكلامِ وقوتُه ، تقديرُهُ : فجاءَهم التابوت ، فَمَلَكُوا طالوتَ وتأهَّبوا للخروجِ وهي كقولِهِ : { فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ } [ يوسف : 45-46 ] .
والجمهورُ على قراءةِ " بنهَر " بفتح الهاء وهي اللغةُ الفصيحةُ ، وفيه لغةً أخرى : تسكينُ الهاء ، وبها قرأ مجاهد وأبو السَّمَّال في جميع القرآنِ ، وقد تقدَّم ذلك واشتقاقُ هذه/ اللفظة عند قولِهِ تعالى : { مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ }
وأصلُ الياء في " مُبْتَلِيكُمْ " واوٌ لأنه من بَلاَ يَبْلُوا أي : اختبَرَ ، وإنَّما قُلِبَتْ لانكسارِ ما قبلَها .
وقوله : { فَلَيْسَ مِنِّي } أي : من أشياعي وأصحابي ، و " من " للتبعيضِ ، كأنه يجعلُ أصحابَه بعضَه ، ومثلُه قولُ النابغة :
إذا حاوَلْتَ في أسدٍ فُجوراً *** فإني لَسْتُ منكَ ولَسْتَ مِنِّي
ومعنى يَطْعَمْهُ : يَذُقْهُ ، تقولُ العربُ : " طَعِمْتُ الشيءَ " أي : ذُقْتُ طَعْمَهُ قال :
فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكُمُ *** وإنْ شئتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا
قوله : { إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ } منصوبٌ على الاستثناء ، وفي المستثنى منه وجهان ، الصحيحُ أنه الجملة الأولى وهي : " فَمَنْ شَرِبَ منه فليس مني " ، والجملة الثانيةُ معترِضَةٌ بين المستثنى والمستثنَى منه ، وأصلُها التأخيرُ ، وإنَّما قُدِّمَتْ لأنها تَدُلُّ عليها الأولى بطريقِ المفهومِ ، فإنَّه لَمَّا قال تعالى : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } فُهِمَ منه أنَّ مَنْ لم يَشربْ فإنَّه منه ، فلمَّا كانَتْ مدلولاً عليها بالمفهومِ صارَ الفصلُ بها كَلا فصل . وقال الزمخشري : " والجملةُ الثانية في حكم المتأخرةِ ، إلاَّ أنها قُدِّمَتْ للعنايةِ ، كما قُدِّمَ " والصابئون " في قولِهِ : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ } [ المائدة : 69 ] .
والثاني : أنه مستثنى من الجملةِ الثانيةِ ، وإليه ذهب أبو البقاء . وهذا غيرُ سديدٍ لأنه يؤدِّي إلى أن المعنى : ومَنْ لم يَطْعَمْه فإنه مني إلاَّ مَنِ اغتَرَف بيدِهِ فإنه ليس مني ، لأنَّ الاستثناءَ من النفي إثباتٌ ، ومن الإِثباتِ نفيٌ ، كما هو الصحيحُ ، ولكن هذا فاسدٌ في المعنى لأنهم مفسوحٌ لهم في الاغترافِ غَرفةً واحدةً .
والاستثناء إذا تعقَّبَ الجملَ وصَلَحَ عَوْدُهُ على كلٍّ منها هل يختصُّ بالأخيرة أم لا ؟ خلافٌ مشهورٌ ، فإنْ دَلَّ دليلٌ على اختصاصِهِ بإحدى الجملِ عمِلَ به ، والآيةُ من هذا القبيلِ ، فإنَّ المعْنى يعود إلى عَوْدِه إلى الجملَةِ الأولى لا الثانيةِ لِمَا ذكرْتُ لك .
وقرأ الحَرَمِيَّان وأبو عمرو : " غَرفة " بفتحِ الغين والباقون بضمها .
فقيل : هما بمعنى المصدرِ ، إلاَّ أنهما جاءا على غيرِ الصدر كنبات من أَنْبَتَ ، ولو جاءَ على الصدرِ لقيل : اغترافاً . وقيل : هما بمعنى المُغْتَرَفِ كالأكل بمعنى المأكول . وقيل : المفتوحُ مصدرٌ قُصِدَ به الدلالة على الوَحْدَةِ فإنَّ " فَعْلَة " يدلُّ على المَرَّة ، والمضِمُومُ بمعنى المفعول ، فحيث جعلتهما مصدراً فالمفعولُ محذوفٌ ، تقديرُهُ : إلاَّ من اغترف ماءً ، وحيث جعلَتهما بمعنى المفعولِ كانا مفعولاً به ، فلا يُحتاج إلى تقديرِ مفعولٍ .
ونُقِلَ عن أبي عليّ أنه كان يُرَجِّح قراءة الضم لأنه في قراءةِ الفتح يَجْعلها مصدراً ، والمصدرُ لا يوافق الفعلَ في بنائِهِ ، إنما جاء على حَذْفِ الزوائد وجَعْلُها بمعنى المفعول لا يُحْوِج إلى ذلك فكانَ أرجَح .
قوله : { بِيَدِهِ } يجوزُ أن يتعلَّق ب " اغَتَرف " وهو الظاهِرُ . ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل " غُرْفة " ، وهذا على قولِنا بأن " غُرفة " ، بمعنى المفعولِ أظهرُ منه على قولِنَا بأنها مصدرٌ ، فإنَّ الظاهرَ من الباءِ على هذا أَنْ تكونَ ظرفيةً ، أي غُرفةً كائنةً في يدهِ .
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } هذه القراءةُ المشهورةُ ، وقرأ عبدُ الله وأُبَيّ " إلا قليلٌ " ، وتأويلُهُ أنَّ هذا الكلامَ وإن كان موجباً لفظاً فهو منفيٌّ معنىً ، فإنه في قوةِ : لم يُطيعوه إلا قليلٌ منهم ، فلذلك جَعَلَهُ تابعاً لِمَا قبله في الإِعراب . قال الزمخشري : " وهذا مِنْ مَيْلِهم مع المعنى والإِعراضِ عن اللفظِ جانباً ، وهو بابٌ جليلٌ من علمِ العربيةِ ، فلمَّا كان معنى " فَشَرِبُوا منه " في معنى " فلم يُطيعوه " حَمَل عليه ، ونحوُه قولُ الفرزدق : " لم يَدَعْ من المالِ إلا مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ " يشير إلى قولِهِ :
وَعَضُّ زمانٍ يابنَ مروانَ لم يَدَعْ *** من المالِ إلا مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ
فإنَّ معنى " لم يَدَعْ من المالِ إلا مُسْحَتاً " لم يَبْقَ من المال إلا مُسْحَتٌ ، فلذلك عَطَفَ عليه " مُجَلَّفُ " بالرفعِ مراعاةً للمعنى الذي ذكرْتُهُ لك . وفي البيت وجهان آخران ، أحدُهما . . . .
ولا بُدَّ من التعرُّضِ لهذه المسألةِ لعمومِ فائدِتهَا فأقولُ : إذا وَقَع في كلامِهِم استثناءٌ موجَبٌ نحو : " قام القومُ إلا زيداً " فالمشهورُ وجوبُ النصبِ على الاستثناءِ . وقال بعضُهم : يجوزُ أن يَتْبَعَ ما بعدَ " إلا " ما قبلَها في الإِعراب فتقول : " مررت بالقومِ إلا زيدٍ " بجرّ " زيد " ، واختلفوا في تابِعِيَّةِ هذا ، فعبارةُ بعضِهم أنه نعتٌ لما قبلَه ، ويقولُ : إنه يُنْعَتُ بإلاَّ وما بعدَها مطلقاً سواءً كان متبوعُها معرفةً أم نكرةً مضمراً أم ظاهراً ، وهذا خارجٌ عن قياس باب النعتِ لِما قَد عَرَفْتَ فيما تقدَّم . ومنهم مَنْ قال : لا يُنْعَتُ بها إلا نكرةً أو معرفةً بأل الجنسيةِ لقربِها من النكرةِ .
ومنهم مَنْ قال : قَوْلُ النَّحْوِيين هنا نعتٌ إنما يَعْنُون به عطفَ البيانِ . ومن مجيءِ الإِتباعِ بما بعد " إلاَّ " قولُهُ :
وكلُّ أَخٍ مفارقُه أخوه *** لَعَمْرُ أبيكَ إلا الفرقدانِ
قولُهُ : { جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ } " هو " ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ مؤكِّدٌ للضميرِ المستكنِّ في " جاوَزَ " .
وقوله : { وَالَّذِينَ } يَحْتَمِلُ وجهين ، أظهرُهُما : أنه عطفٌ على الضميرِ المستكنِّ في " جاوَزَ " لوجودِ الشرطِ ، وهو توكيدُ المعطوفِ عليه بالضمير المنفصلِ . والثاني : أن تكونَ الواوُ للحالِ ، قالوا : ويَلْزَمُ من الحالِ أن يكونوا جاوزوا معه ، وهذا القائلُ يجعلُ " الذين " مبتدأ والخبرَ " قالوا : لا طاقة " فصارَ المعنى : " فلمَّا جاوزه والحالُ أنَّ الذين آمنوا قالوا هذه المقالة " والمعنى ليس عليه .
ويجوز إدغامُ هاء " جاوزه " في هاء " هو " ، ولا يُعْتَدُّ بفصلِ صلةِ الهاءِ لأنها ضعيفةٌ ، وإنْ كان بعضُهم استضعَفَ/ الإِدغامَ ، قال : إلا أَنْ تُخْتَلَس الهاءُ " يعني فلا يبقى فاصلٌ . وهي قراءةُ أبي عمرو . وأَدْغَمَ أيضاً واوَ " هو " في واو العطف بخلافٍ عنه ، فوجهُ الإِدغام ظاهرٌ لالتقاء مِثْلين بشروطِهِما . ومَنْ أظهر وهو ابنُ مجاهد وأصحابُهُ قال : " لأنَّ الواو إذا أُدْغِمَت سَكَنَتْ ، وإذا سَكَنَت صَدَقَ عليها أنها واوٌ ساكنة قبلَها ضمة ، فصارَتْ نظيرَ : " آمنوا وكانوا " فكما لا يُدْغم ذاك لا يدغم هذا " . وهذه العلةُ فاسدةٌ لوجهين ، أحدُهما : أنها [ ما ] صارَتْ مثلَ " آمنوا وكانوا " إلا بعد الإِدغام ، فكيف يُقال ذلك ؟ وأيضاً فإنهم أدغموا : { يَأْتِيَ يَوْمٌ } [ البقرة : 254 ] وهو نظيرُ : { فِي يَوْمٍ } [ إبراهيم : 18 ] و { الَّذِى يُوَسْوِسُ }
[ الناس : 4 ] بعينِ ما عَلَّلوا به .
وشرطُ هذا الإِدغام في هذا الحرفِ عند أبي عمرو ضمُّ الهاءِ كهذه الآيةِ ، ومثله { هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ } [ آل عمران : 18 ] { هُوَ وَجُنُودُهُ } [ القصص : 39 ] ، فلو سَكَنَتِ الهاءُ امتنع الإِدغامُ نحو : { وهو وليُّهم } [ الأنعام : 127 ] ولو جرى فيه الخلاف أيضاً لم يكن بعيداً ، فله أُسوة بقوله : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ } [ الأعراف : 199 ] بل أَوْلى لأن سكونَ هذا عارضٌ بخلافِ : { الْعَفْوَ وَأْمُرْ } .
قوله : { لاَ طَاقَةَ لَنَا } " لنا " هو خبرٌ " لا " فيتعلَّقُ بمحذوفٍ . ولا يجوز أن يتعلَّقَ بطاقة ، وكذلك ما بعدَه من قولِهِ " اليوم " و " بجالوت " لأنه حينئذٍ يَصير مُطَوَّلاً ، والمُطوَّلُ ينصبُ منوناً ، وهذا كما تراه مبنياً على الفتح ، بل " اليوم " و " بجالوت " متعلِّقان بالاستقرارِ الذي تعلَّق به " لنا " .
وأجاز أبو البقاء أن يكونَ " بجالوت " هو خبرَ " لا " ، و " لنا " حينئذٍ : إما تبيينٌ أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لطاقة .
والطاقَةُ : القدرةُ وعينُها واو ، لأنها من الطَّوْق وهو القدرةُ ، وهي مصدرٌ على حذفِ الزوائِد ، فإنَّها من " أَطَاق " ونظيرُها : أجاب جابةً ، وأغار غارةً ، وأطاع طاعةً .
و " جالوت " اسمٌ أعجميٌّ ممنوعُ الصرفِ ، لا اشتقاقَ له ، وليس هو فَعَلوتا من جال يَجُول كما تقدَّم في طالوت ، ومثلُهما داود .
قوله : { كَم مِّن فِئَةٍ } " كم " خبريةٌ فإنَّ معناها التكثيرُ ، ويدل على ذلك قراءة أُبَيّ : " وكائن " وهي للتكثير ومحلُّها الرفعُ بالابتداء و " من فئةٍ " تمييزُها ، و " مِنْ " زائدةٌ فيه . وأكثرُ ما يجيء مميِّزها ومميِّز " كائن " مجروراً بمِنْ ، ولهذا جاء التنزيلُ على ذلك ، وقد تُحْذَفُ " مِنْ " فَيُجَرُّ مميِّزها بالإِضافة لا بمِنْ مقدرةً على الصحيح ، وقد يُنْصَبُ حَمْلاً على مميِّز " كم " . الاستفهامية ، كما أنه قد يُجَرُّ الاستفهاميةِ حمْلاً عليها وذلك بشروط مذكورةٍ في النحو . ومِنْ مجيءِ مميِّز " كائن " منصوباً قولُ الشاعر :
اطرُدِ اليأسَ بالرجاءِ فكائِنْ *** آلماً حُمَّ يُسْرُهُ بعدَ عُسْرِ
وأجازوا أن يكون " من فئةٍ " في محلِّ رفعٍ صفةً ل " كم " فيتعلَّقَ بمحذوفٍ . و " غَلَبَت " هذه الجملةُ هي خبرُ " كم " والتقديرُ : كثيرٌ من الفئاتِ القليلةِ غالبةٌ الفئاتِ الكثيرةَ .
وفي " فئة " قولان أحدُهما : أنها من فاء يَفِيء أي : رَجَعَ فَحُذِفَتْ عينُها ووزنُها فِلَة . والثاني : أنها من فَأْوَتُّ رأسَه ي : كسرتُه ، فحُذِفَت لامُها ووزنُها فِعَة كمئة ، إلاَّ أنَّ لامَ مئة ياءٌ ولامَ هذه واوٌ ، ومعناها على كلٍّ من الاشتقاقين صحيحٌ ، فإنَّ الجماعَةَ من الناس يَرْجِعُ بعضُهم إلى بعضٍ ، وهم أيضاً قطعةٌ من الناسِ كقِطَعِ الرأسِ الكسَّرة .
قوله : { بِإِذْنِ اللَّهِ } فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه حالٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، والتقدير : ملتبسين بتيسيرِ الله لهم . والثاني : أنَّ الباءَ للتعدية ومجرورُها مفعولٌ به في المعنى ، ولهذا قال أبو البقاء : " وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَها مفعولاً به " .
وقوله : { وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } مبتدأٌ وخبرٌ ، وتَحْتَمِل وجهين ، أحدُهما : أن يكونَ محلُّها النصبَ على أنها من مقولهم . والثاني : أنها لا محلَّ لها من الإِعراب ، على أنها استئنافٌ أَخْبَرَ اللَّهُ تعالى بها .