الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (245)

قوله تعالى : { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } : " مَنْ " للاستفهام ومَحَلُّها الرفعُ على الابتداءِ ، و " ذا " اسم إشارةٍ خبرُهُ ، و " الذي " وصلتُهُ نعتٌ لاسمِ الإِشارةِ أو بدلٌ منه ، ويجوزُ أن يكونَ " مَنْ ذا " كلُّه بمنزلَةِ اسمٍ واحدٍ تركَّبا كقولِكَ : " ماذا صَنَعْتَ " كما تقدَّم شرحُه في قوله : { مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ } [ البقرة : 26 ] . ومَنَع أبو البقاء هذا الوجه وفَرَّق بينه وبين قولِكَ : " ماذا " حيثُ يُجْعَلان اسماً واحداً بأنَّ " ما " أشدُّ إبهاماً مِنْ " مَنْ " لأنَّ " مَنْ " لمَنْ يَعْقِلُ . ولا معنى لهذا المنعِ بهذه العلةِ ، والنحويون نَصُّوا على أنَّ حكمَ " مَنْ ذا " حكمُ " ماذا " .

ويجوز أن يكونَ " ذا " بمعنى الذي ، وفيه حينئذٍ تأويلان ، أحدُهما : أنَّ " الذي " الثاني تأكيدٌ له ، لأنه بمعناه ، كأنه قيل : مَنْ الذي الذي يُقْرِضُ ؟ والثاني : أن يكونَ " الذي " خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ ، والجملةُ صلةُ ذا ، تقديرهُ : " مَنْ الذي هو الذي يُقْرِضُ " وذا وصلتُه خبرُ " مَنِ " الاستفهامية . أجاز هذين الوجهين جمالُ الدين بن مالك ، وهما ضعيفان ، والوجهُ ما قَدَّمْتُهُ .

وانتصَبَ " قرْضاً " على المصدرِ على حذفِ الزوائدِ ، إذ المعنى : إقراضاً كقوله : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً } [ البقرة : 26 ] ، وعلى هذا فالمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُهُ : " يُقْرِض اللَّهَ مالاً وصدقةً " ، ولا بدَّ من حذفِ مضافًٍ تقديرهُ : يقرضُ عبادَ اللَّهِ المحاويجَ ، لتعاليه عن ذلك ، أو يكونُ على سبيل التجوُّزِ ، ويجوز أن يكونَ بمعنى المفعول نحو : الخَلْق بمعنى المخلوق ، وانتصابُهُ حينئذٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ ل " يُقْرِض " .

" وحَسَناً " يجوزُ أن يكونَ صفةً لقرضاً بالمعنيينِ المذكورين ، ويجوز أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ ، إذ جعلنا " قَرْضاً " بمعنى مفعول أي : إقراضاً حسناً .

قوله : { فَيُضَاعِفَهُ } قرأ عاصم وابن عامر هنا ، وفي الحديد بنصب الفاء ، إلاَّ أنَّ ابنَ عامر يشدِّد العينَ من غير ألفٍ . والباقون برفعِها ، إلاَّ أنَّ ابن كثير يشدِّد العينَ من غير ألفٍ ، فالرفعُ من وجهين ، أحدُهما : أنه عطفٌ على " يقرضُ " الصلةِ . والثاني : أنه رفعٌ على الاستئناف أي : فهو يُضاعِفُهُ ، والأولُ أحسنُ لعدَمِ الإِضمارِ .

والنصبُ من وجهين ، أحدُهما : أنه منصوبٌ بإضمارٍ " أَنْ " عطفاً على المصدر المفهومِ من " يقرضُ " في المعنى ، فيكونُ مصدراً معطوفاً على مصدرٍ تقديرُهُ : مَنْ ذا الذي يكونُ منه إقراضٌ فمضاعفةٌ من اللَّهِ ، كقوله :

لَلُبْسُ عباءَةٍ وتَقرَّعيني *** أحبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشفوفِ

والثاني : أنه نصبٌ على جوابِ الاستفهامِ في المعنى ، لأنَّ الاستفهامِ وإنْ وَقَعَ عن المُقْرِضِ لفظاً فهو عن الإِقراضِ .

معنىً كأنه قال : أيقرضُ اللَّهَ أَحَدٌ فيضاعفَه .

قال أبو البقاء : " ولا يجوز أن يكونَ جوابَ الاستفهامِ على اللفظِ لأنَّ المُسْتَفْهَمَ عنه في اللفظِ المُقْرِضُ أي الفاعلُ للقرضِ ، لا عن القرضِ ، أي : الذي هو الفعلُ " وقد مَنَعَ بعضُ النحويين النصبَ بعد الفاء في جواب الاستفهام الواقعِ عن المسندِ إليه الحكمُ لا عن الحكمِ ، وهو مَحْجوجٌ بهذه الآيةِ وغيرِها ، كقوله : " مَنْ يستغفرُونِي فأغفرَ له ، مَنْ يدعوني فأستجيبَ له " بالنصبِ فيهما .

قال أبو البقاء : " فإنْ قيلَ : لِمَ لاَ يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ/ الذي هو " قرضاً " كما يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ بإضمار " أَنْ " مثلَ قولِ الشاعر :

لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّعَيْني *** . . . . . . . . . . . . . . . .

قيل : هذا لا يَصِحُّ لوجهين ، أحدُهما : أنَّ " قرضاً " هنا مصدرٌ مؤكِّدٌ ، والمصدرُ المُؤَكِّدِ لا يُقَدَّرُ ب " أَنْ " والفعلِ . والثاني : أنَّ عَطْفَهُ عليه يُوجِبُ أن يكونَ معمولاً ليقرضُ ، ولا يَصِحُّ هذا في المعنى ، لأن المضاعفَةَ ليستُ مُقْرِضَةً ، وإنما هي فعلُ اللِّهِ تعالى ، وتعليلُه في الوجهِ الأولِ يُؤْذِنُ بأنه يَشْتَرِط في النصبِ أنْ يُعْطَفَ على مصدرٍ يتقدَّر ب " أَنْ " والفعلِ ، وهذا ليسَ بشرطٍ ، بل يجوزُ ذلك وإن كان الاسمُ المعطوفُ عليه غيرَ مصدرٍ كقوله :

ولولا رجالٌ من رِزامٍ أَعِزَّةٍ *** وآلُ سبيعٍ أو أَسُوءَك عَلْقَما

ف " أسوءَك " منصوبٌ بأنْ عطفاً على " رجالٌ " فالوجهُ في مَنْعِ ذلك أنْ يُقال : لو عُطِفَ على " قرضاً " لشاركه في عاملِهِ وهو " يُقْرض " فيصيرُ التقديرُ : مَنْ ذا الذي يقرض مضاعفةً ، وهذا ليسَ صحيحاً معنىً .

وقد تقدَّم أنه قرئ " يُضاعِفُ " و " يُضَعِّفُ " فقيل : هما بمعنىً ، وتكونُ المفاعلَةُ بمعنى فَعَل المجرد ، نحو : عاقَبْت ، وقيل : بل هما مختلفان ، فقيل : إنَّ المضعَّفَ للتكثير . وقيل : إنَّ " يُضَعِّف " لِما جُعِلَ مثلين ، و " ضاعَفَه " لِما زيد عليه أكثرُ من ذلك .

والقَرْضُ : القَطْعُ ، ومنه : " المِقْراضُ " لِما يُقْطَع به ، وقيل للقَرْض " قرض " لأنه قَطْعُ شيءٍ من المالِ ، هذا أصلُ الاشتقاقِ ، ثم اختلف أهل العلم في " القَرْض " فقيل : هو اسمٌ لكلِّ ما يُلْتَمَسُ الجزاءُ عليه . وقيل : أن تُعْطِيَ شيئاً ليرجِعَ إليك مثلُهُ . وقال الزجاج : " هو البلاءُ حَسَناً كان أو سيئاً " .

قوله : { أَضْعَافاً } فيه ثلاثة أوجهٍ ، أظهرُها : أنه حالٌ من الهاء في " يضاعِفُ " وهل هذه حالٌ مؤكِّدَةٌ أو مبيِّنة ، الظاهرُ أنها مُبَيِّنَةٌ ، لأنَّها وإنْ كانَتْ من لفظِ العامِلِ ، إلاَّ أنَّها اختصَّتْ بوصفِها بشيءٍ آخرَ ، فَفُهِمَ منها ما لا يُفْهَمُ من عاملِها ، وهذا شأنُ المبيِّنة . والثاني : أنه مفعولٌ به على تضمين " يضاعِفُ " معنى يُصَيِّر ، أي : يُصَيِّره بالمضاعَفَةِ أضْعافاً .

والثالث : أنه منصوبٌ على المصدرِ .

قال الشيخ : " قيل : ويجوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ على المصدرِ باعتبار أَنْ يُطْلَقَ الضِّعْفُ - وهو المضاعَفُ أو المضعَّفُ - بمعنى المضاعفَة أو التضعيف ، كما أُطلِقَ العَطاء وهو اسمُ المُعْطَى بمعنى الإِعطاء . وجُمِعَ لاختلافِ جهاتِ التضعيفِ باعتبارِ اختلاف الأشخاصِ واختلاف المُقْرِضِ واختلافِ أنواعِ الجزاء " وسَبَقَه إلى هذا أبو البقاء ، وهذه عبارتُهُ ، وأنشد :

أكفراً بعد ردِّ الموتِ عني *** وبعدَ عطائِكَ المئةَ الرِّتاعا

والأَضْعافُ جمع " ضِعْف " ، والضِّعْفُ مثل قَدْرَيْنِ متساويين . وقيل : مثلُ الشيء في المِقْدَارِ . ويقال : ضِعْفُ الشيء : مثلُهُ ثلاثَ مرات ، إلاَّ أنه إذا قيل " ضعفان " فقد يُطْلَقُ على الاثنين المِثْلَيْنِ في القَدْرِ من حيث إنَّ كلَّ واحدٍ يُضَعِّفُ الآخرَ ، كما يقال زَوْجان ، من حيث إنَّ كلاً منهما زوجٌ للآخر .

وقرأ أبو عمرو [ وابن عامر وحمزة وحفص وقنبل ] " وَيَبْسُطُ " بالسين على الأصلِ ، والباقون بالصادِ لأجل الطاء . وقد تقدَّم تحقيقُه في " الصراط " .