الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ءَايَةَ مُلۡكِهِۦٓ أَن يَأۡتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَبَقِيَّةٞ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحۡمِلُهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (248)

قوله تعالى : { أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ } : " أَنْ " وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً ل " إنَّ " ، تقديرُه : إنَّ علامَة مُلْكِه إيتاؤُكم التابوت .

وفي " التابوتِ " قولان ، أحدُهما : أنه فاعولٌ ، ولا يُعْرَفُ له اشتقاقٌ ، وَمَنَع قائلُ هذا أن يكون وَزْنُه فَعَلُوتاً مشتقاً من تابَ يَتوبُ كَمَلَكوت من المُلْكِ ورهَبوت من الرُّهْبِ ، قال : لأنَّ المعنى لا يساعِدُ على ذلك . والقول الثاني : أن وزنَه فَعَلوت كمَلَكوت ، وجَعَلَه مشتقاً من التَّوْب وهو الرجوعُ ، وجَعَلَ معناه صحيحاً فيه ، لأنَّ التابوتَ هو الصندوقُ الذي توضع فيه الأشياءُ فيَرجع إليه صاحبُه عند احتياجِه إليه ، فقد جعلنا فيه معنى الرجوعِ .

والمشهورُ أن يوقَفَ على تائِه بتاءٍ من غير إبدالِها هاءً لأنها : إمَّا أصلٌ إنْ كان وزنُه فاعولاً ، وإمَّا زائدةٌ لغيرِ التأنيثِ كمَلَكوت ، ومنهم مَنْ يَقْلِبها هاءً ، وقد قرئ بها شاذاً ، قرأها أُبيّ وزيد بن ثابت وهي لغةُ الأنصار ، ويحكى أنهم لمَّا كَتَبوا المصاحفَ زمنَ عثمانَ رضي الله عنه اختلفوا فيه فقالَ زيد : " بالهاء " ، وقال [ أُبَيّ : ] " بالتاء " ، فجاؤوا عثمان فقال : " اكتبوه على لغةِ قريش " يعني بالتاء .

وهذه الهاءُ هل هي أصلٌ بنفسِها فيكونُ فيه لغتان ، ووزنُه على هذا فاعول ليس إلا ، أو بَدَلٌ من التاءِ لأنها قريبةٌ منها لاجتماعهما في الهَمْسِ ، أو إجراءً لها مُجْرى تاءِ التأنيث ؟ فقال الزمخشري : " فإنْ قلت : ما وزنُ التابوت ؟ قلت : لا يَخْلو أَنْ يكونَ فَعَلوتا أو فاعولا ، فلا يكون فاعولا لقلةِ نحو سَلِسٌ وقَلِقٌ " ، يعني أنَّ اتِّحاد الفاءِ واللامِ في اللفظِ قليلٌ جداً . " ولأنه تركيبٌ غيرُ معروفٍ " يعني في الأوزان العربية ، ولا يجوز تَركُ المعروفِ [ إليه ] فهو إذاً فَعَلوت من التوبِ وهو الرجوعُ ، لأنه ظرفٌ تُودَعُ فيه الأشياءُ فَيُرْجَعُ إليه كلَّ وقتٍ .

وأَمَّا مَنْ قرأ بالهاءِ فهو فاعول عندَه ، إلاَّ مَنْ يَجْعَلُ هاءَه بدلاً من التاءِ لاجتماعِهِما في الهَمْسِ ، ولأنهما من حروفِ الزيادة ، ولذلك أُبْدِلَتْ منه تاءِ التَّأنِيثِ .

قوله : { فِيهِ سَكِينَةٌ } يجوز أن يكونَ " فيه " وحدَه حالاً من التابوت ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، ويرتفعُ " سكينة " بالفاعلية ، والعاملُ فيه الاستقرارُ والحالُ هنا من قبيلِ المفردات ، ويجوزُ أن يكونَ " فيه " خبراً مقدماً . و " سكينةٌ " مبتدأ مؤخراً ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال ، والحالُ هنا من قبيلِ الجملِ . و " سكينةٌ " فعيلة من السكون ، وهو الوقارُ . وقرأ أبو السَّمَّال بتشديدِ الكافِ ، قال الزمخشري : " وهو غريبٌ " .

قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } يجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل " سكينة " ، ومحلُّه الرفعُ .

ويجوز أن يتعلَّق بما تعلَّق به " فيه " من الاستقرار . و " مِنْ " يجوز أن تكونَ لابتداءِ الغايةِ وأَنْ تكونَ للتبعيضِ . وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي : من سكيناتِ ربكم .

و " بَقِيَّة " وزنها فَعِيلة والأصلُ : بَقِيْيَة بياءين ، الأولى زائدةٌ والثانيةُ لامُ الكلمةِ ، ثم أُدْغِمَ ، ولا يُسْتَدَلُّ على أنَّ لامَ " بَقِيَّة " ياءٌ بقولهِم : " بَقِيَ " في الماضي ، لأنَّ الواوَ إذا انكسَرَ ما قبلَهَا قُلِبَت ياءً ، ألا ترى أنَّ " رَضِي " و " شَقِيَ " أصلهما من الواوِ : الشِّقْوَة والرِّضوان .

و " مِمَّا تَرَك " في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ ل " بَقَيَّة " فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : بقيةٌ كائنةٌ . و " مِنْ " للتبعيضِ ، أي : من بَقِيَّاتِ ربكم ، و " ما " موصولةٌ اسميةٌ ، ولا تكونُ نكرةً ولا مصدريةً .

و " آل " تقدَّم الكلامُ فيه ، وقيل : هو هنا زائدٌ كقولِهِ :

بثينةُ من آلِ النساءِ وإنَّما *** يَكُنَّ لوصلٍ لا وصالَ لغائِبِ

يريدُ بُثَيْنَةُ من النساء . قال الزمخشري : " ويجوزُ أن يريدَ : مِمَّا تَرَكَ موسى وهارون ، والآلُ مقحمٌ لتفخيم شأنِهِما ، أي زائدٌ للتعظيمِ . واستشكل الشيخ كيفية إفادةِ التفخيمِ بزيادةِ الآل . و " هارون " أعجمي . قيل : لم يَرِدْ في شيءٍ من لغةِ العربِ ، قاله الراغب ، أي : لم تَرِدْ مادُتُه في لُغَتِهِم .

قوله : { تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ } هذه الجملةُ تحتملُ أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ على أنها حالٌ من التابوتِ أي : محمولاً للملائكةِ وألاَّ يكونَ لها محلٌّ لأنها مستأنفةٌ ، إذ هي جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قيل : كيف يأتي ؟ فقيل : تَحْمِلُهُ الملائكةُ .

وقرأ مجاهد " يَحْمِلُه " بالياء من أسفلَ ، لأنَّ الفعلَ مُسْنَدٌ لجمعِ تكسيرٍ فيجوزُ في فِعْلِهِ الوجهان . و " ذلك " مشارٌ به قيل : إلى التابوت . وقيل : إلى إتيانه ، وهو الأحسنُ لتناسِبَ آخرُ الآيةِ أولَها . و " إنْ " الأظهَرُ فيها أنها على بابها من كونِها شرطيةً وجوابُها محذوفٌ . وقيل : هي بمعنى " إذ " .