الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهۡرَةٗ فَأَخَذَتۡكُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (55)

قولُه تعالى : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } : إنَّما تعدَّى باللامِ دونَ الباءِ لأحدِ وجهين : إمَّا أَنْ يكونَ التقديرُ : لَن نُؤْمِنَ لأجلِ قولِك ، وإمَّا أَنْ يُضَمَّنَ مَعنى الإِقرارِ ، أي : [ لَنْ ] نُقِرَّ لك بما ادَّعَيْتَه ، وقرأ أبو عمرو بإدغام النونِ في اللامِ لتقاربُهِما .

قولُه تعالى : " جَهْرَةً " فيه قولان : أحدُهما : أنها مصدرٌ وفيها حينئذٍ قولان ، أحدُهما أنَّ ناصبَها محذوفٌ ، وهو من لفظِها ، تقديرُه : جَهَرْتُمْ جَهْرةً نقله أبو البقاء ، والثاني : أنها مصدرٌ من نوعِ الفعلِ فَتَنْتَصِبُ انتصابَ القُرْفُصاء من قولك : " قَعَدَ القُرْفُصاء " ، " واشتمل الصَمَّاء " ، فإنها نوعٌ من الرؤيةِ ، وبه بدأ الزمخشري . والثاني : أنها مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ ، وفيها حينئذ أربعةُ أقوالٍ ، أحدُهما : أنه حالٌ من فاعل " نرى " أي : ذوي جَهْرَةٍ ، قاله الزمخشري . والثاني : أنَّها حالٌ من فاعل " قُلْتم " ، أي : قلتم ذلك مجاهِرين ، قاله أبو البقاء ، وقال بعضُهم : فيكونُ في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ ، أي : قُلْتم جهرةً لن نؤمِنَ لك ، ومثلُ هذا لا يُقال فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، بل أتى بمفعولِ القولِ ثم بالحالِ من فاعِلِه ، فهو نظيرُ : " ضَرَبْتُ هنداً قائماً " . والثالثُ : أنَّها حَالٌ من اسمِ اللهِ تعالى ، أي : نَرَاه ظاهراً غيرَ مستورٍ . والرابعُ : أنَّها حالٌ من فاعلِ " نؤمن " نقله ابنُ عطية ، ولا معنى له ، والصحيحُ من هذه الأقوالِ الستةِ الثاني .

وقرأ ابنُ عباس " جَهَرَةً " بفتح الهاء وفيها قولان ، أحدُهما : أنها لغةٌ في جَهْرة ، قال ابن عطية : " وهي لغةٌ مسموعةٌ عند البصريين فيما فيه حَرْفُ الحلقِ ساكنٌ قد انفتح ما قبله ، والكوفيون يُجيزون فيه الفتحَ وإنْ لَمْ يَسْمعوه " ، وقد تقدَّم تحريرُ القولِ في ذلِك . والثاني : أنها جمعُ " جاهر " ، نحو : خادِم وخَدَم والمعنى : حتى نرى الله كاشفين هذا الأمر ، وهي تُؤَيِّدُ كونَ " جهرةً " حالاً من فاعل " نَرى " .

والجَهْرُ : ضدُّ السِّرِّ وهو الكَشْفُ والظهورُ ، ومنه جَهَرَ بالقراءةِ أي : أظهرَها : قال الزمخشري : " كأنَّ الذي يَرى بالعين جاهرٌ بالرؤيةِ ، والذي يَرَى بالقلبِ مُخافِتٌ بها " .