الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهۡرَةٗ فَأَخَذَتۡكُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (55)

وقوله تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ يا موسى }[ البقرة :55 ] .

يريد السبعينَ الذين اختارهم موسى ، واختلف في وقت اختيارهمْ .

فحكى أكثر المفسِّرين أن ذلك بعد عبادة العجل ، فاختارهم ليستغفِروا لبني إسرائيل ، وحكى النقَّاش وغيره ، أنه اختارهم حين خَرَجَ من البحْرِ ، وطلب بالميعاد ، والأول أصح .

وقصة السبعين أنَّ موسى عليه السلام ، لما رجع من تكليم اللَّه تعالى ، ووجد العجْلَ قد عُبِدَ ، قالتْ له طائفة ممَّن لم يعبد العجلَ : نحن لم نكْفُرْ ، ونحن أصحابك ، ولكنْ أسمعْنَا كلام ربِّك ، فأوحى اللَّه إِليه أن اختَرْ منهم سَبْعِينَ ، فلم يجد إلا ستِّين ، فأوحى إليه أن اختر من الشباب عَشَرةً ، ففعل ، فأصبحوا شيوخاً ، وكان قد اختار ستَّةً من كلِّ سبط ، فزادوا اثنين على السبعين ، فتشاحُّوا فيمن يتأخَّر ، فأُوحِيَ إِليه أنَّ من تأخَّر له أجْرُ مَنْ مضى ، فتأخَّر يوشَعُ بْنُ نُونٍ ، وكَالُوثُ بْنُ يُوفَنَّا ، وذهب موسى عليه السلام بالسبْعين ، بعد أن أمرهم أن يتجنَّبوا النساء ثلاثاً ، ويغتسلوا في اليوم الثالث ، واستخلف هارون على قومه ، ومضى حتى أتى الجَبَلَ ، فألقي عليهم الغمام ، قال النَّقَّاش : غشيتهم سحابة ، وحِيلَ بينهم وبين موسى بالنور ، فوقعوا سجوداً ، قال السُّدِّيُّ وغيره : وَسَمِعوا كلامَ اللَّهِ يأمر وينهى ، فلم يطيقوا سماعه ، واختلطتْ أذهانهم ، ورَغِبُوا أن يكون موسى يسمع ويعبِّر لهم ، ففعل ، فلما فرغوا وخرجوا ، بدَّلت منهم طائفةٌ ما سمعت من كلام اللَّهِ ، فذلك قوله تعالى : { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كلام الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } [ البقرة : 75 ] واضطرب إيمانهم ، وامتحنهم اللَّه تعالى بذلك ، فقالوا : { لَنْ نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً }[ البقرة :55 ] ، ولم يطلبوا من الرؤية محالاً ، أما إِنه عند أهل السُّنَّة ممتنعٌ في الدنيا من طريق السمع ، فأخذتهم حينئذ الصاعقةُ فاحترقوا ، وماتوا موْتَ همودٍ ، يعتبر به الغَيْرُ ، وقال قتادة : ماتوا وذهبت أرواحهم ، ثم رُدُّوا لاستيفاء آجالهم ، فحين حصلوا في ذلك الهمود ، جعل موسى يناشد ربَّه فيهم ، ويقول : أيْ ربِّ ، كيف أرجع إِلى بني إِسرائيل دونهم ؟ فيَهْلِكُون ، ولا يؤمنون بي أبداً ، وقد خرجوا ، وهم الأخيار .

قال : ( ع ) يعني هم بحال الخير وقْتَ الخروج ، وقال قومٌ : بل ظن موسى أنَّ السبعين ، إِنما عوقبوا بِسَبَبِ عبادة العجْلِ ، فذلك قوله : { أَتُهْلِكُنَا } يعني السبعين : { بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا }[ الأعراف : 155 ] يعني : عَبَدَةَ العجلِ ، وقال ابن فورك : يحتمل أن تكون معاقبة السبعين لإخراجهم طلب الرؤية عن طريقه بقولهم لموسى : { أَرِنَا } [ النساء : 153 ] وليس ذلك من مقدورِ موسى عليه السلام .

قال : ( ع ) ومن قال : إن السبعين سَمِعُوا ما سمع موسى ، فقد أخطأ ، وأذهب فضيلةَ موسى واختصاصه بالتكْلِيم .

و{ جَهْرَةً } : مصدر في موضع الحالِ ، والجهرُ العلانيةُ ، ومنه الجَهْرُ ضد السر ، وجَهَرَ الرَّجُلُ الأَمْرَ : كشفه ، وفي «مختصر الطبريِّ » عن ابن عبَّاس : { جَهْرَةً } قال علانيةً ، وعن الربيع : { جَهْرَةً } عياناً . انتهى .