غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهۡرَةٗ فَأَخَذَتۡكُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (55)

54

قوله : { وإذا قلتم يا موسى } ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الواقعة كانت قبل أن كلف الله عبدة العجل بالقتل . قال محمد بن إسحاق : لما رجع موسى عليه السلام من الطور إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لأخيه والسامري ما قال وأحرق العجل ونسفه في اليم ، اختار سبعين رجلاً من خيارهم . فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى : سل ربك حتى نسمع كلامه . فسأل موسى ذلك فأجابه الله إليه ، فلما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام وتغشى الجبل كله ، ودنا موسى عليه السلام من ذلك الغمام حتى دخل فيه فقال للقوم : ادخلوا وعوا . وكان موسى متى كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني إسرائيل النظر إليه . وسمع القوم كلام الله مع موسى يقول له : افعل ولا تفعل . ومن جملة الكلام " إني أنا الله لا إله إلا أنا ذو بكة ، أخرجتكم من أرض مصر فاعبدوني ولا تعبدوا غيري " .

فلما تم الكلام انكشف عن موسى الغمام الذي دخل فيه فقال القوم بعد ذلك { لن نؤمن لك } أي لن نصدقك ولن نقر بنبوتك { حتى نرى الله جهرة } عياناً ، وهي مصدر قولك جهر بالقراءة والدعاء ، كأن الذي يرى بالعين يجاهر بالرؤية ، والذي يرى بالقلب يخافت بها . وانتصابها على نحو انتصاب " قعد القرفصاء " لأن هذه نوع من الرؤية كما أن تلك نوع من القعود ، ويحتمل أن يكون نصبها على الحال بمعنى ذوي جهرة . ومن قرأ { جهرة } بفتح الهاء فإما لأنه مصدر كالغلبة ، وإما لأنه جمع جاهر . وإنما أكدوا بهذا لئلا يتوهم أن المراد بالرؤية العلم أو التخيل على ما يراه النائم { فأخذتكم الصاعقة } وهي ما صعقهم أي أماتهم . فقيل : نار وقعت من السماء فأحرقتهم ، وقيل : صيحة جاءت من السماء ، وقيل : أرسل الله جنوداً سمعوا بحسها فخروا صعقين ميتين يوماً وليلة . وصعقة موسى في قوله { وخر موسى صعقاً } [ الأعراف : 143 ] لم تكن موتاً ولكن غشية بدليل { فلما أفاق } [ الأعراف : 143 ] والظاهر أنه أصابهم ما ينظرون إليه لقوله { وأنتم تنظرون } فرفع موسى يديه إلى السماء يدعو ويقول : إلهي اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلاً ليكونوا شهودي بقبول توبتهم فأرجع إليهم وليس معي أحد ، فما الذي يقولون فيّ ؟ فلم يزل يدعو حتى رد الله إليهم أرواحهم وذلك قولهم { ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون } نعمة البعث بعد الموت ، أو نعمة الله بعدما كفرتموها فطلب توبة بني إسرائيل من عبادة العجل فقال : لا إلا أن يقتلوا أنفسهم . وقيل : إن هذه الواقعة كانت بعد القتل . قال السدي : لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل بأن قتلوا أنفسهم ، أمر الله أن يأتيه موسى في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادتهم العجل ، فاختار موسى سبعين رجلاً . فلما أتوا الطور قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وماتوا ، فقام موسى يبكي ويقول : يا رب ، ماذا أقول لبني إسرائيل فإني أمرتهم بالقتل ثم اخترت من بينهم هؤلاء ، فإذا رجعت إليهم ولا يكون معي أحد منهم فماذا أقول لهم ؟ فأوحى الله إلى موسى : إن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل إلهاً . فقال موسى : إن هي إلا فتنتك . فأحياهم الله تعالى فقاموا ونظر كل واحد إلى الآخر كيف يحييه الله تعالى . فقالوا : يا موسى إنك لا تسأل الله شيئاً ، إلا أعطاك ، فادعه يجعلنا أنبياء . فدعا بذلك فأجاب الله دعوته . هذا ما قاله المفسرون ، وليس في الآية ما يدل على ترجيح أحد القولين على الآخر ، ولا على أن الذين سألوا الرؤية عبدة العجل أم لا ، والصحيح أن موسى لم يكن من جملة الصعقين في هذه الواقعة لأنه خطاب مشافهة ، ولأنه لو تناوله لوجب تخصيصه بقوله في حق موسى { فلما أفاق } [ الأعراف : 143 ] مع أن لفظة " الإفاقة " لا تستعمل في الموت .

ثم في الآية فوائد منها : التحذير لمن كان في زمان نبينا صلى الله عليه وسلم عن فعل ما يستحق بسببه أن يفعل به ما فعل بأولئك . ومنها تشبيه جحودهم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم بجحود أسلافهم نبوة موسى عليه السلام مع مشاهدتهم لعظم تلك الآيات ليتنبهوا أنه إنما لا يظهر على النبي صلى الله عليه وسلم مثلها لعلمه بأنه لو أظهرها لجحودها ، ولو جحدوها لاستحقوا العقاب كما استحقه أسلافهم . ومنها التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت فؤاده كي يصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل .

ومنها إزالة شبهة من يقول إن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لو صحت لكان أولى الناس بالإيمان به أهل الكتاب ، حيث إنهم عرفوا خبره ، وذلك أنه تعالى بيَّن أن أسلافهم بعد مشاهدة تلك الآيات كانوا يرتدون كل وقت ويتحكمون عليه ، فكيف يتعجب من مخالفتهم محمداً صلى الله عليه وسلم وإن وجدوا في كتبهم أخبار نبوته صلى الله عليه وسلم . و منها لما أخبر محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه القصة مع كونه أمياً ، تبين أن ذلك من الوحي .

بقي ههنا بحث وهو أن المعتزلة استدلوا بالآية على امتناع رؤية الله تعالى لأنها لو كانت أمراً جائز الوقوع لم تنزل بهم العقوبة كما لم تنزل بهم حين التمسوا النقل من قوت إلى قوت في قولهم { لن نصبر على طعام واحد } [ البقرة : 61 ] . وأجيب بأن امتناع رؤيته في الدنيا لا يستلزم امتناع رؤيته في الآخرة الذي هو محل النزاع ، فعل رؤيته تقتضي زوال التكليف عن العبد والدنيا مقام التكليف ، وأيضاً اقتراح دليل زائد على صدق المدعي بعد ثبوته تعنت . وأيضاً لا يمتنع أن الله تعالى علم أن فيه مفسدة كما علم في إنزال الكتاب من السماء { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة } [ النساء : 153 ] فلهذا جاز الاستنكار لأن مطالبة الرؤية جهرة مطالعة الذات غفلة ، وفيه من سوء الأدب وترك الحرمة ما لا يستحسنه قضية العزة والحشمة .