الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} (60)

قوله تعالى : { اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ } السينُ للطلبِ على وَجْهِ الدُّعَاءِ أي : سَأَل لهم السُّقيا ، وألفُ استسقى منقلبةُ عن ياءٍ لأنه من السَّقْيِ ، وقد تقدَّم معنى استفْعَلَ مستوفى في أولِ السورة . ويقال : سَقَيْتُه وأَسْقَيْتُه بمعنى وأنشد :

سَقَى قومي بني بكر وأَسْقَى *** نُمَيْراً والقبائلَ من هِلالِ

وقيل : سَقَيْتُه : أَعْطَيْتُه ، ما يَشْرَبُ ، وأَسْقَيْته جَعَلْتُ ذلك له يتناولُه كيف شاء ، والإِسقاءُ أَبْلَغُ من السَّقْي على هذا ، وقيل : أَسْقَيْته دَلَلْتُه على الماءِ ، وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى عند قولِه : { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ }

[ النحل : 66 ] .

و " لقومِه " متعلِّقٌ بالفعلِ واللامُ للعلَّة ، أي : لأجلِ ، أو تكونُ للبيان لَمَّا كانَ المرادُ به الدعاءَ كالتي في قولِهِم " سُقْياً لك " فتتعلَّقُ بمحذوفٍ كنظيرتِها " .

قوله : { اضْرِب بِّعَصَاكَ } الإِدغام [ هنا ] واجبٌ ؛ لأنه متى اجتمع مِثْلان في كلمتين أو كلمةٍ أَوَّلُهما ساكنٌ وَجَبَ الإِدغامُ نحو : اضربْ بكرا . وألفُ " عصاك " منقلبةٌ عن واوٍ لقولِهم في النسب : عَصَوِيّ ، وفي التثنية عَصَوانِ ، قال :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . على عَصَوَيْها سابِرِيٌّ مُشَبْرَقُ

والجمع : عِصِيّ وعُصِيّ بضمِّ العَيْنِ وكَسْرِها إتباعاً ، وأَعْصٍ ، مثل : زَمَن وأَزْمُن ، والأصل : عُصُوو ، وأَعْصُو ، فَأُعِلَّ . وعَصَوْتُه بالعَصا وعَصَيْتُه بالسيفِ ، و " ألقى عصاه " يُعَبَّر به عن بُلوغ المنزلِ ، قال :

فَأَلْقَتْ عَصاها واستقرَّ بها النَّوى *** كما قرَّ عَيْناً بالإِيابِ المسافِرُ

وانشقَّت العصا بين القومِ أي : وقع الخلافُ ، قال الشاعر :

إذا كانتِ الهيجاءُ وانشَقَّتِ العَصا *** فَحَسْبُك والضحاكُ سيفٌ مُهَنَّدُ

قال الفراء : " أولُ لَحْنٍ سُمِع بالعراقِ هذه عصاتي " يعني بالتاء ، و " الحَجَرَ " مفعولٌ وأل فيه للعهدِ ، وقيل : للجنسِ .

قوله : { فَانفَجَرَتْ } " الفاءُ " عاطفةٌ على محذوفٍ لا بُدَّ منه ، تقديرُه : فَضَرَبَ فانفجَرَت ، وقال ابنُ عصفور : " [ إن ] هذه الفاءَ الموجودةَ هي الداخلةُ على ذلك الفعلِ المحذوفِ ، والفاءُ الداخلةُ على " انفجَرتْ محذوفةٌ " وكأنه يقولُ : حُذِفَ الفعلُ الأولُ لدلالةِ الثاني عليه ، وحُذِفَتِ الفاءُ الثانيةُ لدلالةِ الأولى عليها . ولا حاجةَ تَدْعُو إلى ذلك ، بل يُقال : حُذِفَتْ الفاءُ وما عَطَفَتْه قبلها . وجَعَلَها الزمخشري جوابَ شرطٍ مقدَّرٍ ، قال : " أو : فإن ضَرَبْتَ فقد انفجرَتْ ، قال : " وهي على هذا فاءٌ فصيحةٌ لا تقع إلا في كلامٍ بليغ " ، وكأنه يريدُ تفسيرَ المعنى لا الإِعرابِ .

والانفجارُ : الانشقاقُ والتفتُّح ، ومنه الفَجْرُ لانشقاقِه بالضوءِ ، وفي الأعرافِ ، { فَانبَجَسَتْ } [ الآية : 160 ] ، فقيل : هما بمعنى ، وقيل : الانبِجاس أضيقُ ، لأنه يكونُ أولَ والانفجارُ ثانياً .

قوله : { اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } فاعل " انفجرت " ، والألفُ علامةُ الرفعِ لأنه مَحْمولٌ على المثنَّى ، وليس بمثنَّى حقيقةً إذ لا واحد له من لفظِه ، وكذلك مذكَّرهُ " اثنان " ولا يُضاف إلى تمييز لاستغنائِه بذكر المعدودِ مثنَّى ، تقول : رجلان وامرأتان ، ولا تقول : اثنا رجلٍ ولا اثنتا امرأةٍ ، إلا ما جاءَ نادراً فلا يُقاسُ عليه : قال :

كأنَّ خِصْيَيْهِ مِنَ التَّدَلْدُلِ *** ظَرْفُ عجوزٍ فيه ثِنْتا حَنْظَل

وثِنْتان مثل اثنتين ، وحكمُ اثنين واثنتين في العددِ المركب أن يُعْرَبا بخلافِ سائرِ أخواتهما ، قالوا : لأنه حُذِفَ معهما ما يُحْذَفُ في المعرب عند الإِضافة وهي النونُ فأشبها المعربَ فأُعْرِبا كالمثنى بالألف رفعاً وبالياء نصباً وجرَّاً ، وأمَّا " عَشْرة " فمبني لتنزُّلِه منزلَةَ تاءِ التأنيثِ ولها أحكامٌ كثيرةٌ . و " عَيْناً " تمييز .

وقُرئ : " عَشِرة " بكسر الشينِ وهي لغةُ تميمٍ ، قال النحاس : " وهذا عجيبٌ فإنَّ لغةَ تميم عَشِرة بالكسر ، وسبيلُهم التخفيفُ ، ولغةَ الحجازِ عَشْرة بالسكون وسبيلُهم التثقيلُ " . وقرأ الأعمش : عَشَرة بالفتح . والعينُ اسم مشتركٌ بين عَيْنِ الإِنسانِ وعَيْن الماء وعَيْنِ السحابة وعَيْنِ الذهبِ وعَيْنِ المِيزان ، والعَيْنُ : المطر الدائم ستاً أو خمساً ، والعَيْنُ : الثُّقْب في المَزادَة ، وبلدٌ قليلٌ العَيْن أي : قليلُ الناس .

[ قوله : { كُلُّ أُنَاسٍ } قد تقدَّم الكلام على أنه أصلُ الناس . وقال الزمخشري في سورة الأعراف : إنه اسمُ جَمْعٍ غيرُ تكسير ، ثم قال : " ويجوز أن يكونَ الأصلُ الكسرَ ، والتكسيرُ والضمةُ بدلٌ من الكسرةِ ، كما أُبْدِلَتْ في سُكَارى من الفتحة وسيأتي تحريرُ البحث معه إن شاء الله تعالى في السورةِ المذكورة ] .

قوله : { مَّشْرَبَهُمْ } مفعولٌ ل " عَلِمَ " بمعنى عَرَف ، والمَشْرَبُ هنا مَوْضِعُ الشُّرْبِ ؛ لأنُه روي أنه كان لكلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ من اثنتي عشرةٍ عيناً لا يَشْرَكُهُ فيها [ سِبْطُ ] غيرُه . وقيل : هو نفسُ المشروب . فيكون مصدراً واقعاً موقعَ المفعولِ به .

قوله : { كُلُواْ وَاشْرَبُواْ } هاتان الجملتانِ في محلِّ نَصْبٍ بقولٍ مضمرٍ ، تقديرُه : وقُلْنَا لهم كُلوا واشْرَبُوا ، وقد تقدَّم تصريفُ " كل " وما حُذِف منه .

قولُه : { مِن رِّزْقِ اللَّهِ } هذه من باب الإِعمال لأنَّ كلَّ واحدٍ من الفعلين يَصِحُّ تسلُّطُه عليه ، وهو من باب إعمالِ الثاني للحذفِ من الأولِ ، والتقديرُ : وكُلوا منه .

و " مِنْ " يجوزُ أن تكونَ لابتداءِ الغايةِ وأن تكونَ للتبعيضِ ، ويجوزُ أن يكونَ مفعولُ الأكلِ محذوفاً ، وكذلك مفعولُ الشُّرْب ، للدلالة عليهما ، والتقدير : كُلوا المَنَّ والسَّلْوى ، لتقدُّمِهما في قوله : { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى } [ البقرة : 57 ] واشرَبوا ماءَ العيُونِ المتفجرةِ ، وعلى هذا فالجارُّ والمجرورُ يُحْتمل تعلُّقُه بالفعلِ قبله ، ويُحْتمل أن يكونَ حالاً من ذلك المفعولِ [ المحذوفِ ] ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ . وقيل : المرادُ بالرزق الماءُ وحدَه ، ونَسَب الأكلَ إليه لمَّا كانَ سبباً في نَماء ما يُؤكل وحياتِهِ فهو رزقٌ يُؤْكل منه ويُشْرَبُ ، والمرادُ بالرزقِ المَرْزُوقُ ، وهو يَحْتَمل أن يكونَ من باب ذِبْح ورِعْي ، وأن يكونَ من باب " درهمٌ ضَرْبُ الأميرِ " ، وقد تقدَّم بيانُ ذلك .

قوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } أصلُ " تَعْثَوا " : تَعْثَيُوا ، فاستُثْقِلت الضمةُ على الياءِ فحُذِفَت فالتقى ساكنانِ فحُذِفَ الأولُ منهما وهو الياءُ ، أو لَمَّا تحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلَها فُلِبَت ألفاً ، فالتقى ساكنان فحُذِفَتِ الألفُ وبقيتِ الفتحةُ تَدُلُّ عليها وهذا أَوْلى ، فوزنُه تَفْعُون .

والعِثِيُّ والعَيْثُ : أشدُّ الفسادِ وهما متقاربان . وقال بعضُهم : " إلاَّ أنَّ العَيْثَ أكثرُ ما يُقال فيما يُدْرَك حِسَّاً ، والعِثِيُّ فيما يُدْرَكُ حُكْماً ، يقال : عَثَى يَعْثَى عِثِيَّاً وهي لغةُ القرآنِ ، وعثا يَعْثُوا عُثُوّاً وعاثَ يعيثُ عِثِيّاً ، وليس عاثَ مقلوباً من عَثَى كَجَبَذَ وجَذَبَ لتفاوتِ مَعنَيَيْهما كما تقدَّم ، ويُحْتمل ذلك ، ثم اختصَّ كلُّ واحدٍ بنوعٍ . ويُقال : عَثِيَ يَعْثى عِثِيّاً ومَعَاثاً ، وليس عَثِي أصلُه عَثِوَ ، فقُلِبَتِ الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلها كَرَضِيَ من الرّضوان لثبوتِ العِثِيّ وإن تَوَهَّم بعضُهم ذلك . وعَثَا كما تقدَّم ، ويقال : عَثَّ يَعُثُّ مضاعفاً أي فسد ، ومنه : العُثَّةُ سُوسةٌ تُفْسِدُ الصوفَ ، وأمَّا " عَتَا " بالتاءِ المثنَّاة فهو قريبٌ من معناه وسيأتي الكلامُ عليه .

و " مُفْسدين " حالٌ من فاعل " تَعْثَوْا " ، وهي حالٌ مؤكِّدةٌ ، لأنَّ معناها قد فُهِم من عامِلها ، وحَسَّنَ ذلك اختلافُ اللفظين ، ومثله : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ }

[ التوبة : 25 ] ، هكذا قالوا : ويُحتمل أن تكونَ حالاً مبيِّنَةً ، لأنَّ الفسادَ أعمُّ والعِثِيِّ أخصُّ كما تقدَّم ، ولهذا قال الزمخشري : " فقيل لهم : لا تَتَمادَوا في الفسادِ في حالِ فَسادِكم ، لأنهم كانوا متمادِيْنَ فيه ، فغايَر بينهما كما ترى .

و { فِي الأَرْضِ } يَحْتمل أن يتعلَّق ب " تَعْثَوْا " وهو الظاهرُ ، وأن يَتَعلَّقَ بمفسدين .