الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّـٰبِـِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (62)

قولُه تعالى : { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } . . " مَنْ " يجوز فيها وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ شرطيّةً في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و " آمَن " مجزومٌ بها تقديراً وهو الخبرُ على الصحيحِ حَسْبما تقدَّم الخلافُ فيه . وقوله : " فلهم " جواب الشرط ، وهذه الجملة الشرطية في محل رفع خبراً ل " إنَّ " في قوله : إنَّ الذين آمنُوا ، والعائدُ محذوفٌ تقديرُه : مَنْ آمن منهم ، كما صَرَّح به في موضعٍ آخَر . والثاني : أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي ومَحَلُّها حينئذٍ النصبُ على البدلِ مِنْ اسمِ " إنَّ " وهو " الذين " بدلِ بعضٍ من كلٍّ ، والعائذُ أيضاً محذوفٌ كما تقدْم ، و " آمن " صلتُها ، فلا محلَّ له حينئذ .

وقوله : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } خبرُ " إنَّ الذين " ، ودخلتِ الفاءُ لأن الموصولَ يُشْبه الشرطَ ، وهذا عند غيرِ الأخفش ، وأمَّا الأخفش فنُقِل عنه أنَّه إذا نُسِخ المبتدأ ب " إنَّ " يمتنعُ ذلكَ فيه ، فمحلُّ قولِه { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } رفعٌ على هذا القولِ ، وجَزْمٌ على القولِ الأولِ ، و " لهمْ " خبرٌ مقدَّمٌ متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، و " أجرُهُمْ " مبتدأ ، ويجوزُ عند الأخفش أن يكونَ فاعلاً بالجارِّ قبلَه وإنْ لهم يعتَمِدْ ، وقد تقدَّم ذِكْرُ الخلافِ في ذلك .

قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } " عند " ظرفُ مكانٍ لازمُ الإِضافةِ لفظاً ومعنىً ، والعاملُ فيه الاستقرارُ الذي تضمَّنه " لهم " ، ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من " أجرُهم " فيتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُه : فلهم أجرُهم ثابتاً عند ربهم . والعِنْديَّة مجازُ لتعالِيه عن الجهةِ ، وقد تَخْرُجُ إلى ظرفِ الزمان إذا كانَ مظروفُها معنىً ، ومنه قولُه عليه السلام : " إنما الصبرُ عند الصَّدمةِ الأولى " والمشهورُ كسرُ عَيْنِها ، وقد تُفْتَحُ وقد تُضَمُّ .

والذين هادُوا هم اليهودُ ، وهادُوا في أَلِفه قولان : أحدُهما أنه من واو ، والأصلُ : هاد يهودُ أي تاب ، قال الشاعر :

إنِّي امرؤٌ من حُبِّه هائِدُ

أي : تائبٌ ، ومنه سُمِّي اليهودُ لأنَّهم تابُوا عن عبادةِ العِجْلِ ، وقال تعالى :

{ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] أي تُبْنَا ، وقيل : هو من التَّهْويد وهو النطق في سكون ووقار ، وأنشدوا :

وخُودٌ من اللائي تَسَمَّعْنَ بالضُّحى *** قَريضَ الرُّدافَى بالغِناءِ المُهَوَّد

وقيل : هو من الهَوادة وهي الخضوعُ . الثاني : انها من ياء ، والأصلُ : هاد يَهِيد ، أي : تحرَّك ومنه سُمِّي اليهودُ لتحرُّكهم في دراستِهم . وقيل : سُمُّوا يهودَ نسبةً ليهوذا بالذال المعجمة وهو ابنُ يعقوب عليه السلام ، فغيَّرتْه العربُ من الذال المعجمة إلى المهملة جَرْياً على عادتها في التلاعُب بالأسماء الأعجمية .

والنَّصارى جمعٌ ، واحدُه نَصْران ونَصْرَانة كَنْدمان ونَدْمانة ونَدامى ، قاله سيبويه وأنشد :

فَكِلْتاهما خَرَّتْ وأَسْجَدَ رأسُها *** كما أَسْجَدَتْ نَصْرانَةٌ لم تَحَنَّفِ

وأنشد الطبري على نَصْران قوله :

يَظَلُّ إذا دارَ العِشَا مُتَحَنِّفاً *** ويُضْحي لَدَيْه وهو نَصرْانُ شامِسُ

قال سيبويه : " إلاَّ أنَّه لم يُسْتَعْمَلْ في الكلام إلا بياءِ النسب " وقال الخليل : " واحدُ النصارى نَصْرِيّ كمَهْرِيّ ومَهارى . وقال الزمخشري : :الياءُ في نَصْرانيّ للمبالغة كالتي في أَحْمَري " . ونصارى/ نكرةٌ ، ولذلك دَخَلَتْ عليه أَلْ وَوُصِفَ بالنكرةِ في قول الشاعر :

صَدَّتْ كما صَدَّ عما لا يَحِلُّ له *** ساقي نصارى قُبَيْل الفِصْحِ صُوَّامِ

وسُّمُوا بذلك نسبةً إلى قرية يقال لها نَاصِرة ، كان يَنْزِلها عيسى عليه السلام ، أو لأنهم كانوا يتناصرون ، قال الشاعر :

لَمَّا رأيتُ نَبَطاً أَنْصارا *** شَمَّرْتُ عن رُكْبَتيَ الإِزارا

كُنْتُ لهم من النَّصارى جَارا

والصابئُون : قومٌ عَبدوا الملائكةَ ، وقيل : الكواكبَ . والجمهورُ على همزهِ ، وقرأه نافعٌ غيرَ مهموز . فمَنْ هَمَزَه جَعَلَه من صَبَأَ نابُ البعير أي : خَرَجَ ، وصَبَأَتِ النجومُ : طَلَعت . وقال أبو عليّ : " صَبَأْتُ على القومِ إذا طَرَأْتُ عليهم ، فالصابِئُ : التارِكُ لدينِه كالصابىءِ الطارئِ على القومِ فإنه تارِكٌ لأرضِه ومنتقلُ عنها " . ومَنْ لم يَهْمَِزْ فإنه يحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكونَ مأخوذاً من المهموزِ فَأَبْدَلَ من الهمزةِ حرفَ علة إمَّا ياءً أو واواً ، فصارَ من باب المنقوصِ مثل قاضٍ أو غازٍ ، والأصل : صابٍ ، ثم جُمِع كما يُجْمع القاضي أو الغازي ، إلا أنَّ سيبويه لا يرى قلبَ هذه الهمزة إلا في الشعر ، والأخفشُ وأبو زيد يَرَيان ذلك مطلقاً . الثاني : أنه من صَبَا يَصْبو إذا مال ، فالصابي كالغازي ، أصلُه ، صابِوٌ فأُعِلَّ كإعلال غازٍ . وأَسْند أبو عُبَيْد إلى ابن عباس : " ما الصابُون إنما هي الصابئون ، ما الخاطون إنما هي الخاطِئون " . فقد اجتمع في قراءةِ نافع همزُ النبيين وتَرْكُ همز الصابئين ، وقد عَرَفْت أن العكسَ فيهما أَفْصَحُ . وقد حَمَلَ الضميرَ في قوله { مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ } على لفظِ " مَنْ " فأَفْرد ، وعلى المعنى في قولِه : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } على المعنى ، فَجَمَع كقوله :

أَلِمَّا بسَلْمى عنكما إنْ عَرَضْتُما *** وقولا لها عُوجِي على مَنْ تَخَلَّفوا

فراعى المعنى ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك عند قوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا } [ البقرة : 8 ] .

والأجْرُ في الأصلِ مصدرٌ يقال : أَجَرَهُ الله يأجِرُهُ أَجْراً ، وقد يُعَبَّر به عن نفس الشيء المُجَازَى به ، والآيةُ الكريمة تحتملُ المعنيين .

وقرأ أبو السَّمَّال : { وَالَّذِينَ هَادَوْا } بفتحِ الدال كأنها عنده من المفاعَلَةِ والأصلُ : " هادَيُوا " فأُعِلَّ كنظائره .