قولُه تعالى : { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } . . " مَنْ " يجوز فيها وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ شرطيّةً في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و " آمَن " مجزومٌ بها تقديراً وهو الخبرُ على الصحيحِ حَسْبما تقدَّم الخلافُ فيه . وقوله : " فلهم " جواب الشرط ، وهذه الجملة الشرطية في محل رفع خبراً ل " إنَّ " في قوله : إنَّ الذين آمنُوا ، والعائدُ محذوفٌ تقديرُه : مَنْ آمن منهم ، كما صَرَّح به في موضعٍ آخَر . والثاني : أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي ومَحَلُّها حينئذٍ النصبُ على البدلِ مِنْ اسمِ " إنَّ " وهو " الذين " بدلِ بعضٍ من كلٍّ ، والعائذُ أيضاً محذوفٌ كما تقدْم ، و " آمن " صلتُها ، فلا محلَّ له حينئذ .
وقوله : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } خبرُ " إنَّ الذين " ، ودخلتِ الفاءُ لأن الموصولَ يُشْبه الشرطَ ، وهذا عند غيرِ الأخفش ، وأمَّا الأخفش فنُقِل عنه أنَّه إذا نُسِخ المبتدأ ب " إنَّ " يمتنعُ ذلكَ فيه ، فمحلُّ قولِه { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } رفعٌ على هذا القولِ ، وجَزْمٌ على القولِ الأولِ ، و " لهمْ " خبرٌ مقدَّمٌ متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، و " أجرُهُمْ " مبتدأ ، ويجوزُ عند الأخفش أن يكونَ فاعلاً بالجارِّ قبلَه وإنْ لهم يعتَمِدْ ، وقد تقدَّم ذِكْرُ الخلافِ في ذلك .
قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } " عند " ظرفُ مكانٍ لازمُ الإِضافةِ لفظاً ومعنىً ، والعاملُ فيه الاستقرارُ الذي تضمَّنه " لهم " ، ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من " أجرُهم " فيتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُه : فلهم أجرُهم ثابتاً عند ربهم . والعِنْديَّة مجازُ لتعالِيه عن الجهةِ ، وقد تَخْرُجُ إلى ظرفِ الزمان إذا كانَ مظروفُها معنىً ، ومنه قولُه عليه السلام : " إنما الصبرُ عند الصَّدمةِ الأولى " والمشهورُ كسرُ عَيْنِها ، وقد تُفْتَحُ وقد تُضَمُّ .
والذين هادُوا هم اليهودُ ، وهادُوا في أَلِفه قولان : أحدُهما أنه من واو ، والأصلُ : هاد يهودُ أي تاب ، قال الشاعر :
أي : تائبٌ ، ومنه سُمِّي اليهودُ لأنَّهم تابُوا عن عبادةِ العِجْلِ ، وقال تعالى :
{ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] أي تُبْنَا ، وقيل : هو من التَّهْويد وهو النطق في سكون ووقار ، وأنشدوا :
وخُودٌ من اللائي تَسَمَّعْنَ بالضُّحى *** قَريضَ الرُّدافَى بالغِناءِ المُهَوَّد
وقيل : هو من الهَوادة وهي الخضوعُ . الثاني : انها من ياء ، والأصلُ : هاد يَهِيد ، أي : تحرَّك ومنه سُمِّي اليهودُ لتحرُّكهم في دراستِهم . وقيل : سُمُّوا يهودَ نسبةً ليهوذا بالذال المعجمة وهو ابنُ يعقوب عليه السلام ، فغيَّرتْه العربُ من الذال المعجمة إلى المهملة جَرْياً على عادتها في التلاعُب بالأسماء الأعجمية .
والنَّصارى جمعٌ ، واحدُه نَصْران ونَصْرَانة كَنْدمان ونَدْمانة ونَدامى ، قاله سيبويه وأنشد :
فَكِلْتاهما خَرَّتْ وأَسْجَدَ رأسُها *** كما أَسْجَدَتْ نَصْرانَةٌ لم تَحَنَّفِ
وأنشد الطبري على نَصْران قوله :
يَظَلُّ إذا دارَ العِشَا مُتَحَنِّفاً *** ويُضْحي لَدَيْه وهو نَصرْانُ شامِسُ
قال سيبويه : " إلاَّ أنَّه لم يُسْتَعْمَلْ في الكلام إلا بياءِ النسب " وقال الخليل : " واحدُ النصارى نَصْرِيّ كمَهْرِيّ ومَهارى . وقال الزمخشري : :الياءُ في نَصْرانيّ للمبالغة كالتي في أَحْمَري " . ونصارى/ نكرةٌ ، ولذلك دَخَلَتْ عليه أَلْ وَوُصِفَ بالنكرةِ في قول الشاعر :
صَدَّتْ كما صَدَّ عما لا يَحِلُّ له *** ساقي نصارى قُبَيْل الفِصْحِ صُوَّامِ
وسُّمُوا بذلك نسبةً إلى قرية يقال لها نَاصِرة ، كان يَنْزِلها عيسى عليه السلام ، أو لأنهم كانوا يتناصرون ، قال الشاعر :
لَمَّا رأيتُ نَبَطاً أَنْصارا *** شَمَّرْتُ عن رُكْبَتيَ الإِزارا
والصابئُون : قومٌ عَبدوا الملائكةَ ، وقيل : الكواكبَ . والجمهورُ على همزهِ ، وقرأه نافعٌ غيرَ مهموز . فمَنْ هَمَزَه جَعَلَه من صَبَأَ نابُ البعير أي : خَرَجَ ، وصَبَأَتِ النجومُ : طَلَعت . وقال أبو عليّ : " صَبَأْتُ على القومِ إذا طَرَأْتُ عليهم ، فالصابِئُ : التارِكُ لدينِه كالصابىءِ الطارئِ على القومِ فإنه تارِكٌ لأرضِه ومنتقلُ عنها " . ومَنْ لم يَهْمَِزْ فإنه يحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكونَ مأخوذاً من المهموزِ فَأَبْدَلَ من الهمزةِ حرفَ علة إمَّا ياءً أو واواً ، فصارَ من باب المنقوصِ مثل قاضٍ أو غازٍ ، والأصل : صابٍ ، ثم جُمِع كما يُجْمع القاضي أو الغازي ، إلا أنَّ سيبويه لا يرى قلبَ هذه الهمزة إلا في الشعر ، والأخفشُ وأبو زيد يَرَيان ذلك مطلقاً . الثاني : أنه من صَبَا يَصْبو إذا مال ، فالصابي كالغازي ، أصلُه ، صابِوٌ فأُعِلَّ كإعلال غازٍ . وأَسْند أبو عُبَيْد إلى ابن عباس : " ما الصابُون إنما هي الصابئون ، ما الخاطون إنما هي الخاطِئون " . فقد اجتمع في قراءةِ نافع همزُ النبيين وتَرْكُ همز الصابئين ، وقد عَرَفْت أن العكسَ فيهما أَفْصَحُ . وقد حَمَلَ الضميرَ في قوله { مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ } على لفظِ " مَنْ " فأَفْرد ، وعلى المعنى في قولِه : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } على المعنى ، فَجَمَع كقوله :
أَلِمَّا بسَلْمى عنكما إنْ عَرَضْتُما *** وقولا لها عُوجِي على مَنْ تَخَلَّفوا
فراعى المعنى ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك عند قوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا } [ البقرة : 8 ] .
والأجْرُ في الأصلِ مصدرٌ يقال : أَجَرَهُ الله يأجِرُهُ أَجْراً ، وقد يُعَبَّر به عن نفس الشيء المُجَازَى به ، والآيةُ الكريمة تحتملُ المعنيين .
وقرأ أبو السَّمَّال : { وَالَّذِينَ هَادَوْا } بفتحِ الدال كأنها عنده من المفاعَلَةِ والأصلُ : " هادَيُوا " فأُعِلَّ كنظائره .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.