الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَلَّاۤ يَسۡجُدُواْۤ لِلَّهِ ٱلَّذِي يُخۡرِجُ ٱلۡخَبۡءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَيَعۡلَمُ مَا تُخۡفُونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ} (25)

قوله : { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } : قرأ الكسائيُّ بتخفيف " ألا " ، والباقون بتشديدها . فأمَّا قراءةُ الكسائيِّ ف " ألا " فيها تنبيهٌ واستفتحاحٌ ، و " يا " بعدها حرفُ نداءٍ أو تنبيهٍ أيضاً على ما سيأتي و " اسْجُدوا " فعلُ أمرٍ . وكان حَقٌّ الخَطِّ على هذه القراءةِ أن يكونَ " يا اسْجُدوا " ، لكنَّ الصحابةَ أسقطُوا ألفَ " يا " وهمزةَ الوصلِ من " اسْجُدوا " خَطَّاً لَمَّا سَقَطا لفظاً ، ووَصَلُوا الياءَ بسين " اسْجُدوا " ، فصارَتْ صورتُه " يَسْجُدوا " كما ترى ، فاتَّحدت القراءتان لفظاً وخَطَّاً واختلفتا تقديراً .

واختلف النحويون في " يا " هذه : هل هي حرفُ تنبيهٍ أو للنداءِ ، والمنادَى محذوفٌ تقديرُه : يا هؤلاءِ اسْجُدوا ؟ وقد تقدَّم ذلك عند قولِه : { يلَيتَنِي }

[ الآية : 73 ] في سورة النساء . والمرجَّحُ أَنْ تكونَ للتنبيهِ ؛ لئلا يُؤَدِّيَ إلى حَذْفٍ كثيرٍ مِنْ غيرِ بقاءِ ما يَدُلُّ على المحذوفِ . ألا ترى أنَّ جملةَ النداءِ حُذِفَتْ ، فلو ادَّعَيْتَ حَذْفَ المنادَى كَثُرَ الحذفُ ولم يَبْقَ معمولٌ يَدُلُّ على عامِلِهِ ، بخلافِ ما إذا جَعَْلتَها للتنبيهِ . ولكنْ عارَضَنَا هنا أنَّ قبلَها حرفَ تنبيهٍ آخرَ وهو " ألا " . وقد اعْتُذِرَ عن ذلك : بأنه جُمِع بينهما تأكيداً . وإذا كانوا قد جَمَعُوا بين حرفين عامِلَيْنِ للتأكيدِ كقوله :

فَأَصْبَحْنَ لا يَسْألْنَنِي عَنْ بما به *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فغيرُ العامِلَيْن أَوْلَى . وأيضاً فقد جَمَعُوا بين حَرْفَيْنِ عامِلَيْنِ مُتَّحِدَّيْ اللفظِ والمعنى ، كقوله :

فلا واللهِ لا يُلْفَى لِما بي *** ولا لِلِما بهم أبداً دَواءُ

فهذا أَوْلَى . وقد كَثُرَ مباشرةُ " يا " لفعلِ الأمرِ وقبلَها " ألا " التي للاستفتاح كقوله :

ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلمي ثُمَّتَ اسْلَمي *** ثلاثَ تحيَّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمي

وقوله :

ألا يا اسْلَمِي يا دارَ مَيَّ على البِلى *** ولا زالَ مُنْهَلاًّ بجَرْعائِكِ القَطْرُ

وقوله :

ألا يا اسلمي ذاتَ الدَّماليجِ والعِقْدِ *** وذَاتَ اللِّثاثِ الجُمِّ والفاحِمِ الجَعْدِ

وقوله :

ألا يا اسْلمي يا هندُ هندَ بني بدرٍ *** وإن كان حَيَّانا عِداً آخرَ الدهرِ

وقوله :

ألا يا اسْقِياني قبلَ حَبْلِ أبي بكرِ *** لعل منايانا قَرُبْنَ ولا نَدْري

وقوله :

ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سِنْجالِ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله :

فقالَتْ ألا يا اسْمَعْ أَعِظْكَ لخُطْبةٍ *** فقلتُ : سَمِعْنا فانْطِقي وأَصِيْبي

وقد جاءَ ذلك ، وإنْ لم يكنْ قبلَها " ألا " كقوله :

يا دارَ هندٍ يا اسْلَمي ثُمَّ اسْلَمي *** بِسَمْسَِمٍ أو عَنْ يمين سَمْسَِمِ

فقد عَرَفْتَ أنَّ قراءةَ الكسائيِّ قويةٌ لكثرةِ دَوْرِها في لغتهم .

وقد سُمع ذلك في النثر ، سُمِع بعضُهم يقول : ألا يا ارحموني ، ألا يا تَصَدَّقوا علينا . وأمَّا قولُ الأخرِ :

يا لعنةَ اللهِ والأقوامِ كلِّهمُ *** والصالحينَ على سَمْعانَ مِنْ جارِ

فيُحتمل أَنْ تكونَ يا للنداء ، والمنادى محذوف ، وأَنْ تكونَ للتنبيهِ وهو الأرجحُ لِما مَرَّ .

واعلمْ أن الكسائيَّ الوقفُ عنده على " يَهْتَدون " تامٌّ .

وله أن يَقِفَ على " ألا يا " معاً ويَبْتَدىءَ " اسْجُدوا " بهمزة مضمومةٍ ، وله أَنْ يقفَ على " ألا " وحدَها ، وعلى " يا " وحدَها ؛ لأنهما حرفان منفصِلان . وهذان الوقفان وقفا اختبارٍ لا اختيارٍ ؛ لأنهما حرفان لا يَتِمُّ معناهما ، إلاَّ بما يتصلان به ، وإنما فعله القراءُ امتحاناً وبياناً . فهذا توجيهُ قراءةِ الكسائيِّ ، والخطبُ فيها سَهْلٌ .

وأما قراءةُ الباقين فتحتاج إلى إمعانِ نَظَرٍ . وفيه أوجهٌ كثيرةٌ ، أحدها : أنَّ " ألاَّ " أصلُها : أَنْ لا ، ف " أنْ " ناصبةٌ للفعلِ بعدَها ؛ ولذلك سَقَطَتْ نونُ الرفعِ ، و " لا " بعدها حَرفُ نفيٍ . و " أنْ " وما بعدها في موضع مفعولِ " يَهْتَدون " على إسقاطِ الخافضِ ، أي : إلى أن/ لا يَسْجُدوا . و " لا " مزيدةٌ كزيادتِها في { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } [ الحديد : 29 ] . الثاني : أنه بدلٌ مِنْ " أعمالَهم " وما بينهما اعتراضٌ تقديرُه : وزَيَّن لهم الشيطانُ عدمَ السجودِ لله . الثالث : أنه بدلٌ من " السبيل " على زيادةِ " لا " أيضاً . والتقديرُ : فصَدَّهم عن السجودِ لله تعالى . الرابع : أنَّ { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } مفعول له . وفي متعلَّقه وجهان ، أحدهما : أنه زَيَّن أي : زَيَّن لهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجدُوا . والثاني : أنَّه متعلِّقٌ ب " صَدَّهم " أي : صَدَّهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجُدوا . وفي " لا " حينئذٍ وجهان ، أحدهما : أنه ليسَتْ مزيدةً ، بل نافيةٌ على معناها من النفي . والثاني : أنها مزيدةٌ والمعنى : وزَيَّن لهم لأجلِ توقُّعِه سُجودَهم ، أو لأجْلِ خَوْفِه مِنْ سُجودِهم . وعدمُ الزيادةِ أظهرُ .

الخامس : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ . وهذا المبتدأُ : إمَّا أَنْ يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على " أعمالَهم " التقديرُ : هي أن لا يَسْجدوا ، فتكون " لا " على بابِها من النفي ، وإمَّا أن يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على " السبيل " . التقديرُ : هو أَنْ لا يَسْجُدوا فتكون " لا " مزيدةً على ما تقدَّم ليَصِحَّ المعنى .

وعلى الأوجهِ الأربعةِ المتقدمةِ لا يجوزُ الوقفُ على " يَهْتدون " لأنَّ ما بعدَه : إمَّا معمولٌ له أو لِما قبلَه مِنْ " زَيَّن " و " صَدَّ " ، أو بدلٌ مِمَّا قبله أيضاً مِنْ " أعمالَهم " أو من " السبيل " على ما قُرِّر وحُرِّرَ ، بخلافِ الوجهِ الخامسِ فإنه مبنيٌّ على مبتدأ مضمرٍ ، وإن كان ذلك الضمير مُفَسَّراً بما سَبَقَ قبلَه .

وقد كُتِبَتْ " ألاَّ " موصولةً غيرَ مفصولةٍ ، فلم تُكْتَبْ " أنْ " منفصِلةً مِنْ " لا " فمِنْ ثَمَّ امتنعَ أَنْ يُوْقَفَ لهؤلاء في الابتلاء والامتحان على " أنْ " وحدَها لاتِّصالِها ب " لا " في الكتابةِ ، بل يُوْقَفُ لهم على " ألاَّ " بجملتِها ، كذا قال القُراء .

والنحويون متى سُئِلوا عن مثلِ ذلك وَقَفُوا لأجلِ البيانِ على كلِّ كلمةٍ على حِدَتِها لضرورة البيانِ ، وكونُها كُتِبَتْ متصلةً ب " لا " غيرُ مانعٍ من ذلك . ثم قولُ القُرَّاءِ كُتِبَتْ متصلةً فيه تجوُّزٌ وتَسامُحٌ ؛ لأنَّ حقيقةَ هذا أَنْ يُثْبِتُوا صورةَ نونٍ ويَصِلُونها ب " لا " ، فيكتبونها : أَنْلا ، ولكن لَمَّا أُدْغِمَتْ فيما بعدَها لفظاً وذَهَبَ لفظُها إلى لفظِ ما بعدَها ، قالوا ذلك تسامحاً .

وقد رتَّب أبو إسحاق على القراءتين حُكماً : وهو وجوبُ سجودِ التلاوةِ وعَدَمُه ؛ فأوجبه مع قراءةِ الكسائيِّ وكأنه لأجلِ الأمرِ به ، ولم يُوْجِبْه في قراءة الباقين لعدمِ وجودِ الأمرِ فيها . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لم يَرْتَضِه منه فإنه قال : " فإنْ قلتَ : أسَجْدَةُ التلاوةِ واجبةٌ في القراءتين جميعاً أو في واحدةٍ فيهما ؟ قلت : هي واجبةٌ فيهما ، وإحدى القراءتين أمرٌ بالسجودِ ، والأخرى ذَمٌّ للتارك " . فما ذكره الزجاج مِنْ وجوبِ السجدةِ مع التخفيفِ دونَ التشديدِ فغيرُ مرجوعٍ إليه .

قلت : وكأنَّ الزجاجَ أخذ بظاهرِ الأمرِ ، وظاهرُه الوجوبُ ، وهذا لو خُلِّيْنا والآيةَ لكان السجودُ واجباً ، ولكنْ دَلَّتِ السُّنَّةُ على استحبابِه دونَ وجوبِه ، على أنَّا نقول : هذا مبنيٌّ على نظرٍ آخر : وهو أنَّ هذا الأمرَ من كلامِ اللهِ تعالى ، أو من كلامِ الهُدْهُدِ محكيًّا عنه . فإنْ كان مِنْ كلامِ اللهِ تعالى فيُقال : يَقْتضي الوجوبَ ، إلاَّ أَنْ يجيْءَ دليلٌ يَصْرِفُه عن ظاهرِه ، وإنْ كان من كلامِ الهُدْهد وهو الظاهرُ ففي انتهاضِه دليلاً نظرٌ لا يَخْفى .

وقرأ الأعمشُ " هَلاَّ " ، و " هَلا " بقلب الهمزة هاءً مع تشديدِ " لا " وتخفيفها وكذا هي في مصحفِ عبد الله . وقرأ عبدُ الله " تَسْجُدون " بتاء الخطابِ ونونِ الرفع . وقُرِىءَ كذلك بالياءِ مِنْ تحتُ . فمَنْ أَثْبَتَ نونَ الرفعِ فألا بالتشديدِ أو التخفيفِ للتحضيضِ ، وقد تكونُ المخففةُ للعَرْضِ أيضاً نحو : " ألا تَنْزِل عندنا نتحدَّث " وفي حرف عبدِ الله أيضاً : " ألا هَلْ تَسْجدُون " بالخطاب .

قوله : { الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ } يجوز أَنْ يكونَ مجرورَ المحلِّ نعتاً له أو بدلاً منه أو بياناً ، أو منصوبَه/ على المدحِ ، ومرفوعَه على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ . والخَبْءُ مصدرُ خَبَأْتُ الشَيءَ أخبَؤُه خَبْئاً أي : سَتَرْتُهُ ، ثم أُطْلِقَ على الشيءِ المَخْبوء . ونحُوه : { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ } [ لقمان : 11 ] . وفي التفسير : الخَبْءُ في السماواتِ : المطرُ ، وفي الأرض : النباتُ . والخابِيَةُ مِنْ هذا ، إلاَّ أنهم التزموا فيها تَرْكَ الهمزةِ كالبَرِيَّة والذُّرِّيَّة عند بعضِهم . وقرأ أُبَيٌّ وعيسى " الخَبَ " بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الباءِ ، وحَذْفِ الهمزة ، فيصيرُ نحوَ : رأيتُ الأَبَ . وقرأ عبد الله وعكرمةُ ومالك بن دينار " الخبا " بألفٍ صريحة . ووجْهُها : أنه أبدلَ الهمزةَ ألفاً فلزِمَ تحريكُ الباءِ ، وذلك على لغةِ مَنْ يَقِفُ من العرب بإبدال الهمزةِ حرفاً يجانِسُ حركتَها فيقول : هذا الخَبُوْ ، ورأيتُ الخَبا ومررت بالخَبِي ، ثم أُجْرِي الوصلُ مُجْرَى الوقفِ .

وعندي أنه لَمَّا نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها لم يَحْذِفْها ، بل تركها فسكنَتْ بعد فتحةٍ فدُيِّرَتْ بحركةِ ما قبلها ، وهي لغةٌ ثابتةٌ يقولون : المَراة والكَماة بألفٍ مكانَ الهمزةِ بهذه الطريقةِ .

وقد طَعن أبو حاتم على هذه القراءةِ وقال : " لا يجوزُ في العربيةِ ؛ لأنه إنْ حَذَفَ الهمزة ألقى حركتَها على الباء ، فقال : الخَبَ ، وإن حَوَّلها قال : الخَبْيَ بسكونِ الباءِ وياءٍ بعدَها " قال المبرد : " كان أبو حاتم دونَ أصحابِه في النحوِ ، لم يَلْحَقْ بهم ، إلاَّ أنه إذا خَرَجَ مِنْ بلدِهم لم يَلْقَ أَعْلَمَ منه " .

قوله : { فِي السَّمَاوَاتِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلقٌ ب " الخَبْءَ " أي : المخبوءَ في السماواتِ . والثاني : أنه متعلقٌ ب " يُخْرِجُ " على أنَّ معنى " في " معنى " مِنْ " أي : يُخْرِجُه من السماواتِ . وهو قول الفراء .

قوله : { مَا تُخْفُونَ } قرأ الكسائيُّ وحفص بالتاء مِنْ فوقُ فيهما ، والباقون بالياءِ مِنْ تحتُ . فالخطابُ ظاهرٌ على قراءةِ الكسائي ؛ لأنَّ قبلَه أمْرَهم بالسجودِ وخطابَهم به . والغَيْبَةُ على قراءةِ الباقينِ غيرَ حفصٍ ظاهرةٌ أيضاً ؛ لتقدُّمِ الضمائرِ الغائبةِ في قوله : " لهم " و " أعمالهم " و " صَدَّهم " و " فهمْ " . وأمَّا قراءةُ حفصٍ فتأويلُها أنه خَرَجَ إلى خطابِ الحاضرين بعد أَنْ أتمَّ قضيةَ أهلِ سَبَأ . ويجوز أَنْ يكونَ التفاتاً على أنه نزَّل الغائبَ منزلةَ الحاضرِ فخاطبه مُلْتَفِتاً إليه .

وقال ابن عطية : " القراءةُ بياءِ الغَيْبة تعطي أن الآيةَ من كلامَ الهُدْهد ، وبتاءِ الخطابِ تعطي أنها من خطابِ الله لأمةِ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم " . وقد تقدَّم أنَّ الظاهر أنه من كلامِ الهدهد مطلقاً . وكذلك الخلافُ في قولِه { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } هل هو من كلامِ الهدهدِ استدراكاً منه ، لَمَّا وَصَفَ عَرْشَ بلقيسَ العظيمَ ، أو من كلامِ اللهِ تعالى رَدَّا عليه في وَصْفِه عَرْشَها بالعظيم ؟ .