الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (110)

قوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } : في " كان " هذه ستةُ أقوال ، أحدها : أنها ناقصةٌ على بابها ، وإذا كانت كذلك فلا دلالةَ على مُضِيٍّ وانقطاع ، بل تصلح للانقطاع نحو : " كان زيد قائماً " وتصلح للدوام نحو : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 16 ] { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً }

[ الإسراء : 32 ] ، فهي هنا بمنزلَةِ " لم يَزَلْ " وهذا بحسَبِ القرائن .

وقال الزمخشري : " كان " عبارةٌ عن وجود الشيء في زمن ماض على سبيل الإِبهام ، وليس فيه دليلٌ على عَدَمٍ سابق ولا على انقطاع طارىء ، ومنه قولُه تعالى : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } وقوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } كأنه قيل : " وُجِدْتُم خيرَ أمة " . قال الشيخ : قوله " لم تَدُلَّ على عدمٍ سابقٍ " هذا إذا لم تكن بمعنى " صار " فإذا كانت بمعنى " صار " دلَّت على عدمٍ سابقٍ ، فإذا قلت : " كان زيد عالماً " بمعنى " صار زيد عالماً " دَلَّتْ على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم ، وقولُه : " ولا على انقطاع طارىء " قد ذكرنا قبلُ أن الصحيح أنها كسائر الأفعال يَدُلُّ لفظ المُضِيِّ منها على الانقطاع ، ثم قد تُسْتعمل حيث لا انقطاعَ ، وفَرْقٌ بين الدلالة والاستعمال ، ألا ترى أنك تقول : " هذا اللفظُ يَدُلُّ على العموم " ثم قد يستعمل حيث لا يُرادُ العمومُ بل يرُاد الخصوصُ . وقوله : " كأنه قيل وُجِدْتُم خيرَ أمة " هذا يعارِضُ قولَه " إنها مثلُ قوله : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } لأن تقديرَه " وُجِدتم خير أمة " يَدُلُّ على أنها التامة وأن " خير أمة " حالٌ . وقوله : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } لا شك أنها هنا الناقصةُ فتعارضا " قلت : لا تعارُضَ لأنَّ هذا تفسيرُ معنًى لا تفسيرُ إعرابٍ .

الثاني : أنها بمعنى " صِرْتُم " و " كان " تأتي بمعنى " صار " كثيراً كقوله :

بتيهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنها *** قَطَا الحَزْنِ قد كانَتْ فِراخا بيوضُها

أي : صارَتْ فراخاً .

الثالث : أنها تامةٌ بمعنى وُجِدْتُم ، و " خيرَ أمة " على هذا منصوبٌ على الحال أي : وُجدتم في هذه الحال .

الرابع : أنها زائدةٌ ، والتقديرُ : أنتم خيرُ أمةٍ ، وهذا قولٌ مرجوحٌ أوغَلَطٌ لوجهين ، أحدُهما : أنها لا تُزاد أولاً ، وقد نَقَلَ ابن مالك الاتفاقَ على ذلك . والثاني : أنها لا تعمل في " خير " مع زيادتِها ، وفي الثاني نظرٌ ، إذ الزيادةُ لا تنافي العملَ ، وقد تقدَّم عليه دلائلُ في البقرة عند قولِه : { أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ البقرة : 246 ] .

الخامس : أنها على بابِها ، والمرادُ : كنتم في علمِ الله ، أو في اللوح المحفوظ .

السادس : أن هذه الجملةَ متصلةٌ بقوله : { فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ } أي : فيُقال : لهم في القيامة { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } ، وهو بعيدٌ جداً .

قوله : { أُخْرِجَتْ } يجوزُ في هذه الجملة أن تكونَ في محلِّ جر نعتاً ل " أمة " وهو الظاهرُ ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ نعتاً ل " خير " ، وحينئذٍ يكونُ قد رُوعي لفظُ الاسمِ الظاهر بعد ورودِهِ بعد ضمير الخطاب ، ولو رُوعي ضميرُ الخطاب لكان جائزاً أيضاً ، وذلك أنه إذا تقدَّم ضميرُ حاضرٍ متكلماً كان أو غائباً ، ثم جاء بعده خبرُه اسماً ظاهراً ، ثم جاء بعد ذلك الاسمِ الظاهرِ ما يصلُح أن يكونَ وصفاً له كان للعرب فيه طريقان ، إحداهما : مراعاةُ ذلك الضميرِ السابق فيطابقهُ بما في تلك الجملةِ الواقعةِ صفةً للاسم/ الظاهر ، والثانية : مراعاةُ ذلك الاسمِ الظاهر فيعيدُ الضميرَ عليه منها غائباً ، وذلك [ نحو ] قولك : " أنتَ رجلٌ تأمرُ بمعروفٍ " بالخطابِ مراعاةً ل " أنت " ، و " يأمر " بالغَيْبَةِ مراعاةَ ل " رجل " ، " وأنا امرؤ أقولُ الحق " بالمتكلم مراعاةً ل " أنا " و " يقولُ الحقَّ " مراعاةً لامرىء . ومن مراعاةِ الضمير قولُه تعالى : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ النمل : 55 ] ، { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } [ النمل : 47 ] ، وقوله " وإنك امرؤٌ فيك جاهلية " وقول الشاعر :

وأنت امرؤٌ قد كَثَّأَتْ لك لِحْيَةٌ *** كأنك منها قاعدٌ في جُوالِقِ

ولو قيل في الآية الكريمة " أُخْرِجْتُم " مراعاة ل " كنتم " لكان جائزاً من حيث اللفظُ ، ولكن لا يجوز أن يُقرأ به ، لأن القراءةَ سنةٌ متبعة ، فالأَولى أن تُجْعل الجملةُ صفةً ل " أمة " لا ل " خير " ليتناسبَ الخطابُ في قولِه : " تأمرون " .

قوله : " للناسٍ " فيه أوجه ، أحدُها : أَنْ يتعلَّقَ ب " أُخْرجت " ، والثاني : أن يتعلَّق ب " خير " والفرقُ بينهما من حيث المعنى أنه لا يلزَمُ أن يكونوا أفضلَ الأمم في الوجهِ الثاني من هذا اللفظ ، بل من موضعٍ أخر . والثالث : أنه متعلقٌ من حيثُ المعنى لا من حيث الإِعراب ب " تأمرون " على أنَّ مجرورَها مفعولٌ به ، فلمَّا قُدِّمَ ضَعُفَ العاملُ فَقَوِيَ بزيادةِ اللام كقوله :

{ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] أي : تَعْبُرون الرويا .

قوله : " تأمرون " في هذه الجملةِ أوجهُ أحدُها : أنها خبرٌ ثان ل " كنتم " ، ويكون قد راعى الضميرَ المتقدم في " كنتم " ، ولو راعى الخبرَ لقال : " يأمرون " بالغيبةِ ، وقد تقدَّم تحقيقُهُ . والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ، قاله الراغب وابن عطية . الثالث : أنها في محلِّ نصب نعتاً لخير أمة ، وأتى بالخطابِ لِما تقدَّم ، قاله الحوفي . الرابع : أنها مستأنفةٌ بَيَّنَ بها كونَهم خيرَ أمة ، كأنه قيل : السببُ في كونِكم خيرَ الأممِ هذه الخصالُ الحميدة ، وهذا أغربُ الأوجه .

قوله : { لَكَانَ خَيْراً } اسمُ " كان " ضميرٌ يعودُ على المصدرِ المدلولِ عليه بفعلِهِ ، والتقديرُ : لكان الإِيمانُ خيراً كقولهم : " مَنْ كَذَبَ كان شراً له " ِأي : كان الكذبُ شَرَّاً له ، ونحوُه : { اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] ، [ وقوله ] :

إذا نُهِي السَّفيهُ جَرَى إليه *** وخالفَ والسَّفِيهُ إلى خلافِ

أي : جرى إليه السَّفَهُ .

والمُفَضَّلُ عليه محذوفٌ أي : خيراً لهم مِنْ كفرهم وبقائِهم على جهلهم . والمرادُ بالخيرية في زعمهِم : وقال ابن عطية : " ولفظةٌ " خير " صيغةُ تفضيل ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخيرِ ، وإنما جاز ذلك لِما في لفظ " خير " من الشِّياع وتشعُّبِ الوجوهِ ، وكذلك هي لفظة " أفضل " و " أحب " وما جرى مجراهما " . قال الشيخ : " وإبقاؤها على موضوعِها الأصلي أَوْلى إذا أَمْكَنَ ذلك ، وقد أَمْكَنَ ذلك إذ الخيريةُ مطلقةٌ فتحصُلُ بأدنى مشاركة " .

قوله : { مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ } إلى آخره : جعل مستأنفة سِيقت للإِخبار بذلك .