الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (13)

قوله تعالى : { قَدْ كَانَ } : جوابُ قسمٍ محذوفٍ ، و " آيةٌ " اسمُ كان ، ولم يؤنِّث الفعلَ لأنَّ تأنيثَ الآيةِ مجازيٌّ ، ولأنها بمعنى الدليل والبرهان ، ولوجودِ الفصلِ ب " لكم " ، فإنَّ الفصلَ مُسَوِّغٌ لذلك مع كونِ التأنيث حقيقاً كقوله :

إنَّ امرَأً غَرَّه منكنَّ واحدةٌ *** بَعْدي وبعدكِ في الدنيا لمغرورُ

وفي خبر " كان " وجهان أحدُهما : أنه " لكم " و " في فئتين " في محل رفع نعتاً لآية . والثاني : أنه " في فئتين " . وفي " لكم " حينئذ وجهان ، أحدهما : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " آية " لأنه في الأصل صفةٌ لآية ، فلما قُدِّم نُصِب حالاً . والثاني : أنه متعلِّقٌ بكان ، ذكره أبو البقاء ، وهذا عند مَنْ يرى أنها تعملُ في الظرف وحرف الجر ، ولكنْ في جَعْلِ " في فئتين " الخبرَ إشكالٌ ، وهو أن حكمَ اسمِ " كان " حُكْمُ المبتدأِ فلا يجوزُ أن يكونَ اسماً لها إلاَّ ما جاز الابتداءُ به ، وهنا لو جُعِلَتْ " آية " مبتدأً وما بعدها خبراً لم يَجُزْ ، إذ لا مسوِّغَ للابتداء بهذه النكرة ، بخلاف ما إذا جَعلْتَ " لكم " الخبرَ فإنه جائزٌ لوجودِ المسوِّغِ وهو تقدُّمُ الخبرِ حرفَ جر .

قوله : { الْتَقَتَا } في محلِّ جرٍ صفةً لفئتين أي : فئتين ملتقيتين .

قوله : { فِئَةٌ تُقَاتِلُ } العامة على رفع " فئة " وفيها أوجهٌ ، أحدها : أن يرتفعَ على البدلِ من فاعل " التقتا " ، وعلى هذا فلا بدَّ من ضمير محذوفٍ يعودُ على " فئتين " المتقدمتين في الذكر ، ليسوغَ الوصفُ بالجملة ، إذ لو لم يُقَدَّرْ ذلك لما صَحَّ ، لخلوِّ الجملةِ الوصفيةِ من ضميرٍ ، والتقديرُ : في فئتين التقَتْ فئةٌ منهما وفئةٌ أخرى كافرة . والثاني : أن يرتفعَ علىخبر ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه : إحداهما فئةٌ تقاتِلُ ، فقطع الكلامَ عن أولِه ، واستأنفه . ومثلُه ما أنشده الفراء على ذلك :

إذا مِتُّ كان الناسُ صِنْفَيْنِ شامتٌ *** وآخرُ مُثْنٍ بالذي كنتُ أصنعُ

أي : أحدُهما شامتٌ وآخرٌ مُثْنٍ ، أي : وصنفٌ آخرُ مُثْنٍ ، ومثلُه في القطع أيضاً قولُ الآخر :

حتى إذا ما استقلَّ النجمُ في غَلَسٍ *** وغُودر البقلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصودُ

أي : بعضُه مَلْوِيٌّ وبعضُه مَحْصود . وقال أبو البقاء : " فإنْ قلت : فإذا قَدَّرْتَ في الأولى " إحداهما " مبتدأً كان القياسُ أن يكون والأخرى ، أي : والفئةُ الأخرى كافرةٌ . قيل : لَمَّا عُلِم أنَّ التفريقَ هنا لنفس الشيءِ المقدَّمِ ذكرُه كان التعريفُ والتنكير واحداً . قلت : ومثلُ الآية الكريمة في هذا السؤال وجوابه البيتُ المتقدم : " شامتٌ وآخرُ مُثْنٍ " فجاء به نكرةً دون " أل " .

الثالث : أن يرتفعَ على الابتداءِ وخبرُه مضمرٌ تقديرُه : منهما فئة تقاتل ، وكذا في البيت اي : منهم شامتٌ ومنهم مُثْنٍ ، ومثلُه قولُ النابغة :

تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها *** لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ

رمادٌ ككحل العينِ لأْياً أُبينُه *** ونُؤْيٌ كجِذْمِ الحَوْضِ أثلمُ خاشع

تقديره : منهنَّ أي : ومن الآيات رمادٌ ، ومنهن نؤيٌ ، ويَحْتَمل البيتُ أن يكونَ كما تقدم من تقديره مبتدأً ، و " رمادٌ " خبرُه كما تقدَّم في نظيره .

وقرأ الحسن ومجاهد وحميد : " فئةٍ تقاتل " بالجر على البدل من " فئتين " ، ويسمَّى هذا البدلُ بدلاً تفصيلاً كقولِ كثِّير عزة :

وكنتُ كذي رجلين رجلٍ صحيحةٍ *** ورجلٍ رَمَى فيها الزمانُ فَشَلَّتِ

وهو بدلُ بعضٍ من كل ، وإذا كان كذلك فلا بُدَّ من ضميرٍ يعودُ على المبدل منه تقديره : فئةٍ منهما .

وقرأ ابن السَّمَيْفَع وابن أبي عَبْلة " فئةً " نصباً . وفيه أربعة أوجه ، أحدها : النصبُ بإضمارِ أعني . والثاني : النصبُ على المدح . وتحريرُ هذا القول أن يُقال على المدح في الأول ، وعلى الذم في الثاني ، وكأنه قيل : أَمْدَحُ فئةً تقاتل في سبيل الله ، وأذمُّ أخرى كافرةً . الثالث : أن ينتصبَ على الاختصاص جَوَّزه الزمخشري . قال الشيخ : " وليس بجيد ؛ لأنَّ المنصوبَ [ على الاختصاص ] لا يكونُ نكرةً ولا مبهماً " قلت : لا يعني الزمخشري الاختصاصَ المبوَّبَ له في النحو نحو " نحن معاشرَ الأنبياء لا نُوْرَثُ " إنما عنى النصبَ بإضمارِ فعلٍ لائقٍ ، وأهلُ البيانِ يُسَمُّون هذا النحو اختصاصاً . الرابعُ : أن تنتصِبَ " فئةً " على الحالِ من فاعل " التقتا " كأنه قيل : التقتا مؤمنةً وكافرةً ، فعلى هذا يكون " فئةً " و " أخرى " توطئةً للحال ، لأن المقصود ذِكْرُ وصفها ، وهذا كقولهم : جاءني زيدٌ رجلاً صالحاً ، ومثلُه في باب الإِخبار : { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } [ الأعراف : 81 ] ونحوُه .

قوله : { وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } " أُخْرى " : صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ تقديره : " وفئةٌ أخرى كافرةٌ " . وقُرِئَتْ " كافرة " بالرفعِ والجَرِّ على حَسَبِ القراءتين المذكورتين في " فئة تقاتل " ، وهذه منسوقَةٌ عليها ، وكان من حقن قرأ " فِئَةً تقاتل " نصباً أن يقرأ : " وأخرى كافرةً " نصباً عطفاً على الأولى ، ولكني لم أحفظ فيها ذلك . وفي عبارة الزمخشري ما يُوْهم القراءةَ به فإنه قال : " وقُرىء فئة تقاتل وأخرى كافرة بالجرِّ على البدلِ من فئتين ، وبالنصبِ على الاختصاص أو الحال " ، فظاهرُ قولِه : " وبالنصب " [ أي : في جميعِ ما تقدم وهو : فئة تقاتل وأخرى كافرة ] . وقد تقدَّم سؤال أبي البقاء وهو : لم يَقُلْ " والأخرى " بالتعريفِ ، أعني حالَ رفعِ " فئةُ تقاتل " على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه : " إحداهما " ، والجوابُ عنه .

والعامَّةُ على " تقاتل " بالتأنيثِ لإِسنادِ الفعلِ إلى ضميرِ المؤنث ، ومتى أُسْنِدَ إلى ضميرِ المؤنث وَجَبَ تأنيثُه ، سواءً كان التأنيثُ حقيقةً ِأم مجازاً نحو : " الشمس طَلَعَت " هذا جمهورُ الناسِ عليه ، وخالَفَ ابن كيسان فأجاز : " الشمس طَلَع " مستشهداً بقوله الشاعر :

فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها *** ولا أرضَ أبقلَ إبقالَها

فقال : " أبقل " وهو مسندٌ لضميرِ الأرض ولم يَقُلْ : أبقلَتْ ، وغيرُه يَخُصُّهُ بالضرورةِ . وقال هو : " لا ضرورةَ إذ كان يمكنُ أن يَنْقُلَ حركةَ الهمزةِ على تاءِ التأنيثِ الساكنة فيقول : ولا أرضَ أبقلتِ بْقالَها . وقد ردُّوا عليه بأن الضرورةَ ليس معناها ذلك ، ولئن سَلَّمنا ذلك فلا نُسَلِّم أن هذا الشاعرَ كان من لغتِه النقلُ ، لأنَّ النقلَ ليس لغةً لكلِّ العرب .

وقرأ مجاهد ومقاتل : " يقاتل " بالياء من تحت ، وهي مُخَرَّجةٌ على مذهب ابن كيسان ومقويةٌ له . قالوا : والذي حَسَّن ذلك كونُ " فئة " في معنى القومِ والناس ؛ فلذلك عاد الضميرُ عليها مذكَّراً .

قوله : { يَرَوْنَهُمْ } قرأ نافع وحده من السبعةِ ويعقوب وسهل : " تَرَوْنهم " بالخطابِ ، والباقون من السعبة بالغَيْبة . فأمَّا قراءةُ نافع ففيها ثمانية أوجه ، أحدُها : أن الضميرَ في " لكم " والمرفوعَ في " تَرَوْنهم " للمؤمنين ، والضميرَ المنصوب في " تَرَوْنهم " والمجرورَ في " مِثْلَيْهم " للكافرين . والمعنى : قد كان لكم أيها المؤمنون آيةٌ في فئتين بأَنْ رأيتم الكفارَ مثلي أنفسهم في العدد وهو أبلغُ في القدرةِ حيث رأى المؤمنون الكافرين مثلي عددِ الكافرين ، ومع ذلك انتصروا عليهم وغَلَبوهم وأَوْقَعوا بهم الأفاعيلَ . ونحُوه : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ } [ البقرة : 249 ] واستبَعَدَ بعضُهم هذا التأويلَ لقوله تعالى في الأنفالِ : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً } [ الآية : 44 ] ، فالقصةُ واحدةٌ ، وهناك تَدُلُّ الآية على أن الله تعالى قَلَّل المشركين في أعين المؤمنين لئلا يَجْبُنوا عنه ، وعلى هذا التأويلِ المذكور هنا يكون قد كَثَّرهم في أعينهم . ويمكنُ أن يُجابَ عنه باختلافِ حالَيْنِ ، وذلك أنه في وقتٍ أراهم إيَّاهم مثلي عددهم ليمتحنهم ويبتليهم ، ثم قَلَّلهم في أعينهم ليقدُموا عليهم ، فالإِتيانُ باعتبارين ومثلُه : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] مع :

{ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] ، { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً }

[ النساء : 42 ] مع : { هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } [ المرسلات : 35 ] . وقال الفراء : " المرادُ بالتقليل التهوينُ كقولِك : " رأيتُ كثيرَهم قليلاً " لهوانِهِم عندكَ ، وليس من تقليلِ العدد في شيء " .

الثاني : أن يكونَ الخطاب في " تَرَوْنهم " للمؤمنين أيضاً ، والضميرُ المنصوبُ في " ترونهم " للكافرين أيضاً ، والضميرُ المجرورِ في " مِثْلَيْهم " للمؤمنين ، والمعنى : تَرَوْن أيها المؤمنون الكافرين مثلي عددِ أنفسكم ، وهذا تقليلٌ للكافرين عند المؤمنين في رأيِ العين ، وذلك أنَّ الكفارَ كانوا ألفاً ونَيِّفاً والمسلمونُ على الثلث منهم ، فأراهم إياهم مِثْلَيْهم ، على ما قَرَّر عليهم من مقاومةِ الواحدِ للاثنين في قوله تعالى : { فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [ الأنفال : 66 ] بعد ما كُلِّفوا أن يقاومَ واحدٌ العشرةَ في قوله تعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [ الأنفال : 65 ] . قال الزمخشري : " وقراءةُ نافع لا تساعد عليه " عين على هذا التأويلِ المذكور ، ولم يُبَيِّنْ وجه عدمِ المساعدةِ ، وكأنَّ الوجَه في ذلك والله أعلم أنه كان ينبغي أن يكونَ التركيب : " تَرَوْنهم مثليكم " بالخطاب في " مثليكم " لا بالغَيْبة . وقال أبو عبد الله الفاسي بعد ما ذكرته عن الزمخشري : " قلت : بل يساعِدُ عليه إن كان الخطابُ في الآية للمسلمين ، وقد قيل ذلك " انتهى ، فلم يأتِ أبو عبد الله بجوابٍ ، إذ الإِشكالُ باقٍ .

وقد أجابَ بعضُهم عن ذلك بجوابين ، أحدُهما : أنه من باب الالتفات من الخطاب إلى الغَيبة وأن حقَّ الكلام : " مِثْلَيْكم " بالخطاب ، إلا أنه التفتَ إلى الغَيْبة ، ونظَّره بقوله تعالى : { حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم }

[ يونس : 22 ] . والثاني : أن الضميرَ في " مِثْلَيْهم " وإن كان المرادُ به المؤمنين إلا أنه عادَ على قوله : { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ، والفئةُ المقاتِلة هي عبارةٌ عن المؤمنين المخاطبينَ ، والمعنى : تَرَوْن أيها المؤمنون الفئةَ الكافرة مِثْلَيْ الفئةِ المقاتلةِ في سبيل الله ، فكأنه قيل : تَرَوْنَهم أيَها المؤمنون مِثْلَيْكُم . وهوَ جوابٌ حسنٌ ومعنى واضحٌ .

الثالث : أن يكونَ الخطاب في " لكم " وفي " تَرَوْنَهم " للكفار ، وهم قريش ، والضميرُ المنصوبُ والمجرور للمؤمنين ، أي : قد كان لكم أيها المشركون/ آيةٌ حيث تَرَوْن المؤمنين مِثْلَي أنفسِهم في العدَدِ ، فيكون قد كَثَّرهم في أعينِ الكفار ليجبنُوا عنهم ، فيعودُ السؤالُ المذكور بين هذه الآية وآية الأنفال ، وهي قوله تعالى : { وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } [ الأنفال : 44 ] ، فكيف يقال هنا إنه كَثَّرهم فيعودُ الجواب بما تقدَّم من اختلافِ حالتين ، وهو أنه قَلَّلهم أولاً ليجترىءَ عليهم الكفارُ ، فلمَّا التقى الجمعان كَثَّرهم في أعيِنِهم ليحصُل لهم الخَورُ والفَشَلُ .

الرابع : كالثالث ، إلاَّ أنَّ الضميرَ في " مِثْلَيْهم " يعودُ على المشركين فيعودُ ذلك السؤال ، وهو أنه كان ينبغي أن يُقال " مِثْليكم " ليتطابق الكلامُ فيعودَ الجوابان وهما : إمَّا الالتفاتُ من الخطاب إلى الغَيْبة ، وإمَّا عودُه على لفظِ الفئة الكافرة ، لأنها عبارةٌ عن المشركين ، كما كان ذلك الضميرُ عبارةً عن الفئةِ المقاتلَةِ ، ويكونُ التقديرُ : تَرَوْنَ أيها المشركون المؤمنين مِثْلَيْ فئتِكم الكافرة ، وعلى هذا فيكونون قد رَأَوا المؤمنين مِثْلَي أنفسِ المشركين ألفين ونيفاً ، وهذا مَدَدٌ من الله تعالى ، حيث أرى الكفارَ المؤمنينَ مِثْلَي عددِ المشركين حتى فَشِلوا وجَبُنوا ، فَطَمِعَ المسلمون فيهم فانتصروا عليهم ، ويؤيِّده : { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } فالإراءة هنا بمنزلة المَدَدِ بالملائكةِ في النصرةِ بكليهما ، ويعودُ السؤالُ حينئذٍ بطريق الأَوْلى : وهو كيف كثَّرهم إلى هذه الغايةِ مع قولِهِ في الأنفال : { وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } ؟ ويعود الجواب .

الخامس : أنَّ الخطابَ في " لكم " و " تَرَوْنهم " لليهود ، والضميران المنصوبُ والمجرورُ على هذا عائدان على المسلمين على معنى : تَرَوْنَهم لو رأيتموهم مِثْلَيْهم ، وفي هذا التقدير تكلُّفٌ لا حاجةً إليه ، وكأن هذا القائلَ اختار أن يكونَ الخطابُ في الآية المنقضية وهي قولُه : { قَدْ كَانَ لَكُمْ } لليهود ، فَجَعَلهُ في " تَرَوْنَهم " لهم أيضاً ، ولكنَّ الخروجَ من خطاب اليهود إلى خطاب قوم آخرين أَوْلى من هذا التقدير المتكلَّفِ ، لأنَّ اليهود لم يكونوا حاضري الوقعةِ حتى يُخاطَبوا برؤيتِهم لهم كذلكَ . ويجوز على هذا القولِ أن يكونَ الضميرانِ المنصوبُ والمجرورُ عائِدَيْنِ على الكفار ، أي : إنهم كَثَّر في أعينِهم الكفارَ حتى صاروا مِثْلي عددِ الكفارِ ، ومع ذلك غلبَهم المؤمنون وانتصروا عليهم ، فهو أَبْلَغُ في القدرةِ . ويجوزُ أنْ يعودَ المنصوبُ على المسلمين والمجرورُ على المشركين ، أي : تَرَوْنَ أيها اليهودُ المسلمينَ مِثْلَي عددِ المشركين مهابةً لهم وتهويلاً لأمرِ المؤمنين ، كما كان ذلك في حق المشركين فيما تقدَّم من الأقوال . ويجوز أن يعودَ المنصوبُ على المشركين والمجرورُ على المسلمين ، والمعنى : تَرَوْنَ أيها اليهودُ لو رأيتم المشركينَ مِثْلَي عددِ المسلمين ، وذلك أنهم قُلِّلُوا في أعينهم ليحصُل لهم الفزعُ والغَمُّ ؛ لأنه كان يَغُمُّهُم قلةُ الكفارِ ويعجبُهم كثرتُهُم ونصرتُهم على المسلمين حسداً وَبَغْياً فهذه ثلاثة أوجهٍ مترتبةٌ على الوجه الخامسِ ، فتصيرُ ثمانية أوجهٍ في قراءة نافع .

وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجه ، أحدُها : أنها كقراءةِ الخطاب ، فكلُّ ما قيل في المراد به الخطابُ هناك قيل به هنا ، ولكنه جاء على بابِ الالتفاتِ أي : التفاتٌ من خطاب إلى غيبة . الثاني : أن الخطاب في " لكم " للمؤمنين ، والضميرُ المرفوعُ في " يَرَوْنَهم " للكفار ، والمنصوبُ والمجرورُ للمسلمين ، والمعنى : يَرَى المشركون المؤمنين مِثْلَي عدد المؤمنين ستمئة ونيفاً وعشرين ، أراهم الله مع قِلَّتهم إياهم ضِعْفَيْهم ليَهَابُوهم ويَجْبُنوا عنهم . الثالث : أنَّ الخطاب في " لكم " للمؤمنين أيضاً ، والمرفوعُ في " يَرَوْنَهم " للكفار ، والمنصوبُ للمسلمين والمجرورُ للمشركين ، أي : يرى المشركونَ المؤمنين مِثْلَي عددِ المشركين ، أراهم الله المؤمنينَ أضعافَهم لِما تَقدَّم في الوجه قبله . الرابع : أن يعودَ الضميرُ المرفوع في " يَرَونهم " على الفئةِ الكافرة ؛ لأنها جَمْعٌ في المعنى ، والضميرُ المنصوب والمجرورُ على ما تقدم من احتمالِ عودِهما على الكافرينَ أو المسلمين أو أحدِهما لأحدِهم .

والذي تَقَوَّى في هذه الآيةِ من جميعِ ما قَدَّمْتُهُ من حيِث المعنى أَنْ يكونَ مَدارُ الآيةِ على تقليلِ المسلمينَ وتكثيرِ الكافرين ، لأنَّ مقصودَ الآية ومساقَها الدلالةُ على قُدْرَةِ الله الباهرةِ وتأييدِهِ بالنصر لعبادِه المؤمنين مع قلةِ عددِهم وخذلانِ الكافرين مع كثرةِ عددِهم ، وتحزُّبهم ، ليُعْلَمَ أنَّ النصرَ كلَّه من عند الله ، وليس سببُه كثرتَكم وقلةَ عدوكم ، بل سببُه ما فعلَه تبارك وتعالى من إلقاءِ الرعبِ في قلوبِ أعدائِكم ، ويؤيِّده قولُه بعد ذلك/ : { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } وقال في موضع آخر :

{ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } [ التوبة : 25 ] . قال الشيخ أبو شامة بعد ذِكْره هذا المعنى وَجَعَلَهُ قوياً : " فالهاءُ في تَرَوْنَهم للكفارِ سواءً قُرىء بالغَيْبَةِ أم بالخطاب والهاءُ في " مثليهم " للمسلمين . فإنْ قلت : إن كان المرادُ هذا فهلا قيل : يَرَونْهَم ثلاثةَ أمثالهم . فكان أبلغَ في الآية ، وهي نصرُ القليلِ على هذا الكثيرِ ، والعُدَّةُ كانت كذلك أو أكثرَ . قلت : أخبرَ عن الواقعِ ، وكان آيةً أخرى مضمومةً إلى آية البصرِ ، وهي تقليلُ الكفارِ في أعينِ المسلمين وقُلِّلُوا إلى حدٍّ وُعِدَ المسلمونَ النصرَ عليهم فيه ، وهو أن الواحدَ من المسلمين يَغْلِبُ الاثنين ، فلم تكن حاجةٌ إلى التقليلِ بأكثرَ من هذا ، وفيه فائدةٌ : وقوعُ ما ضَمِنَ لهم من النصر فيه " انتهى . قلت : وإلى هذا المعنى ذهب الفراء ، أعني أنهم يَرَوْنَهم ثلاثةَ أمثالهم ، فإنه قال : " مِثْليهم : ثلاثةَ أمثالهم ، كقول القائل : " عندي ألف وأنا محتاجٌ إلى مثليها " وغَلَّطه أبو إسحاق في هذا ، وقال : " مثلُ الشيء ما ساواه ، ومِثْلاه ما ساواه مرتين " . قال ابن كيسان : " الذي أَوْقَع الفراء في ذلك أن الكفار كانوا يومَ بدر ثلاثةَ أمثالِهم ، فتوهَّمَ أنه لا يجوزُ أن يَرَوْهم إلا على عُدَّتهم ، والمعنى ليس عليه ، وإنما أراهم الله على غيرِ عُدَّتهم لجهتين ، إحداهما : أنه رأى الصلاحَ في ذلك ؛ لأن المؤمين [ تُقَوَّى قلوبُهم بذلك ، والأخرى ] أنه آيةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم .

والجملةُ على قراءةِ نافع تَحْتَمِلُ أن تكونَ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعراب ، ويُحتُمل أن يكونَ لها محلٌّ ، وفيه حينئذٍ وجهان ، أحدُهما : النصبُ على الحال من " كم " في " لكم " أي : قد كان لكم حالَ كونِكم تَرَوْنهم . والثاني : الجرُّ نعتاً لفئتين ، لأنَّ فيها ضميراً يَرْجِع عليهما ، قاله أبو البقاء .

وأمَّا على قراءةِ الغَيْبةِ فتحتملُ الاستئنافُ ، وتحتملُ الرفعَ صفةً لإِحدى الفئتين ، وتحتمل الجرَّ صفةً لفئتين أيضاً ، على أَنْ تكونَ الواوُ في " يَرَوْنَهم " تَرْجِعُ إلى اليهود ، لأنَّ في الجملة ضميراً يعودُ على الفئتين .

وقرأ ابن عباس وطلحة " تُرَوْنَهم " مبنياً للمفعول على الخطاب . والسلمي كذلك ، إلا أنه بالغيبة . وهما واضحتان مما تقدَّم تقريره ، والفاعل المحذوفُ هو الله تعالى .

وللناسِ في الرؤية هنا رأيان ، أحدُهما : أنها البصرية ، ويؤيد ذلك تأكيدُهُ بالمصدرِ الذي هو نصٌّ في ذلك . فهو مصدرٌ مؤكِّدٌ . قال الزمخشري : " رؤيةٌ ظاهرةٌ مكشوفةٌ لا لَبْس فيها " وعلى هذا فتتعدَّى لواحد ، و " مثلَيْهم " نصبٌ على الحال . والثاني : أنها من رؤيةِ القلب ، فعلى هذا يكون " مِثْليهم " مفعولاً ثانياً .

وقد رَدَّ أبو البقاء هذا فقال : " ولا يجوز أَنْ تكونَ الرؤيةُ من رؤيةِ القلب على كلِّ الأقوال لوجهين ، أحدُهما : قولُه " رَأْيَ العين " ، والثاني : أن رؤيَةَ القلب عِلْم ، ومُحالٌ أن يُعْلَمَ الشيءُ شيئين " .

وقد أُجيب عن الوجه الأول بأنَّ انتصابَه انتصابُ المصدر التشبيهي أي : رأياً مثلَ رأي العين ، أي : يُشْبِهُ رأيَ العين ، فليس إياه على التحقيقِ . وعن الثاني بأنَّ الرؤيةَ هنا يُرادُ بها الاعتقادُ ، فلا يَلْزَمُ المُحالُ المذكور ، قال : " وإذا كانوا قد أَطْلقوا العلمَ في اللغةِ على الاعتقادِ دونَ اليقينِ فلأَنْ يُطْلقوا عليه الرأيَ أَوْلَى " .

ومن إطلاقِ العلمِ على الاعتقادِ قولُه تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ }

[ الممتحنة : 10 ] ؛ إذ لا سبيلَ إلى العلمِ اليقيني في ذلك ، إذ لا يَعْلَمُهُ كذلك إلا اللهُ تعالى ، فالمعنى : فإنْ اعتقدتموهن ، والاعتقادُ قد يكونُ صحيحاً ، وقد يكون فاسداً ، ويَدُلُّ على هذا التأويلِ قراءةُ مَنْ قرأ : " تُرَوْنَهم " أو " يُرَوْنَهم " بالتاء أو الياء مبنياً للمفعول ؛ لأنَّ قولَهم " أُرِيَ كذا " بضمِّ الهمزة يكون فيما عند المتكلمُ فيه شكٌّ وتخمينٌ لا يقينٌ وعلم ، ولمَّا كان اعتقادُ التضعيف في جمع الكفار أو في جمع المؤمين تخميناً وظناً لا يقيناً دَخَلَ الكلاَم ضربٌ من الشك ، وأيضاً كما يستحيل حَمْلُ الرؤيةِ هنا على العلِْمِ يستحيل أيضاً حَمْلُها على رؤيةِ البصر بعينِ ما ذَكَرْتُم من المُحالِ ، وذلك كما أنه لا يقع العلمُ غيرَ مطابقٍ للمعلوم كذلك لا يَقَعُ النظرُ البصريُّ غيرَ مطابقٍ لذلك الشيءِ المُبْصَرِ المنظورِ إليه ، فكان المرادُ التخمينَ والظَّنَّ لا اليقينَ والعلمَ . كذا قيل ، وفيه نظرٌ لأنا لا نُسَلِّم أنَّ البصر لا يخالِفُ المُبْصَرَ ، لجوازِ أَنْ يَحْصُلَ خَلَلٌ فيه وسوءٌ في النظرِ فيتخيلُ الباصرُ الشيءَ شيئين فأكثرَ وبالعكس .

وفي انتصابِ " رأيَ العين " ثلاثةُ أوجهٍ تقدَّم منها اثنان : النصبُ على المصدر التوكيدي أو النصبُ على المصدر التشبيهي كما عَرَفْتَ تحقيقَه . والثالث : أنه منصوبٌ على ظرفِ المكان ، قال الواحدي : " كما تقول : " تَرَوْنَهُم أمامَكم " ومثلُه : " هو مني مَزْجَرَ الكلب ومناطَ العَيُّوق " ، وهذا إخراجٌ للفظ عن موضوعِهِ مع عدمِ المساعدِ معنًى وصناعةً .

و " رأى " مشتركٌ بين " رأى " بمعنى أَبْصَرَ ، ومصدرُهُ الرَّأْي والرؤيةُ ، وبمعنى اعتقد وله الرأي ، وبمعنى الحُلْم وله الرؤيا كالدنيا ، فوقع الفرقُ بالمصدر ، فالرؤيةُ للبصرِ خاصة ، والرؤيا للحُلْم فقط ، والرأيُ مشترك بين البصريةِ والاعتقاديةِ يقال : هذا رأيُ فلان أي : اعتقادُهُ ، قال :

رَأَى الناسَ إلا مَنْ رَأَى مثلَ رأيِهِ *** خوارجَ تَرَّاكِين قَصْدَ المَخَارِجِ

قلت : وهذه الآية قد أكثرَ الناسُ فيها القولَ فتتبَّعْته وقَرَنْتُ كُلَّ شيء بما يُلاَئِمُهُ .

قوله : { مَن يَشَآءُ } مفعولُ " يشاء " محذوفٌ أي : مَنْ يشاء تأييدَهُ ، والباء/ سببية ، أي : بسببِ تأييدِه وهو تفعيلٌ من الأََيْدِ وهو القوة .

وقرأه ورش " يُوَيِّدُ " بإبدالِ الهمزةِ واواً محضة وهو تسهيلٌ قياسي قال أبو البقاء وغيره " ولا يجوز أن تُجْعَلَ بينَ بينَ لقربِها من الألف ، والألفُ لا يكون ما قبلَها إلا مفتوحاً ، ولذلك لم تُجْعَلِ الهمزةُ المبدوءُ بها بينَ بينَ لا ستحالةِ الابتداءِ بالألِفِ " . قلت : مذهبُ سيبويه وغيره في الهمزةِ المفتوحةِ بعد كسرةٍ قَلْبُها ياءً محضةً وبعد الضمةُ قلبُها واواً محضةً للعلة المذكورة ، وهي قُرْبُ الهمزةِ التي بينَ بينَ من الألِفِ ، والألفُ لا تكونُ ضمةً ولا كسرةً .

و { لأُوْلِي الأَبْصَارِ } صفةً ل " عبرةً " أي : عبرةً كائنةً لأولي ا لأبصار . والعِبْرة : فِعْلة من العُبور كالرِّكبة والجِلْسة ، والعُبور : التجاوزُ ، ومنه : عَبَرْتُ النهر ، والمَعْبَرُ : السفينة لأنَّ بها يُعْبَرُ إلى الجانبِ الآخر ، وعَبْرَة العين : دمْعُها لأنها تجاوِزُهَا ، وعَبَّر بالعِبْرة عن الاتِّعاظ والاستيقاظ لأن المُتَّعِظَّ يَعْبُر من الجهلِ إلى العلمِ ومن الهلاكِ إلى النجاة . والاعتبارُ افتعالٌ منه ، والعبارة : الكلامُ الموصِلُ إلى الغرضِ لأنَ فيه مجاوزةً ، وعَبَرْت الرؤيا وعَبَّرتها مخففاً ومثقلاً ، لأنك نَقَلْتَ ما عندكَ من تأويلِها إلى رائيها .