الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

قوله تعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ } : العامةُ على بنائِهِ للمفعول ، والفاعلُ المحذوفُ هو اللهُ تعالى ؛ لِمَا رَكَّب في طباع البشر من حُبِّ هذه الأشياء ، وقيل : هو الشيطانُ ، عن الحسن : " مَنْ زَيَّنَها ؟ إنما زيَّنها الشيطان لأنه لا أحدَ أبغضُ لها مِنْ خالقها " .

وقرأ مجاهد : " زَيَّن " مبنياً للفاعل ، " حُبَّ " مفعول به نصاً ، والفاعلُ : إمَّا ضمير الله تعالى لتقدُّم ذكرِهِ الشريفِ في قوله تعالى : { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ } [ آل عمران : 13 ] ، وإمَّا ضميرُ الشيطان ، أُضْمِرَ وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ ، لأنه أصلُ ذلك ، فَذِكْرُ هذه الأشياءِ مؤذنٌ بِذِكْرِهِ . وأضافَ المصدرَ لمفعولِهِ في " حُبّ الشهوات " .

والشَّهوات : جمعُ " شَهْوة " بسكون العين ، فَحُرِّكَت في الجمع ، ولا يجوزُ التسكينُ إلا في ضرورةٍ كقولهِ :

وَحُمِّلْتُ زَفْرَاتِ الضحى فَأَطَقْتُها *** ومالي بزَفْرَات العَشِيِّ يَدَانِ

بتسكين الفاء . والشهوةُ : مصدرٌ يُراد به اسمُ المفعولِ أي : المُشْتَهَيَات فهو من باب : رجلٌ عَدْلٍ ، حيث جُعِلَتْ نفسَ المصدر مبالغةً ، والشهوة : مَيْلُ النفس ، ويُجْمَعُ على " شَهَوات " ، كالآية الكريمة ، وعلى " شُهَى " كغُرَف ، قالت امرأة من بني نَضْر بن معاوية :

فلولا الشُّهَى واللهِ كنتُ جديرةً *** بأَنْ أتركَ اللَّذاتِ في كلِّ مَشْهَدِ

وقال النحويون : لا تُجْمَعُ فَعْله المعتلة اللامِ يَعْنُون بفتحِ الفاء وسكون العين [ على فًُعَل ] إلا ثلاثةَ ألفاظ : كَوَّة وكُوَى فيمن فَتَحَ كاف " كَوَّة " وقَرْيَة وقُرَى ونَزْوَة ونُزَى ، واستدرك الشيخ عليهم هذه اللفظة أيضاً فيَكُنَّ أربعة وأنشد البيت . وقال الراغب : " وقد يُسَمَّى المُشْتَهَى شهوةً ، وقد يُقال للقوةِ التي بها تَشْتَهي الشيءَ شهوةً ، وقولُه تعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ } يحتمل الشهوتين .

قوله : { مِنَ النِّسَاءِ } في محلِّ نصبٍ على الحال من " الشهوات " والتقدير : حالَ كونِ الشهواتِ من كذا وكذا فهي مفسرةٌ لها في المعنى ، ويجوز أَنْ تكونَ " مِنْ " لبيان الجنس ، ويَدُلُّ عليه قولُ الزمخشري : " ثم يُفَسِّره بهذه الأجناس " .

قوله : { وَالْقَنَاطِيرِ } جمع قِنْطار . وفي نونِهِ قولان أحدُهما : وهو قولُ جماعة أنها أصليةُ ، وأنَّ وزنَها فِعْلال كحِمْلاَق وقِرْطاس . والثاني أنها زائدةٌ ووزنه فِنعال كقِنْعَاس وهو الجَمَل الشديد ، قيل : واشتقاقه من : قَطَرَ يَقْطُر إذا سال ، لأنَّ الذهب والفضةُ يُشَبَّهان بالماء في سرعة الانقلابِ وكثرةِ التقلبِ . ، وقال الزجاج : " هو مأخوذٌ من قَنْطَرْتُ الشيءَ إذا عَقَدْتَه وأَحْكمته ، ومنه : القَنْطَرَةُ لإِحكامِ عَقْدِها " .

قوله : { مِنَ الذَّهَبِ } كقولِهِ : " مِنْ النساء " وقد تقدَّم . والذهب مؤنَّثٌ ، ولذلك يُصَغَّر على " ذُهَيْبة " ، ويُجمع على ذَهاب وذُهوب . وقيل : " الذهب " جمعٌ في المعنى ل " ذَهَبة " ، واشتقاقُه من الذَّهاب . الفضة يُجْمع على فِضَض .

واشتقاقُها من انفضَّ الشيء إذا تفرَّق ، ويقال : " رجل ذَهِب " بكسر الهاء ، أي : رأى مَعْدِن الذهب فَدُهِش .

قوله : { وَالْخَيْلِ } عطفٌ على " النساء " قال أبو البقاء : " لا على الذهب والفضة لأنها لا تُسَمَّى قنطاراً " ، وتَوَهُّمُ مثلِ ذلك بعيدٌ جداً فلا حاجةً إلى التنبيهِ عليه .

والخيلُ فيه قولان ، أحدُهما أنه جمعٌ ولا واحدَ له من لفظه بل مفردُهُ " فرس " فهو نظيرُ : قوم ورهط ونساء . والثاني : أنَّ واحدَه " خايل " فهو نظير راكب ورَكْب ، وتاجِر وتَجْر ، وطائِر وطَيْر ، وفي هذا خلافٌ بين سيبويه والأخفش ، فسيبويهِ يَجْعَلُهُ اسمَ جمعٍ ، والأخفشُ يَجْعَلُهُ جمعَ تكسير . وفي اشتقاقِها وجهان ، أحدُهُما : من الاختيال وهو العُجْبُ ، سُمِّيت بذلك لاختيالِها في مِشْيتها وطولِ أذْنابِها . قال امرؤء القيس :

لها ذَنَبٌ مثلُ ذَيْلِ العرو *** سِ تَسُدَّ به فرجَها مِنْ دُبُرْ

والثاني : من التخيُّل ، قيل : لأنَّها تتخيَّلَ في صورة مَنْ هو أعظمُ منها . وقيل :/ أصلُ الاختيالِ من التخيُّل ، وهو التشبُّه بالشيء ؛ لأنَّ المختالَ يتخيَّل في صورة مَنْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ كِبْراً ، والأخيلُ : الشِّقْراقُ لأنه يَتَغَيَّر لونُهُ بحسَبِ [ المَقام ] مرةً أحمرَ ، ومرة أخضَرَ ، ومرة أصفرَ ، وعليه قولُهُ :

كأبي براقِشَ كلَّ لَوْ *** نٍ لونُهُ يَتَخَيَّلُ

وجَوَّز بعضُهم أَنْ يكون مخففاً من " خَيِّل " بتشديد الياء نحو : " مَيْت " في مَيِّت ، و " هَيْن " في هَيِّن . وفيه نظرٌ لأنَّ كل ما سُمِع فيه التخفيف سُمِع [ التثقيلُ ، وهذا لم يُسْمع إلا مخففاً ، وقد تقدَّم نظير ] هذا البحثِ في لفظ " الغَيْب " .

وقال الراغب : " الخَيْلُ في الأصلِ للأفراسِ والفُرْسَان جميعاً ، قال تعالى :

{ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ } [ الأنفال : 60 ] ، ويُستَعْمَل في كل واحدٍ منهما منفرداً ، نحو ما رُوي : " يا خَيلَ اللهِ اركبي " فهذا للفُرْسان ، وقوله عليه السلام : " عَفَوْتُ لكم عن صَدَقَة الخيل " يعني الأفراس وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ أهلَ اللغةِ نَصُّوا على أنَّ قوله عليه السلام : " يا خيل الله اركبي " : إمَّا مجازُ إضمار ، وإمّا مجازُ علاقةٍ ، ولو كان للفُرْسان بطريقِ الحقيقةِ لَمَا ساغَ قولُهم ذلك .

قوله : { الْمُسَوَّمَةِ } أصل التسويم : التعليمُ ، ومعنى مُسَوَّمة : مُعْلَمَة إمَّا بالكَيّ وإمَّا بالبُلْقِ كما جاءَ ذلك في التفسير . وقيل : بل هو من سَوَّم ماشِيَته أي : رعَاهَا ، فمعنى مُسَوَّمة أي : مَرْعِيَّة ، يقال : " أَسَمْتُ ماشيتي فسامَتْ " ، قال تعالى : { فِيهِ تُسِيمُونَ } [ النحل : 10 ] ، وسَوَّمْتها فاستامت ، فيكونُ الفعل عُدِّي تارةً بالهمزة وتارةً بالتضعيف . وقيل : بل هو من السيمِياء وهي الحُسْن ، فمعنى مُسَوَّمة أي : ذاتُ حسن ، قاله عكرمة واختاره النحاس ، قال : " لأنه من الوسم " . وقد رَدَّ عليه بعضُهم باختلافِ المادتين . قد أجابَ بعضُهم عنه بأنَّه من بابِ المقلوبِ فيصحُّ ما قاله . وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قوله { يَسُومُونَكُمْ } [ البقرة : 49 ] وقوله تعالى : { بِسِيمَاهُمْ } [ البقرة : 273 ] .

قوله : { وَالأَنْعَامِ } هي جمع نَعَم ، والنَّعَمُ مختصةٌ بثلاثة أنواع : الإِبلِ والبقرِ والغنمِ وقال الهروي : النَّعَمُ تذكَّر وتؤنَّث ، وإذا جُمع انطلق على الإِبل والبقر والغنم " . وظاهرُ هذا أنه قبلَ جمعِه على " أنعام " لا يُطْلق على الثلاثةِ الأنواع ، بل يختصُّ بواحدٍ منها ، وهذا الظاهر الذي أَشَرْتُ إليه قد صَرَّح به الفراء فقال : " النَّعَمُ الإِبلُ فقط ، وهو مذكَّرٌ ولا يؤنَّثُ تقول : " هذا نَعَمٌ وارد ، وهو جمعٌ لا واحدَ له من لفظه " وقال ابن قتيبة : " الأنعام : الإِبلُ والبقر والغنم ، واحده نَعَم ، وهو جمعٌ لا واحدَ له من لفظِه ، سُمِّيت بذلك لنعومة مَشْيِها ولِينها " ، وعلى الجملة فالاشتقاق في أسماءِ الأجناس قليلٌ جداً .

قوله : { وَالْحَرْثِ } قد تقدَّم تفسيرُه ، وهو هنا مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول به ، فلذلك وُحِّد ولم يُجْمَع كما جُمِعَت أخواتُه . ويجوزُ إدغام الثاءِ في الذال وإن كان بعضُ الناسِ ضَعَّفَه بأنه يَلْزَمُ الجمعُ بين ساكنين والأولُ ليسَ حرفَ لين ، قال : " بخلاف " يَلْهَثُ ذلك " حيث أُدْغِم الثاءُ في الذالِ لانتفاءِ التقاءِ الساكنين ، إذ الهاءُ قبلَ الثاءِ متحركةٌ " .

وقد تَضَمَّنَتْ هذه الآية الكريمةُ أنواعاً من الفصاحةِ والبلاغةِ فمنها : الإِتيانُ بها مُجْمَلَةً ، ومنها : جَعْلُه لها نفس الشهوات مبالغةً في التنفير عنها ، ومنها : البَدَاءَةُ بالأهمِّ فالأهمِّ ، فَقَدَّم أولاً النساءَ لأنهن أكثرُ امتزاجاً ومخالطةً بالإِنسانِ ، وهُنَّ حبائِلُ الشيطان ، قال عليه السلام : " ما تَرَكْتُ بعدي فتنةً أَضَرَّ على الرجالِ مِنَ النساءِ " " ما رأيتُ مِنْ ناقصاتِ عقلِ ودينٍ أَسْلَبَ لِلُبِّ الرجلِ منكُنَّ " ويُرْوى : " الحازمِ منكن " . وقيل : " فيهن فتنتان ، وفي البنين فتنةٌ واحدةٌ ؛ وذلك أنهنَّ يَقْطَعْنَ الأرحامَ والصلات بين الأهلِ غالباً وهُنَّ سببٌ في جمع المال من حلالٍ وحرام غالباً ، والأولاد يُجْمَع لأجلِهم المالُ ، فلذلك ثَنَّى بالبنين ، وفي الحديث : " الولد مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ " ، ولأنهم فروع منهن وثمرات نشأن عنهن ، وفي كلامهم : " المرءُ مفتونٌ بولدِه " . وقُدِّمَتْ على الأموال لأنها أحبُّ إلى المرءِ مِنْ ماله ، وأمَّا تقديمُ المالِ على الولد في بعضِ المواضع فإنما ذلك في سياقِ امتنانٍ وإنعامٍ أو نصرةٍ ومعاونة وغلبة ، لأنَّ الرجال تُستمال بالأموال ، ثم أتى بذكرِ تمام اللذة وهو المركوبُ البهيُّ من بينِ سائر الحيوانات ، ثم أتى بِذِكْر ما يَحْصُل به جَمالٌ حين تُريحون وحين تَسْرحون ، كما تشهد به الآية الأخرى ، ثم ذَكَرَ ما به قِوامُهم وحياةُ بنيهم وهو الزروع والثمار ، ويشمل الفواكهَ أيضاً ، ومنها : الإِتيانُ بفلظٍ يُشْعر بشدة حب هذه الأشياء حيث قال : " زُيِّن " ، والزينةُ محبوبةٌ في الطباع .

ومنها : بناءُ الفعلِ للمفعول ؛ لأنَّ الغرضَ الإِعلامُ بحصول ذلك . ومنها : إضافةُ الحُبِّ للشهوات ، والشهواتُ هي الميلُ والنزوع إلى الشيء .

ومنها التجنيس : " القناطير المقنطرةِ " . ومنها : الجمعُ بين ما يشبه المطابقة في قوله : " والذهب والفضة " لأنهما صارا متقابلين في غالِب العُرف . ومنها : وصفُ القناطيرِ بالمقنطرة الدالةِ على تكثيرها مع كثرتها في ذاتها . ومنها : ذِكْرُ هذا الجنس بمادة الخيل لِما في/ اللفظ من الدلالة على تحسينه ، ولم يقل : الأفراس ، وكذا قوله : " والأنعام " ولم يَقُل الإبل والبقر والغنم ، ولأنه أَخْضَرُ .

قوله : { ذلِكَ مَتَاعُ } الإشارةُ ب " ذلك " للمذكور المتقدِّم ، فلذلك وَحَّد اسمَ الإِشارة ، والمشارُ إليه متعددٌ كقولِه تعالى : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ } [ البقرة : 68 ] ، وقد تقدَّم شيئان .

قوله : { الْمَآبِ } هو مَفْعَل من : آب يؤوب أي رَجَع ، والأصل : مَأْوَب فَنُقِلت حركةُ الواو إلى الهمزة الساكنة قبلها ، فَقُلِبت الواوُ ألفاً ، وهو هنا اسمُ مصدرٍ أي : حَسَنُ الرجوعِ ، وقد يقع اسم مكان أو زمان ، تقول : آبَ يَؤُوب أَوْباً وإياباً ومآباً ، فالأْوْب والإِياب مصدران والمآبُ اسمٌ لهما .