الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (146)

قوله تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ } : هذه اللفظةُ قيل : مركبةٌ من كافِ التشبيه ومن " أيٍّ " ، وحَدَثَ فيه بعد التركيب معنى التكثيرِ المفهومُ من " كم " الخبرية ، ومثلُها في التركيب وإفهامِ التكثير : " كذا " في قولِهم : " له عندي كذا كذا درهماً " والأصلُ : كاف التشبيه و " ذا " الذي هو اسمُ إشارةٍ ، فلمَّا رُكِّبا حَدَثَ فيهما معنى التكثير ، وكم الخبريةُ و " كأيِّن " و " كذا " كلُّها بمعنى واحد ، وقد عَهِدْنا في التركيب إحداثَ معنى أخرَ ، ألا تَرَى أنَّ " لولا " حَدَثَ لها معنىً جديد . وكأيِّن مِنْ حقِّها على هذا أَنْ يُوقَفَ عليها بغير نونٍ ، لأنَّ التنوين يُحْذَفُ وقفاً ، إلا أنَّ الصحابة كتبتها : " كأيِّن " بثبوتِ النونِ ، فَمِنْ ثَمَّ وَقَفَ عليهما جمهورُ القراء بالنون إتباعاً لرسم المصحف . ووقف أبو عمرو وسَوْرة بن مبارك عن الكسائي عليها : " كأي " من غير نونٍ على القياس . واعتلَّ الفارسي لوقفِ النونِ بأشياءَ طَوَّل بها ، منها : أنَّ الكلمة لَمَّا رُكِّبت خَرَجَتْ عن نظائِرها ، فَجُعِل التنوينُ كأنه حرفُ أصلي من بنية الكلمة . وفيها لغاتٌ خمس . أحدها : كَأَيِّنْ " وهي الأصل ، وبها قرأ الجماعة إلاَّ ابنَ كثير . وقال الشاعر :

كَأَيِّنْ في المعاشِر من أُناسٍ *** أخوهُمْ فوقَهم وهمُ كِرامُ

والثانية : " كائِنْ " بزنةِ " كاعِنْ " وبها قرأ ابن كثير وجماعةٌ ، وهي أكثرُ استعمالاً من " كَأَيِّن " وإنْ كانت تلك الأصلَ . قال الشاعر :

وكائن بالأباطحِ مِنْ صديقٍ *** يَراني لو أُصِبْتُ هو المُصَابا

وقال :

وكائِنْ رَدَدْنا عنكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ *** *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

واختلفوا في توجيهِ هذه القراءة فنُقل عن المبرد أنها اسم فاعل من : كان يكون فهو كائن ، واستبعده مكي قال : " لاتيانِ " مِنْ " بعده ولبنائِه على السكون " . وكذلك أبو البقاء قال : " وهو بعيدُ الصحة ، لأنه لو كان كذلك لكان مُعْرباً ، ولم يكن فيه معنى التكثير " لا يقال : هذا يُحْمَلُ على المبرد ، فإنَّ هذا لازمٌ لهم أيضاً ، فإنَّ البناءَ ومعنى التكثير عارضان أيضاً ، لأنَّ التركيبَ عُهِد فيه مثلُ ذلك كما تقدم في " كذا " و " لولا " ونحوِهما ، وأمَّا لفظٌ مفردٌ يُنقل إلى معنى ويُبْنى من غير سبب فلم يُوجَدْ له نظير . وقيل : هذه القراءةُ أصلُها " كأيِّنْ " كقراءة الجماعة إلا أنَّ الكلمةَ دخلها القلبُ فصارَتْ " كائِن " مثل " جاعِن " .

واختلفوا في تصييرها بالقلبِ كذلك على أربعةِ أوجهٍ ، أحدُها : أنه قُدِّمت الياءُ المشددة على الهمزةِ فصار وزنُها كَعْلَف لأنك قَدَّمْتَ العينَ واللامَ وهما الياءُ المشددة ، ثم حُذِفَتِ الياءُ الثانية لثِقَلِها بالحركة والتضعيف كما قالوا في " أيُّهما " : أيْهُما ، ثم قُلِبت الياءُ الساكنة ألفاً كما قَلَبُوها في نحو : " آية " والأصل : أَيَّة ، وكما قالوا : طائي ، والأصل : طَيْئِي ، فصارَ اللفظُ : كائِن كجاعِن كما ترى ، ووزنُه " كَعْفٍ " ؛ لأنَّ الفاءَ أُخِّرت إلى موضعِ اللامِ ، واللامُ قد حُذِفَتْ .

الوجه الثاني : أنه حُذِفَتِ الياءُ الساكنةُ التي هي عينٌ وقُدِّمَتِ المتحركةُ التي هي لامٌ ، فتأخَّرتِ الهمزةُ التي هي فاءٌ ، وقُلِبَت الياءُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها فصارَ " كائِن " ووزنُه : كَلْفٍ .

الوجه الثالث : ويُعْزى للخليل أنه قُدِّمَتْ إحدى الياءَين في موضع الهمزةِ فَحُرِّكت بحركة الهمزة وهي الفتحةُ ، وصارَت الهمزةُ ساكنةً في موضعِ الياء ، فتَحَرَّكتِ الياءُ وانفتح اما قبلَها فَقُلِبَتْ ألفاً ، فالتقى ساكنان : الألفُ المنقبلةُ عن الياءِ والهمزةُ بعدها ساكنةٌ ، فكُسِرت الهمزةُ على أصل التقاءِ الساكنين ، وبقيت إحدى الياءين متطرفةً فأذهبها التنوينُ بعد سَلْبِ حركتِها كياءِ قاضٍ وغازٍ .

الوجه الرابع : أنه قُدِّمَتِ الياءُ المتحركةُ فانقلبت ألفاً ، وبقيت الأخرى ساكنةً فحذفها التنوينُ مثل قاضٍ ، ووزنُه على هذين الوجهين أيضاً كَلْفٍ لِما تقدَّم مِنْ حَذْفِ العينِ وتأخيرِ الفاء ، وإنما الأعمالُ تختلف .

اللغة الثالثة : " كَأْيِن " بياء خفيفةٍ بعد الهمزة على مثالِ : كَعْيِن ، وبها قرأ ابن محيصن والأشهب العقيلي ، ووجْهُها أنَّ الأصلَ : كَأَيِّن كقراءة الجماعة : فَحُذِفَتْ الياء الثانيةٌ استثقالاً فالتقى ساكنان : الياءُ والتنوينُ ، فكُسِرت الياءُ لالتقاءِ الساكنين ثم سَكَنَتِ الهمزةُ تخفيفاً لثقلِ الكلمةِ بالتركيبِ فصارَتْ كالكلمةِ الواحدةِ كما سَكَّنوا : " فهو " و " فهي " .

اللغة الرابعة : " كَيْئِن " بياء ساكنةٍ بعدَها همزةٌ مكسورةٌ ، وهذه مقلوبُ القراءةِ التي قبلَها ، وقرأ بها بعضُهم .

واللغةُ الخامسةُ : " كَئِنْ " على مثال كَعٍ ، ونَقَلها الداني قراءةً عن ابن محيصن أيضاً . وقال الشاعر :

كَئِنْ مِنْ صديقٍ خِلْتُه صادقَ الإِخا *** أبانَ اختباري أنَّه لي مُداهِنُ

وفيها وجهان أحدُهما : أنه حَذَفَ الياءَيْن دفعةً واحدةً لامتزاجِ الكلمتين بالتركيبِ ، والثاني : أنه حَذَفَ إحدى الياءَيْن على ما تقدَّم تقريرُه ، ثم حَذَف الأخرى لالتقائِها ساكنةً مع التنوينِ ، ووزنُه على هذا : " كَفٍ " لِحَذْفِ العينِ واللامِ منه . /

واختلفوا في " أيٍّ " : هل هي مصدرٌ في الأصل أم لا ؟ فذهب جماعةٌ إلى أنها ليسَتْ مصدراً وهو ظاهرُ قولِ أبي البقاء فإنه قال : " وكأيِّن الأصلُ فيه : " أي " التي هي بعض من كل ، أُدْخِلَتْ عليها كافُ التشبيه " وفي عبارتهِ عن " أي " بأنها بعض من كلٍّ نظرٌ ، لأنها ليست بمعنى بعض من كل ، نعم إذا أُضيفت إلى معرفةٍ فحكمُها حكمُ " بعض " في مطابقةِ الخبرِ وَعُودِ الضميرِ نحو : أيُّ الرجلين قام ؟ ولا تقول : " قاما " ، وليست هي التي " بعض " أصلاً .

وذهب ابن جني أنها في الأصل مصدر " أَوَى يَأْوي " إذا انضمَّ واجتمع ، والأصلُ : أَوْيٌ نحو : طَوَى يَطْوي طَيَّاً ، الأصلُ : طَوْي ، فاجتمعت الياءُ والواو وسَبَقَتْ إحداهما بالسكونِ فَقُلِبَت الواوُ ياءً وأُدْمت في الياء ، وكأنَّ ابن جني ينظر إلى معنى المادة من الاجتماعِ الذي يدل عليه " أيّ " فإنها للعمومِ ، والعمومُ يستلزمُ الاجتماع .

وهل هذه الكافُ الداخلةُ على " أي " تتعلَّق بشيء كغيرها من حروف الجرِّ أم لا ؟ والصحيحُ أنها لا تتعلَّقُ بشيء أصلاً لأنَّها مع " أي " صارتا بمنزلةِ كلمةٍ واحدةٍ وهي " كم " ، فلم تتعلَّقْ بشيءٍ ؛ ولذلك هُجِر معناها الأصلي وهو التشبيه .

وزعم الحوفي أنها تتعلَّق بعاملٍ ، ولا بُدَّ من إيراد نَصِّه لتقفَ عليه فإنه كلام غريب . قال : أما العاملُ في الكاف فإن جَعَلْنَاها على حكمِ الأصل فمحمولُ على المعنى ، والمعنى : أصابَتْكم كإصابةِ مَنْ تقدَّم مِن الأنبياء وأصحابِهم ، وإنْ حَمَلْنا الحكمَ على الانتقالِ إلى معنى " كم " كان العاملُ بتقديرِ الابتداء وكانت في موضعِ رفع ، و " قُتِل " الخبر ، و " مِنْ " متعلقة بمعنى الاستقرار ، والتقدير الأول أَوضحُ لحَمْل الكلام على اللفظ دون المعنى بما يجب من الخفض في " أي " وإذا كانَتْ " أي " على بابها من معاملة اللفظِ ف " مِنْ " متعلقةٌ بما تعلَّقت به الكافُ من المعنى المدلولِ عليه " . انتهى .

واختار الشيخ أَنَّ " كأيِّنْ " كلمةٌ بسيطةٌ غيرُ مركبةٍ وأنَّ آخرَها نون هي من نفس الكلمة لا تنوينٌ ، لأنَّ هذه الدَّعاوي المتقدمة لا يقومُ عليها دليل ، والشيخُ سَلَكَ في ذلك الطريقَ الأسهلَ ، والنحويون ذَكَروا هذه الأشياءَ محافظةً على أصولِهم ، مع ما ينضَمُّ إلى ذلك مِنَ الفوائِدِ وتشحيذِ الذهن وتمرينِه . هذا ما يتعلَّق ب " كأيِّن " من حيث الإِفرادُ .

أمَّا ما يتعلق بها من حيث التركيب فموضعُها رفعٌ بالابتداء وفي خبرِها أربعةُ أوجه ، أحدُها : أنه " قُتِل " فإنَّ فيه ضميراً مرفوعاً به يعودَ على المبتدأ والتقدير : كثيرٌ من الأنبياء قتل . قال أبو البقاء : " والجيدُ أَنْ يعودَ الضميرُ على لفظِ " كأيِّنْ " كما تقولُ : " مئة نبي قُتِل " فالضميرُ للمئة ، إذ هي المبتدأ . فإنْ قلت : لو كان كذلك لأنَّثْتَ فقلت : " قُتِلَتْ . قيل : هذا محمولٌ على المعنى ، لأنَّ التقديرَ : كثير من الرجال قُتِل . انتهى " كأنه يعني بغير الجيد عَوْدَه على لفظ " نبي " ، فعلى هذا يكون " معه ربِّيُّون " جملةً في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في " قُتِل " [ وهو أَوْلَى لأنه من قبيلِ المفردات ، وأصلُ الحالِ والخبرِ والصفة أن تكونَ مفردةً ] . ويجوزُ أَنْ يكونَ " معه " وحده هو الحالَ و " رِبِّيُّون " فاعلٌ به ، ولا يَحْتاج هنا إلى واوِ الحال لأنَّ الضمير هو الرابطُ ، أعني الضمير في " معه " ، ويجوز أن يكونَ حالاً من " نبي " وإن كان نكرة لتخصيصه بالصفةِ حينئذ ، ذكره مكي ، وعَمِل الظرفُ هنا لاعتمادِه على ذي الحال .

قال الشيخ : " هي حكايةُ حالٍ ماضيةٍ فلذلك ارتفع " ربِّيُّون " بالظرف وإن كان العاملُ ماضياً لأنه حكى الحال الماضية كقوله تعالى : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } [ الكهف : 18 ] وهذا على رأي البصريين ، وأما الكسائي فيُعْمِل اسمَ الفاعلِ العاري من أل مطلقاً " . وفيه نظرٌ لأنَّا لا نسلِّم أنَّ الظرفَ يتعلق باسم فاعل حتى يَلزمَ عليه ما قال من تأويله اسمَ الفاعل بحال ماضية ، بل نَدَّعي تعلقَه بفعل تقديره : استقر معه ربيون .

الوجه الثاني : أن يكون " قُتِل " جملةً في محل جر صفةً ل " نبي " و " معه ربيون " هو الخبر ، ولك الوجهان المتقدمان في جعله حالاً ، أعني إن شئت أن تجعل " معه " خبراً مقدماً و " ربيون " مبتدأً مؤخراً ، والجملةُ خبر " كأين " ، وإن شئت أن تجعلَ " معه " وحدَه هو الخبرَ ، و " ربيون " فاعلٌ به ، لاعتمادِ الظرف على ذي خبر .

الوجه الثالث : أن يكونَ الخبرُ محذوفاً تقديره : " في الدنيا " أو " مضى " او " صائر " ونحوه ، وعلى هذا فقولُه : " قتل " في محلِّ جر صفة ل " نبي " ، و " معه ربيون " حال من الضمير في " قتل " على ما تقدم تقريره ، ويجوز أن يكون " معه ربيون " صفةً ثانية ل " نبي " وُصِفَ بصفتين : بكونه " قتل " وبكونه " معه ربيون " .

الوجه الرابع : أن يكون " قُتِل " فارغاً من الضمير مسنداً إلى " ربيون " ، وفي هذه الجملة حينئذ احتمالان ، أَحدُهما : أن تكونَ خبراً ل " كائن " ، والثاني : أن تكونَ في محلِّ جر صفة ل " نبي " ، والخبر محذوف على ما تقدَّم ، وادِّعاءُ حذفِ الخبرِ ضعيفٌ لاستقلال الكلام بدونه . وقال أبو البقاء : " ويجوزُ أَنْ يكونَ " قُتِل " صفة لربيين ، فلا ضمير فيه على هذا ، والجملة صفة " نبي " ويجوز أن تكون خبراً ، فيصير في الخبر أربعةُ أوجه ، ويجوزُ أن تكونَ صفة ل " نبي " والخبرُ محذوفٌ على ما ذكرنا " . أَمَّا قولُه " صفة ل " ربيين " يعني أن القتل من صفتهم في المعنى . وقوله : " فيصير فيه أربعة أوجه " يعني مع ما تقدَّم له من أوجهٍ ذكرَها . وقولُه : فلا ضميرَ فيه على هذا ، والجملةُ صفةُ نبي " غلطٌ لأنَّه يبقى المبتدأ بلا خبرٍ .

فإنْ قلت : إنَّما يزعم هذا لأنهُ يُقَدِّر خبراً محذوفاً . قلت : قد ذَكَر هذا وجهاً آخرَ حيث قال : " ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً ل " نبي " والخبرُ محذوفٌ على ما ذكرنا " .

ورَجَّح كونَ " قُتِل " مسنداً إلى ضميرِ النبي أنَّ القصةَ بسبب غزوة أحد وتجادل المؤمنين حين قيل : إنَّ محمداً قد مات مقتولاً ، ويؤيِّدهُ قولُه :

{ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } [ آل عمران : 144 ] وإليه ذهب ابن عباسِ والطبري وجماعةٌ ، وعن ابن عباس في قوله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } [ آل عمران : 161 ] : " النبي يُقْتل فكيف لا يُخان . وذهب الحسن وابن جبير وجماعة إلى أنَّ القَتْلَ للربّيّين قالوا : لأنه لم يُقْتَل نبيٌّ في حربٍ قط . ونَصَر الزمخشري هذا بقراءة " قُتِّل " بالتشديد ، يعني أن التكثير لا يتأتَّى في الواحد وهو النبي . وهذا الذي ذَكَره الزمخشري سَبَقَهُ إليه ابن جني ، وسيأتي تأويل هذا .

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : " قُتِل " مبنياً للمفعول ، وقتادة كذلك إلا أنه شدَّد التاء ، وباقي السبعة : " قاتَل " ، وكلٌّ مِنْ هذه الأفعال يَصْلُح أَنْ يرفعَ ضمير " نبي " وأن يرفعَ ربِّيِّين على ما تقدَّم تفصيلُه . وقال ابن جني : " إنَّ قراءة " قُتِّل " بالتشديد يتعيَّن أن يُسْنَدَ الفعل فيها إلى الظاهر ، أعني ربيين . قال : " لأنَّ الواحدَ لا تكثيرَ فيه " . قال أبو البقاء : " ولا يمتنعُ أنْ يكونَ فيه ضمير الأول لأنه في معنى الجماعة " انتهى . يعني أنَّ " من نبي " المرادُ به الجنسُ فالتكثيرُ بالنسبة لكثرةِ الأشخاصِ لا بالنسبةِ إلى كلِّ فردٍ فردٍ ، إذ القتلُ لا يتكثَّر في كلِّ فرد . وهذا الجوابُ الذي أجابَ به أبو البقاء استشعر به أبو الفتح وأجابَ عنه . قال : " فإِنْ قيل : يُسْنَدُ إلى " نبي " مراعاةً لمعنى " كم " فالجوابُ : أنَّ اللفظَ قد فَشَا على جهةِ الإِفرادِ في قوله : { مِّن نَّبِيٍّ } ، ودلَّ الضميرُ المفردُ في " معه " على أن المرادَ إنما هو التمثيلُ بواحدٍ ، فخرج الكلامُ عن معنَى " كم " . قال : " وهذه القراءةُ تُقَوِّي قولَ مَنْ قال : إنَّ " قُتِل " و " قاتَل " يُسْندان إلى الربِّيِّين .

قال الشيخ : " وليس بظاهر لأنَّ " كأين " مثلُ " كم " ، وأنت إذا قلت : " كم مِنْ عانٍ فككتُه " [ فأفرَدْتَ ] راعَيْت لفظَها ، ومعناها جَمعٌ ، فإذا قلت : " فَكَكْتُهم " راعيتَ المعنى ، فلا فرق بين " قُتل معه ربيون " و " قُتِل معهم رِبِّيُّون " ، وإنما جاز مراعاةُ اللفظِ تارةً والمعنى أخرى في " كم " و " كأين " لأنَّ معناهما " جَمْعٌ " ، و " جَمْعٌ " يجوزُ فيه ذلك ، قال تعالى :

{ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [ القمر : 44-45 ] فراعى اللفظَ في قولِه " منتصِرٌ " والمعنى في قوله : " يُوَلُّون " .

ورجَّح بعضُهم قراءةَ " قاتل " لقوله بعد ذلك : { فَمَا وَهَنُواْ } قال : " وإذا قُتِلوا فكيف يُوصفون بذلك ؟ إنما يُوصف بهذا الأحياءُ ، والجوابُ : أنَّ معناه " قُتِل بعضُهم " ، كما تقول : " قُتل بنو فلان في وقعة كذا ثم انتصروا " . وقال ابن عطية : " قراءةُ مَنْ قرأ " قاتل " أعمُّ في المدح ، لأنه يدخُل فيها مَنْ قُتِل ومَنْ بقي ، ويحسُنُ عندي على هذه القراءةِ إسنادُ الفعلِ إلى الربِّيِّين ، وعلى قراءة " قُتِل " إسنادُه إلى " نبي " . قال الشيخ : " بل " قُتِل " أمدحُ/ وأبلغُ في مقصودِ الخطاب ، فإنَّ " قُتِل " يستلزم المقاتلة من غير عكس " .

وقوله : { مِّن نَّبِيٍّ } تمييز ل " كأيِّن " لأنها مثل " كم " الخبرية . وزعم بعضُهم أنه يلزمُ جَرُّه ب " مِن " ، ولهذا لم يَجِيءْ في التنزيل إلا كذا ، وهذا هو الأكثرُ الغالِبُ كما قال ، وقد جاء تمييزها منصوباً ، قال :

اطرُدِ اليأسَ بالرجاء فكائِنْ *** آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بعدَ عُسْرِ

وقال آخر :

وكائِنْ لنا فَضْلاً عليكم ورحمةً *** قديماً ولا تَدْرُون ما مَنُّ مُنْعِمِ

وأمَّا جرُّه فممتنع لأنَّ آخرَها تنوينٌ وهو لا يَثْبُتُ مع الإِضافةِ .

والربيُّون : جمعُ " رِبِّي " وهو العالمُ منسوبٌ إلى الرَّبِّ ، وإنما كُسرت راؤه تغييراً في النسب نحو : " إمْسِيّ " بالكسرِ منسوبٌ إلى " أَمْس " . وقيل : كُسِر للإِتباع ، وقيل : لا تغييرَ فيه وهو منسوبٌ إلى الرُّبَّة وهي الجماعةُ . وهذه القراءةُ بكسرِ الراء قراءة الجمهور ، وقرأ علي وابن مسعود وابن عباس والحسن : " رُبِّيُّون " بضمِّ الراء ، وهو من تغيير النسب إنْ قلنا هو منسوبٌ إلى الرَّبِّ ، وقيل : لا تغييرَ وهو منسوب إلى الرُّبَّة وهي الجماعةُ ، وفيها لغتانِ : الكسر والضم ، وقرأ ابن عباس في رواية قتادة : " رَبِّيُّون " بفتحِها على الأصل ، إنْ قلنا : منسوبٌ إلى الرَّبِّ ، وإلاَّ فَمِنْ تغييرِ النسب إنْ قلنا : إنَّه منسوبٌ إلى الرُّبَّة . قال ابن جني : " والفتحُ لغة تميم " . وقال النقاش : هم المُكْثِرون العلمَ من قولهم : " رَبا يربُو " إذا كَثُر " . وهذا سَهْوٌ منه لاختلافِ المادتين ، لأنَّ تَيْكَ من راء وباء وواو ، وهذه من راء وباء مكررةٍ . و " كثيرٌ " صفة ل " ربّيّون " وإنْ كان بلفظِ الإِفراد لأنَّ معناه جمعٌ .

قوله : { فَمَا وَهَنُواْ } الضميرُ في " وَهَنوا " يعودُ على الرِّبِّيين بجملتهم إنْ كان " قُتِل " مسنداً إلى ضمير النبي ، وكذا في قراءة " قاتل " سواء كان مسنداً إلى ضمير النبي أو إلى الربِّيِّين ، وإنْ كان مسنداً إلى الربيين فالضميرُ يعودُ على بعضِهم ، وقد تقدَّم ذلك عند الكلام في ترجيح قراءة " قاتل " .

والجمهورُ على " وَهَنوا " بفتحِ الهاء ، والأعمش وأبو السَّمَّال بكسرِها ، وهما لغتان : وَهَن يَهِنُ ، كوعَد يَعِدُ ، ووَهِنَ يَوْهَن كوَجِل يَوْجَل ، ورُوِي عن أبي السَّمَّال أيضاً وعكرمة : " وَهْنوا " بكسونِ الهاء ، وهو من تخفيفِ فَعِل لأنه حرفُ حلق نحو : نَعْم وشَهْد في : نَعِم وشَهِد .

و " لَمَّا " متعلِّقٌ ب " وَهَنوا " ، و " وما " يجوزُ أَنْ تَكونَ موصولةً اسميةً أو مصدريةً أو نكرةً موصوفةً . والجمهورُ قرؤوا : " ضَعُفوا " بضمِّ العَيْن ، وقُرىء : " ضَعَفوا " بفتحها ، وحكاها الكسائي لغةً .

وقوله : { وَمَا اسْتَكَانُواْ } فيه ثلاثةُ أقوالٍ : أحدُها : أنه استَفعل من الكونِ ، والكونُ : الذُّلُّ ، وأصلُه : اسْتَكْوَن ، فَنُقِلَتْ حركةُ الواو على الكاف ، ثم قُلِبَتِ الواوُ ألفاً . وقال الأزهري وأبو عليّ : " هو من قول العرب : " بات فلان بِكَيْنَةِ سوءٍ " على وزِن " جَفْنة " أي : بحالةِ سوءٍ " فألفُه على هذا من ياءِ ، والأصلُ : اسْتَكْيَنَ ، ففُعِل بالياء ما فُعِل بأختها .

الثالث : قال الفراء : " وزنُه افْتَعَل من السكون ، وإنما أُشْبعت الفتحةُ فتولدُ منها ألفٌ كقوله :

أعوذُ باللهِ من العَقْرابِ *** الشَّائِلاتِ عُقَدَ الأَذْنَابِ

يريد : العَقْرَب الشائلةَ " . ورُدَّ على الفراء بأنَّ هذه الألفَ ثابتةٌ في جميع تصاريفِ الكلمةِ نحو : استكانَ يَسْتكين فهو مُسْتَكِين ومُسْتَكان إليه استكانةً ، وبأنَّ الإِشباعَ لا يكونُ إلا في ضرورةٍ . وكلاهما لا يَلْزَمُه : أمَّا الإِشباعُ فواقعٌ في القراءاتِ السبعِ كما سيمرُّ بك ، وأمَّا ثبوتُ الألفِ في تصاريف الكلمةِ فلا يَدُلُّ أيضاً ؛ لأنَّ الزائد قد يلزَمُ ألا ترى أنَّ الميمَ في تَمَنْدل وتَمَدْرَعَ زائدةٌ ، ومع ذلك هي ثابتةٌ في جميعِ تصاريفِ الكلمة قالوا : تَمَنْدل يَتَمَنْدَلُ تَمَنْدُلاً فهو مُتَمَنْدِلٌ ومُتَمَنْدَلٌ به ، وكذا تَمَدْرَع ، وهما من النَّدْل والدِّرْع . وعبارةُ أبي البقاء أحسنُ في الردِّ فإنه قال : " لأنَّ الكلمة في جميعِ تصاريفِها ثبتَتْ عينُها والإِشباعُ لا يكونُ على هذا الحدِّ " .

ولم يَذْكُر متعلِّقَ الاستكانة والضعف فلم يَقُل " فما ضَعُفُوا عن كذا ، وما استكانوا لكذا " للعمل به أو للاقتصارِ على الفعلين نحو : { كُلُواْ وَاشْرَبُواْ } [ البقرة : 60 ] لِيَعُمَّ ما يَصْلُحُ لهما .