الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ كِتَٰبٗا مُّؤَجَّلٗاۗ وَمَن يُرِدۡ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَا وَمَن يُرِدۡ ثَوَابَ ٱلۡأٓخِرَةِ نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَاۚ وَسَنَجۡزِي ٱلشَّـٰكِرِينَ} (145)

قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ } : " أًَنْ تموتَ " في محل رفع اسماً ل " كان " . و : " لنفس " خبرٌ مقدم فيتعلَّقُ بمحذوف و { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } حالٌ من الضمير في " تموت " فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، وهو استثناء مفرغ ، والتقدير : وما كان لها أن تموت إلا مأذوناً لها ، والباء للمصاحبة .

وقال أبو البقاء : و { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } الخبر ، واللامُ للتبيينِ متعلقةٌ ب " كان " . وقيل : هي متعلقةٌ بمحذوفٍ تقديرُه : الموتُ لنفس ، و " أن تموت " تبيينٌ للمحذوفِ ، ولا يجوز أَنْ تتعلَّقَ اللامُ ب " تموت " لِما فيه من تقديمِ الصلةِ على الموصولِ " . وقال بعضُهم : " إنَّ " كان " زائدةٌ فيكونُ " أَنْ تموتَ " مبتدأ ، و " لنفسٍ " خبره " . وقال الزجاج : " تقديرُه : وما كانت نفسٌ لتموتَ ، ثم قُدِّمَتِ اللامُ " فجُعِل ما كان اسماً ل " كان " وهو " أن تموتَ " خبراً لها ، وما كان خبراً وهو " لنفسٍ " اسماً لها . فهذه خمسةُ أقوالٍ ، أظهرُها الأول .

أمَّا قولُ أبي البقاء " واللامُ للتبيين فتتعلَّقُ بمحذوفٍ " ففيه نظرٌ من وجهين ، أحدُهما : أنَّ " كان " الناقصةَ لا تعمل في غيرِ اسمِها وخبرِها ، ولئِنْ سُلِّم ذلك فاللامُ التي للتبيين إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ ، وقد نَصُّوا على ذلك في نحوِ : " سُقياً لك " .

وأمَّا مَنْ جَعَل " لنفسٍ " متعلقةً بمحذوفٍ تقديرُه : " الموتُ لنفسٍ " ففاسِدٌ لأنه ادَّعى حَذْفَ شيءٍ لا يجوزُ ، لأنه إنْ جَعَل " كان " تامةً أو ناقصةً امتنع حَذْفُ مرفوعِها لأنَّ الفاعلَ لا يُحْذَفُ ، وأيضاً فإنَّ فيه حَذْفَ المصدر وإبقاءَ معمولِه وهو لا يجوزُ . وكذلك قولُ مَنْ جَعَلَ " كان " زائدةً . وأمَّا قولُ الزجاجِ فإنَّه تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ فتعودُ الأقوالُ أربعةً/ .

قوله : { كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه مصدرٌ مؤكِّد لمضمونِ الجملة التي قبلَه ، فعاملُه مضمرٌ تقديرُه : " كَتَب الله ذلك كتاباً " ، نحو : { صُنْعَ اللَّهِ } [ النمل : 88 ] { وَعْدَ اللَّهِ } [ النساء : 122 ] ، و

{ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] . والثاني : أنه منصوبٌ على التمييزِ . ذكره ابنُ عطية ، وهذا غيرُ مستقيمٍ ؛ لأنَّ التمييزَ منقولٌ وغيرُ منقولٍ ، وأقسامُه محصورةٌ وليس هذا شيئاً منها . وأيضاً فأين الذاتُ المبهمةُ التي تحتاج إلى تفسير . والثالثُ : أنه منصوب على الإِغراءِ ، والتقديرُ : الزَموا كتاباً مؤجلاً وآمِنوا بالقدر ، وليس المعنى على ذلك .

وقرأ ورش : " مُوَجَّلاً " بالواوِ بدلَ الهمزةِ وهو قياسُ تخفيفِها .

قوله : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ } " مَنْ " مبتدأُ وهي شرطيةٌ . وفي خبرِ هذا المبتدأِ الخلافُ المشهورُ . وأَدْغم أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر بخلافٍ عنه دالَ " يُرِدْ " في الثاء ، والباقون بالإِظهار .

وقرأ أبو عمرو بالإِسكانِ في هاء " نؤتيه " في الموضعين وَصْلاً ووقفاً ، وقالون وهشام بخلاف عنه بالاختلاسِ وَصْلاً ، والباقون بالإِشباعِ وصلاً . فامَّا السكونُ فقالوا : إنَّ الهاء لَمَّا حَلَّتْ مَحَلَّ ذلك المحذوفِ أُعْطيت ما كان يَسْتَحِقُّه من السكون . وأمَّا الاختلاسُ فلاستصحابِ ما كانَتْ عليه الهاءُ قبلَ حذفِ لامِ الكلمة ، فإنَّ الأصل : نُؤتيه ، فَحُذِفَتْ الياءُ للجزم ، ولم يُعْتَدَّ بهذا العارِض فبقيتِ الهاءُ على ما كانت عليه . وأمَّا الإِشباعُ فنظراً إلى اللفظِ لأنَّ الهاءَ بعد متحرِّكٍ في اللفظِ ، وإنْ كانت في الأصلِ بعد ساكن وهو الياء التي حُذِفَتْ للجزم . والأَوْلى أَنْ يُقال : إن الاختلاسَ والإِسكانَ بعد المتحرك لغةٌ ثابتةٌ عن بني عُقَيْل وبني كلاب ، حكى الكسائي : " لَهْ مالٌ وبِهْ داءٌ " بسكونِ الهاء ، واختلاسِ حركتها ، وبهذا يتبيَّنُ أنَّ قولَ مَنْ قال : " إسكانُ الهاءِ واختلاسُها في هذا النحو لا يجوزُ إلا ضرورةً " ليس بشيءٍ ، أمَّا غيرُ بني عُقَيْل وبني كلاب فنعم لا يوجد ذلك عندهم إلا في ضرورةٍ كقولِه :

لَهُ زَجَلٌ كأنَّهُ صَوْتُ حادٍ *** إذا طَلَبَ الوسيقَةَ أو زميرُ

باختلاسِ هاء " كأنه " ، وقول الآخر :

وأشربُ الماءَ ما بي نحوه عَطَشٌ *** إلاَّ لأنَّ عيونَهْ سَيْلُ وادِيها

بسكونِها . وجعل ابنُ عصفور أنَّ الضرورةَ في البيت الثاني أحسنُ منها في الأولِ قال : " لأنه إذهابٌ للحركةِ وصلتِها فهي جَرْيٌ على الضرورةِ إجراءً كاملاً " وإنما ذَكَرْتُ هذه التعليلاتِ لكثرة ورودِ هذه المسألة نحو

{ يَرْضَهُ لَكُمْ } [ الزمر : 7 ] و { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] . وقُرىء : " يُؤْتِه " بياء الغائب ، والضميرُ لله تعالى ، وكذلك : { وَسَيَجْزِي الشَّاكِرِينَ } بالنون والياء .