الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ} (3)

قوله تعالى : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } : العامَّةُ على التشديدِ في " نَزَّل " ونصبِ " الكتاب " . وقرأ الأعمش والنخعيّ وابن أبي عبلة : نَزَلَ بتخفيف الزاي ورفعِ الكتاب ، فأمّا القراءة الأولى فقد تقدَّم أن هذه الجملةَ/ يُحتمل أن تكونَ خبراً وأن تكونَ مستأنفةً . وأمّا القراءةُ الثانيةُ فالظاهرُ أنَّ الجملة فيها مستأنفةٌ ، ويجوزُ أن تكونَ خبراً ، والعائدُ حينئذٍ محذوفٌ ، تقديرُه : نَزَل الكتابُ من عنده .

قوله : { بِالْحَقِّ } فيه وجهان ، أحدُهما : أن تتعلَّق الباءُ بالفعل قبلها والباءُ حينئذٍ للسببية ، أي : نَزَّله بسبب الحق . والثاني : أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ : إمَّا من الفاعلِ أي : نَزّله مُحِقّاً ، أو من المفعولِ أي : نَزَّله ملتبساً بالحقِّ نحو : جاء بكرٌ بثيابه أي : ملتبساً بها .

وقال مكيّ : " ولا تتعلَّقُ الباءُ بنَزَّلَ لأنه قد تَعَدَّى إلى مفعولين ، أحدُهما بحرفٍ فلا يتعدى إلى ثالثٍ " وهذا الذي ذَكَرَه مكيٌّ غيرُ ظاهر ، فإنَّ الفعلَ يتعدَّى إلى متعلِّقاته بحروفٍ مختلفة على حَسَب ما يكونُ ، وقد تقدم أنَّ معنى الباء السببيةُ ، فأيُّ مانع يمنع من ذلك ؟ .

قوله : { مُصَدِّقاً } فيه أوجه ، أحدُهما : أَنْ يَنْتَصِبَ على الحالِ من " الكتاب " ، فإنْ قيل إنَّ " بالحق " حالٌ كانَتْ هذه حالاً ثانية عند مَنْ يُجيز تعدُّد الحالِ ، وإنْ لم يُقَلْ ذلك كانت حالاً أولى . والثاني : أن ينتصِب على الحالِ على سبيلِ البدلية من محلِّ " بالحق " وذلك عند مَنْ يمنعُ تعدُّد الحالِ في غير عطفٍ ولا بدلية . الثالث : أن ينتصِبَ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في " بالحق " إذا جعلناه حالاً ، لأنه حينئذٍ يتحمَّلُ ضميراً لقيامِه مقامَ الحالِ التي تتحمَّلُه ، وتكونُ حالاً متداخلةً أي : إنها حالٌ من حال ، وعلى هذه الأقوال كلِّها فهي حالٌ مؤكِّدةٌ ، لأنه لا يكون إلا كذلك ، فالانتقال غيرُ متصوَّرٍ فيه ، وهو نظير قوله :

أنا ابنُ دارةَ معروفاً بها نسبي *** وهَلْ بدارَةَ يا لَلْناسِ مِنْ عارِ

قوله : { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } مفعولٌ لمصدِّقا ، وزيدت اللامُ في المفعول تقويةً للعامل لأنه فرعٌ ، إذ هو اسمُ فاعل كقوله تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }

[ هود : 107 ] وإنما ادَّعْينا ذلك لأنَّ هذه المادةَ متعدِّية بنفسِها .

قوله : { التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ } اختلفَ الناسُ في هاتين اللفظتين : هل يَدْخُلُهما الاشتقاق والتصريف أم لا يدخلانِهما لكونِهما ؟ أعجميين ؟ فذهب جماعةٌ كالزمخشري وغيرُه إلى الثاني . قالوا : لأنَّ هذين اللفظين اسمان عِبرانيَّان لهذينِ الكتابَيْنِ الشريفين . قال الزمخشري : " وتَكَلُّفُ اشتقاقِهِما من الوَرَىْ والنَّجْل ، ووزنُهما بتَفْعِلة وإفْعِيل إنما يَثْبُتُ بعد كونهما عربيين " . [ قال الشيخ : " وكلامُه صحيح ، إلا أن فيه استدراكاً وهو قوله : تَفْعِلَة ، ولم يذكُرْ مذهب البصريين ] وهو أنَّ وزنَها فَوْعَلة ، ولم ينبِّه على تَفْعِلَة : هل هي بكسر العين أو فتحها " قلت : لم يَحْتج إلى التنبيه لشهرتِهما ، وإنما ذكر المستغربَ .

ويؤيدُ ما قاله الزمشخري من كونها أعجميةً ما نقله الواحدي ، وهو أنَّ التوراة والإِنجيل والزبور سريانيةُ فَعَرَّبوها قال : " ولذلك يقولون فيها بالسريانية : تُوري ايكليونُ زَفوتا " فعرَّبوها إلى ما ترى .

ثم القائلون باشتقاقهما اختلفوا : فقال بعضُهم : التَوْرَاة مشتقة من قولهم : ورِي الزَّنْدُ إذا قَدَح فظهرَ منه نارٌ . يقال " وَرِيَ الزَّنْدُ " و " أَوْرَيْتُه أنا " . قال تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ } [ الواقعة : 71 ] فثلاثيُّهُ قاصرٌ ورباعيةُ متعدٍّ . وقال تعالى : { فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً } [ العاديات : 2 ] ، ويقال أيضا : " وَرَيْتُ بكل زِنادي " فاستُعْمِلَ الثلاثيُّ متعدياً ، إلا أن المازني يزعم أنه لا يُتجاوز به هذا اللفظ ، يعني فلا يُقاس عليه ، فيقال : " وَرَيْتُ النارَ " مثلاً . إذا تقرر ذلك فلما كانت التوراة فيها ضياءٌ ونورٌ يُخْرَجُ به من الضلال [ إلى ] الهدى ، كما يُخْرَج بالنور من الظلام إلى النور سُمِّي هذا الكتابُ بالتوراة ، وهذا هو قولُ الفراء ، وهو مذهبُ جمهور الناس .

وقال آخرون : بل هي مشتقةٌ من " وَرَّيْتُ في كلامي " من التورية وهي التعريض . وفي الحديث : " كان إذا أراد سفراً وَرَّى بغيره " وسُمِّيَت التوراة بذلك لأنَّ أكثَرها تلويحاتٌ ومعاريضُ ، وإلى هذا ذهبَ المؤرج السدوسي وجماعة .

وفي وزنها ثلاثةُ أقوالٍ أحدُها : وهو قولُ الخليل وسيبويه أن وزنَها فَوْعَلَة ، وهذا الوزن قد وردت منه ألفاظ نحو : الدَّوْخَلة والقَوْصرة والدَّوْسَرة والصَّوْمَعَة ، والأصل : وَوْرَيَة بواوين ، لأنها إمَّا من وَرِي الزَّنْدُ ، وإمَّا من وَرَيْتُ في كلامي ، فأُبدلت الواو الأولى تاءً وتحرَّك حرفُ العلةِ وانفتح ما قبلَه فقُلب ألفاً فصار اللفظُ : تَوْرَاة كما ترى ، وكُتبت بالياءِ مُنْبَهَةً على الأصل ، كما أُميلت لذلك ، وقد أَبْدَلتْ العربُ التاءَ من الواو في ألفاظ نحو : تَوْلَج وتَيْقور وتُخَمَة وتُكَأَة وتُراث وتُجاه وتُكْلان من : الوُلوج والوَقار والوَخَامة والوِكاء والوِراثة والوَجْه والوَكالة . ونظيرُ إبدال الواو تاءً في التوراة إبدالُها أيضاً في قولهم لِما تَراه المرأة في الطهر بعد الحيض : " التَّرِيَّة " هي فَعِيْلَة من لفظ الوراء لأنها تُرى بعد الصُّفْرَة والكُدْرَة .

الثاني : وهو قولُ الفراء أن وزنَها تَفْعِلَة بكسر العين ، فأُبْدِلَت الكسرةُ فتحةً ، وهي لغةٌ طائية ، يقولون في الناصية : ناصَاة ، وفي بَقِي : بَقَى قال الشاعر :

1159 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** بحِرْبٍ كناصاة الأغَرِّ المُشَهَّرِ

وقال آخر :

1160 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . نفوساً بُنَتْ على الكَرَمِ

وأنشد الفراء :

وما الدنيا بباقاةٍ علينا *** وما حيٌّ على الدنيا بباقٍ

وقد ردَّ البصريون ذلك بوجهين ، أحدُهما : أنَّ هذا البناءَ قليلٌ جداً أعني بناءَ تَفْعِلة بخلاف فَوْعَلة فإنه كثير ، فالحَمْلُ على الأكثر أولى . والثاني : أنه يلزمُ منه زيادةُ التاءِ أولاً والتاء لم تُزَدْ أولاً إلا في مواضِعَ ليس هذا منها بخلافِ قَلْبِها في أولِ الكلمة فإنه ثابت ، وذلك أنَّ الواو إذا وَقَعَتْ أولاً قُلِبَتْ : إمَّا همزةً نحو : أُجوه وأُقِّتَتْ وأَحَدَ وأَناة وإشاح وإعاء في : وجوه ووُقِّتَتْ ووَحَدَ ووَنَاة ووِشاح ووِعاء ، وإمَّا تاء نحو : تُجاه وتُخَمة .

. . الخ ، فاتِّباع ما عَهِدَ أَوْلى من اتِّباع ما لم يُعْهَدُ .

الثالث : أنَّ وزنَها تَفْعَلَة بفتحِ العين وهو مذهبُ الكوفيين ، كما يقولون في : تَتْفُلة بالضمِّ/ تَتْفَلَة بالفتح ، وهذا لا حاجة إليه وهو أيضاً دعوى لا دليل عليها .

وأمال التوراةَ حيث وردَتْ في القرآن إمالة مَحْضَة أبو عمرو والكسائي وابن عامر في رواية ابن ذكوان ، وأمالها بينَ بينَ حمزةُ وورش عن نافع ، واختُلف عن قالون : فرُوِيَ عنه بينَ بينَ والفتحُ ، وقرأها الباقون بالفتح فقط . وَوَجْهُ الإِمالة إن قلنا بأنَّ ألفَها منقلبةٌ عن ياء ظاهرٌ ، وإنْ قلنا إنها أعجمية لا اشتقاق لها فوجهُ الإِمالة شبهُ ألفها لألف التأنيث من حيث وقوعُها رابعةً فسببُ إمالتها : إمَّا الانقلابُ وإما شبهُ ألفِ التأنيثِ .

والإِنجيل : قيل : إفعيل كإجْفيل . وفي وزنه أقوال ، أحدها : أنه مشتقٌّ من النَّجْل وهو الماء الذي يَنُزُّ من الأرض ويَخْرُج منها ، ومنه : النَّجْلُ للولد ، وسُمِّي الإِنجيل لأنه مستخرجٌ من اللوح المحفوظ . وقيل : من النَّجْل وهو الأصلُ ، ومنه " النَّجْلُ " للوالدِ فهو من الأضداد ، إذ يُطْلق على الولد والوالد ، قال الأعشى :

أَنْجَبَ أيَّامُ والِداهُ به *** إذ نَجَلاه فنِعْمَ ما نَجَلا

وقيل : من النَّجَل وهو التوسِعَة ، ومنه : العَيْنُ النجلاءُ لسَعَتها ، وسُمِّي الإِنجيلُ بذلك ؛ لأن فيه توسعةً لم تَكن في التوراة ، إذ حُلِّل فيه أشياءُ كانت مُحَرَّمةً .

وقيل : هو مشتقٌّ من التَناجل وهو التنازُع ، يقال : تَنَاجل الناسُ أي : تنازعوا ، وسُمِّي الإِنجيلُ بذلك لاختلاف الناسِ فيه قاله أبو عمرو الشيباني .

والعامَّةُ على كَسْرِ الهمزةِ من " إنجيل " . وقرأ الحسنُ بفتحِها . قال الزمخشري : " وهذا يَدُلُّ على أنه أعجمي لأنَّ " أفعيلا " بفتح الهمزة عديمٌ في أوزان العرب " . قلت : بخلاف إفعيل بكسرها فإنه موجود نحو : إِجْفيل وإخْريط وإصْليت .

وفَرَّق الزمخشري بين " نَزَّل " و " أنزل " على عادتِه فقال : " فإنْ قلت : لِمَ قيل : نَزَّل الكتابَ ، وأنزل التوراة والإِنجيل ؟ قلت : لأن القرآن نَزَل منجَّماً ونَزَل الكتابان جملةً " . قال الشيخ : " قد تقدَّم الردُّ عل هذا القول في البقرة ، وأنَّ التعديةَ بالتضعيف لا تَدُلُّ على التكثير ولا على التنجيم ، وقد جاء في القرآن : أَنْزَل ونَزَّل ، قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ }

[ النحل : 44 ] و { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } [ آل عمران : 3 ] ويدلُّ على أنهما بمعنى واحد قراءةُ مَنْ قرأ ما كان من " يُنَزِّلُ " مشدداً بالتخفيف إلا ما استُثْنِيَ ، ولو كان أحدُهما يدلُّ على التنجيم والآخر على النزولِ دفعةً واحدةً لتناقض الإِخبار وهو مُحالٌ " . قلت : وقد سَبَقَ الزمخشري إلى هذا الفرقِ بعينِه الواحديُّ .