قوله تعالى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } : هذه جملةٌ من مبتدأ وخبر ، يُحْتمل أَنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ ب " يُوصي " لأِنَّ المعنى : يَفْرض لكم ، أو يُشَرِّع في أولادكِم ، كذا قاله أبو البقاء ، وهذا يَقْرُبُ من مذهبِ الفراء فإنه يُجْري ما كان بمعنى القولِ مُجْراه في حكايةِ الجملِ بعده . قال الفراء : " ولم يَعْمل " يُوصيكم " في " مِثْل " ، إجراءً له مُجْرى القول في حكايةِ الجمل ، فالجملةُ في موضع نصبٍ ب " يُوصيكم " . وقال مكي : " للذَّكَرِ مثلُ حظ " ابتداءٌ وخبر في موضع نصب ، تبيينٌ للوصية وتفسيرٌ لها . وقال الكسائي : " ارتفع " مثل " على حذْفِ " إنَّ " تقديره : " أنَّ للذكرِ مثلَ حظ " . وبه قرأ ابن أبي عبلة .
ويُحْتمل ألأَّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب ، بل جِيءَ بها للبيانِ والتفسيرِ ، فهي جملةٌ مفسِّرة للوصية ، وهذا أحسنُ وجارٍ على مذهب البصريين ، وهو ظاهرُ عبارةِ الزمخشري فإنَّه قال : " وهذا إجمالٌ تفصيلُه { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } . وقوله : " للذَّكر " لا بدَّ من ضمير [ فيه ] يعود على " أولادكم " من هذه الجملة ، فيُحتمل أن يكون محذوفاً ، أي : للذكر منهم نحو : " السَّمْنُ مَنَوانِ بدرهم " قاله الزمخشري . ويُحْتمل أن يكونَ قامَ مقامَه الألفُ واللامُ عند مَنْ يَرَى ذلك ، والأصلُ : لِذَكَرِهم .
و " مثلُ " صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي : للذَّكرِ منهم حَظُّ مثلُ حَظِّ الأنثيين . و { فِي أَوْلاَدِكُمْ } قيل : ثَمَّ مضافٌ محذوف أي : في أولادِ موتاكم . قالوا : لأنه لا يَجُوزُ أَنْ يُخاطَبَ الحيُّ بقسمةِ الميراثِ في أولادِه ويُفْرََضَ عليه ذلك . وقال بعضُهم : " إنْ قلنا : إنَّ معنى " يُوصيكم " " يبيِّن لكم " لم يحتج إلى هذا التقدير " . وقَدَّر بعضُهم قبل " أولادكم " مضافاً أي : في شأنِ أولادِكم ، أو في أمرِ أولادكم .
وقرأ الحسن وابن أبي عبلة : " يُوَصِّيكم " بالتشديد ، وقد تقدَّم أنَّ أوصي ووصَّى لغتان .
قوله : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً } الضميرُ في " كُنَّ " يعودُ على الإِناث اللاتي شَمَلَهُنَّ قولُه { فِي أَوْلاَدِكُمْ } . فإنَّ التقدير : في أولادكم الذكورِ والإِناثِ ، فعادَ الضميرُ على أحدِ قِسْمَي الأولادِ ، وإذا عاد الضمير على جمعِ التكسيرِ العاقلِ المرادِ به مَحْضُ الذكور في قوله عليه السلام : " وربَّ الشياطين ومَنْ أَضْلَلْن " كعَوْدِه على جماعةِ الإِناث ، فَلأنْ يعودَ كذلك على جمع التكسيرِ الشاملِ للإِناثِ بطريقِ الأَوْلَى والأحرى ، وهذا معنى قولِ الشيخ . وفيه نظرٌ لأنَّ عودَه هناك كضميرِ الإِناث إنما كان لمعنىً مفقودٍ هنا ، وهو طلبُ المشاكلة لأنَّ قبلَه " اللهم ربََّ السماوات ومَنْ أَظْلَلْنَ ، وربَّ الأرضين وما أَقْلَلْنَ " ذَكَر ذلك النحويون .
وقيل : الضمير يَعُود على المتروكات أي : فإنْ كانت المتروكات ، ودَلَّ ذِكْرُ الأولاد عليه ، قاله أبو البقاء ومكي . وقَدَّرَه الزمخشري : " فإنْ كان البنات أو المولودات " .
فإذا تقرَّر هذا ف " كُنَّ " كان واسمُها ، و " نساءً " خبرُها ، و " فوق اثنتين " ظرف في محل نصب صفةً ل " نساء " وبهذه الصفةِ تحصُل فائدةُ الخبرِ ، ولو اقتُصِر عليه لم تَحْصُلْ فائدةُ ، ألا ترى أنه لو قيل : " إن كان الزيدون رجالاً كان كذا " لم يَكُنْ فيه فائدةٌ .
وأجاز الزمخشري في هذه الآية وَجْهين غريبين ، أحدهما : أن يكونَ الضميرُ في " كنَّ " ضميراً مبهماً ، و " نساءً " منصوبٌ على أنه تفسيرٌ له يعني تمييزاً ، وكذلك قال في الضمير الذي في " كانت " من قوله " وإنْ كانت واحدة " على أنَّ " كان " تامة . والوجهُ الآخر : أن يكونَ " فوق اثنتين " خبراً ثانياً ل " كُنَّ " ، ورَدَّهما عليه الشيخ : أمَّا الأولُ فلأنَّ " كان " ليسَتْ من الأفعالِ التي يكونُ فاعلُها مضمراً يُفَسِّره ما بعدَه ، بل هذا مختصٌّ من الأفعالِ ب " نعم " و " بئس " وما جَرى مَجْراهما ، وبابِ التنازع عند إعمالِ الثاني . وأما الثاني فلِما تقدَّم من الاحتياجِ إلى هذه الصفةِ ؛ لأنَّ الخبرَ لا بُدَّ أَنْ تستقلَّ به فائدةُ الإِسنادِ ، وقد تقدَّم أنه لو اقتَصَر على قولِه : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً } لم يُفِدْ شيئاً ، لأنه معلوم .
وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة : " ثُلْثا " و " الثلْث " و " النصْف " و " الرُّبْع " و " الثُّمْن " كلُّ ذلك بإسكان الوسط . والجمهور بالضم ، وهي لغةُ الحجاز وبني أسد . قال النحاس : " من الثلث إلى العشر " . وقال الزجاج : " هي لغةٌ واحدة ، والسكونُ تخفيف " .
قوله : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً } قرأ نافع : " واحدةٌ " رفعاً على أنَّ " كان " تامة أي : وإنْ وُجِدَتْ واحدةٌ ، والباقون " واحدة " نصباً على أنَّ " كانت " ناقصةً ، واسمُها مستترٌ فيها يعودُ على الوارثة أو المتروكة ، و " واحدةً " نصبٌ على خبرِ " كان " ، وقد تقدَّم أن الزمخشري أجاز أن يكونَ في " كان " ضميرٌ مبهمٌ مفسَّر بالمنصوب بعدُ .
وقرأ السلمي : " النُّصف " بضم النون ، وهي قراءةُ على وزيد بن ثابت رضي الله عنهما ، وقد تقدَّم شيء من ذلك في البقرة في قوله : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ الآية : 237 ] .
قوله : { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ } " السدس " مبتدأ و " لأبويه " خبر مقدم ، و " لكلِّ واحدٍ " بدلٌ من " لأبويه " وهذا ما نَصَّ عليه الزمخشري فإنه قال : " لكلَّ واحد منهما " بدل من " لأبويه " بتكريرِ العاملِ ، وفائدةُ هذا البدلِ أنه لو قيل : " ولأبويه السدسُ " لكان ظاهرُه اشتراكهما فيه ، ولو قيل : " لأبويه السدسان " لأَوْهَمَ قسمةَ السدسين عليهما بالتسويةِ وعلى خلافِهما .
فإنْ قلت : فهلا قيل : " ولكلِّ واحدٍ من أبويه السدس " وأيُّ فائدةٍ في ذِكْرِ الأبوين أولاً ثم في الإِبدالِ منهما ؟ قلت : لأنَّ في الإِبدال والتفصيل بعد الإِجمال تأكيداً وتشديداً كالذي تراه في الجمعِ بين المفسَّر والتفسيرِ . و " السدس " مبتدأ ، وخبره " لأبويه " ، والبدلُ متوسط بينهما للبيانِ " . انتهى .
وناقَشَه الشيخ في جَعْلِه " لأبويه " الخبرَ دونَ قوله " بكلِّ واحد " قال : " لأنه ينبغي أن يكونَ البدلُ هو الخبرَ دونَ المبدلِ منه " يعني أنَّ البدلَ هو المعتمدُ عليه ، والمبدلُ منه صارَ في حكمِ المُطَّرح ، ونَظَّره بقولك : " إنًَّ زيداً عينُه حسنة " فكما أنَّ " حسنة " خبر عن " عينه " دون " زيد " لأنّه في حكم المُطَّرح فكذلك هذا ، ونَظَّره أيضاً بقولك : " أبواك كلُّ واحد منهما يَصنع كذا " ف " يَصنع " خبرٌ عن " كل واحد " منهما ، ولو قلت : " أبواك كلُّ واحدٍ منهما يَصْنعان كذا " لم يَجُزْ " .
وفي هذه المناقشةِ نظرٌ لأنه إذا قيل لك : ما مَحَلُّ " لأبويه " من الإِعرابِ ؟ نضطر إلى أَنْ نقولَ : في محلِّ رفعٍ خبراً مقدماً ، ولكنه نَقَل نسبةَ الخبرية إلى " لكلِّ واحدٍ منهما " دونَ " لأبويه " . قال : " وقال بعضُهم " : " السدسُ " رفعٌ بالابتداء ، و " لكلِّ واحدٍ " الخبرُ ، و " لكلِّ " بدلٌ من الأبوين ، و " منهما " نعتٌ لواحد ، وهذا البدلُ هو بعضُ من كل ، ولذلك أتَى معه بالضمير ، ولا يُتَوَهَّمُ أنه بدلُ شيء من شيء وهما لعينٍ واحدة لجوازِ " أبواك يَصْنعان كذا " وامتناع " أبواكَ " كلُّ واحدٍ منهما يصنعان كذا " بل تقول : " يَصْنع " . انتهى .
والضميرُ في " لأبويه " عائدٌ على ما عادَ عليه الضمير في " ترك " ، وهو الميتُ المدلولُ عليه بقوةِ الكلام . والتثنية في " أبويه " من التغليب ، والأصلُ : لأبيه وأمه ، وإنما غَلَّب المذكرَ على المؤنث كقولهم : القَمَران والعُمَران وهي تثنيةٌ لا تنقاس .
قوله : " فلأِمه " قرأ الجمهور " فلإِمه " وقولُه : { فِي أُمِّ الْكِتَابِ }
[ الآية : 4 ] في سورةِ الزخرف ، وقولُه : { حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا }
[ الآية : 59 ] في القصص ، وقوله : { فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ }
في [ النحل : 78 ] و[ الزمر : 6 ] ، وقوله : { أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ الآية : 61 ] في النور ، و { فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ }
[ الآية : 32 ] في النجم ، بضم الهمزة من " أُمّ " وهو الأصلُ ، وقرأ حمزة والكسائي جميعَ ذلك بكسر الهمزة ، وانفرد حمزة بزيادةِ كسرِ الميم من " أمَّهات " في الأماكنِ المذكورةِ ، هذا كله في الدَّرْج . أمَّا في الابتداءِ بهمزةِ " الأم " و " الأمهات " فإنه لا خِلافَ في ضَمِّها .
وأمَّا وجهُ قراءةِ الجمهور فظاهرٌ لأنه الأصلُ كما تقدَّم . وأمَّا قراءةُ حمزة والكسائي بكسر الهمزة فقالوا : لمناسبةِ الكسرةِ أو الياء التي قبل الهمزة ، فكُسِرت الهمزةُ إتباعاً لِما قبلَها ، ولاستثقالهم الخروجَ من كَسْرٍ أو شبهه إلى ضم ، ولذلك إذا ابتدآ بالهمزةِ ضمَّاها لزوالِ الكسر أو الياء . وأمَّا كسرُ حمزةَ الميمَ من " أمهات " في المواضع المذكورة فللإِتباعِ ، أتبعَ حركةَ الميمِ لحركةِ الهمزةِ ، فكسرةُ الميمِ تَبَع التبعِ ، ولذلك إذا ابتدأ بها ضم الهمزة وفتح الميمَ لما تقدم من زوالِ موجب ذلك . وكسرُ همزة " أم " بعد الكسرة أو الياء حكاه سيبويه لغةً عن العرب ، ونَسَبها الكسائي والفراء إلى هوازن وهذيل .
قوله : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } " إخوة " أعَمُّ من أن يكونوا ذكوراً أو إناثاً أو بعضهم ذكوراً وبعضهم إناثاً ، ويكون هذا من باب التغليب . وزعم قوم أنَّ الإِخوةَ خاص بالذكور ، وأن الأخوات لا يَحْجُبْنَ الأم من الثلث إلى السدس ، قالوا : لأن إخوة جمع أخ ، والجمهورُ على أنَّ الإِخوة وإنْ كانوا بلفظِ الجمع يَقَعُون على الاثنين ، فيَحْجَبُ الأخوان أيضاً الأمَّ من الثلث إلى السدس ، خلافاً لابن عباس فإن لا يَحْجُب بهما والظاهر معه .
قوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها : أنه متعلق بما تقدَّمه من قسمةِ المواريث كلِّها لا بما يليه وحدَه ، كأنه قيل : قسمةٌ هذه الأنْصباء من بعد وصيةٍ ، قالَهَ الزمخشري ، يعني أنه متعلِّقٌ بقوله { يُوصِيكُمُ اللَّهُ } وما بعدَه . والثاني : ذكره الشيخ أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ أي : يَسْتَحِقُّون ذلك كما فُصِّل من بعد وصية . والثالث : أنه حال من السدس تقديرهستحِقاً من بعد وصية ، والعاملُ الظرفُ ، قاله أبو البقاء . وجَوَّزَ فيه وجهاً آخر قال : [ " ويجوز أن يكون ظرفاً ] أي : يتسقر لهم ذلك بعد إخراجِ الوصيةِ ، ولا بد من تقديرِ حذف المضاف ؛ لأنَّ الوصيةَ هنا المالُ الموصَى به ، وقد تكونُ الوصيةُ مصدراً مثلَ الفريضة " . وهذان الوجهان لا يَظْهَرُ لهما وجهٌ . وقوله : " والعامل الظرف يعني بالظرف الجارَّ والمجرور في قوله { فَلأُمِّهِ السُّدُسُ } فإنه شبيه بالظرفيةِ ، وعَمِل في الحال لِما تضمَّنه من الفعلِ لوقوعِه خبراً . و " يوصي " فعل مضارع المرادُ به المضمر أي : وصيةٍ أوصَى بها . و " بها " متعلقٌ به ، والجملةُ في محلِّ جرٍ صفةً ل " وصية " .
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر " يُوصَى " مبنياً للمفعول في الموضعين ، وافقهم حفص في الأخير ، والباقون مبنياً للفاعل ، وقُرىء شاذاً : " يُوَصَّى " بالتشديد مبنياً للمفعول ، ف " بها " في قراءةِ البناءِ للفاعل في محلِّ نصب ، وفي قراءة البناء للمفعول في محلِّ رفعٍ لقيامه مقامَ الفاعل .
قوله : { أَوْ دَيْنٍ } " أو " هنا لأحدِ الشيئين . قال أبو البقاء " ولا تَدُلُّ على ترتيبٍ ، إذ لا فرقَ بين قولك : " جاءني زيد أو عمرو " وبين قولك : " جاءني عمرو أو زيد " لأن " أو " لأحد الشيئين ، والواحدُ لا ترتيب فيه ، وبهذا يفسد قول من قال : " من بعد دَيْن أو وصية " ، إنما يقع الترتيبُ فيما إذا اجتمعا فَيُقَدَّم الدينُ على الوصية " .
وقال الزمخشري : " فإنْ قلت : فما معنى " أو " ؟ قلت : معناها الإِباحةُ ، وأنه إنْ كان أحدُهما أو كلاهما قُدَّم على قِسمة الميراثِ كقولك : " جالسِ [ الحسنَ ] أو ابنَ سيرين " ، فإنْ قلت : لِمَ قُدِّمَتِ الوصية على الدَّيْن ، والدَّيْن مُقَدَّم عليها في الشريعة ؟ قلت : لَمَّا كانت الوصية مُشْبِهةً للميراث في كونِها مأخوذةً من غيرِ عوض كان إخراجُها مِمَّا يَشُّقُّ على الورثةِ بخلافِ الدَّيْن فإنَّ نفوسَهم مطمئنةٌ إلى أدائه ، فلذلك قُدِّمت على الدَّيْن بعثاً على وجوبِها والمسارعةِ إلى إخراجها مع الدَّيْن ؛ لذلك جِيء بكلمةٍ " أو " للتسويةِ بينهما في الوجوب " .
قوله : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ } مبتدأٌ ، و " لا تَدْرُون " وما في حيِّزه في محلِّ الرفع خبراً له ، و " أيُّهم " فيه وجهان ، أشهرُهما عند المُعْرِبين أن يكونَ " أيُّهم " مبتدأ وهم أسمُ استفهامٍ ، و " أقربُ " خبرُه ، والجملة من هذا المبتدأ وخبرِه في محلِّ نصب ب " تَدْرون " لأنها من أفعالِ القلوبِ ، فعلَّقها اسمُ الاستفهامِ عن أَنْ تعملَ في لفظِه ؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يَعْمل فيه ما قبلَه في غيرِ الاستثبات .
والثاني : أنه يجوزُ أن تكونَ " أيُّهم " موصولةً بمعنى الذي ، و " أقربُ " : خبرٌ مبتدأٍ مضمر هو عائدٌ الموصولِ ، وجازَ حذفُه لأنه يجوز ذلك مع " أي " مطلقاً أي : أطالت الصلةُ أم لم تَطُلْ ، والتقديرُ : أيُّهم هو أقربُ ، وهذا الموصولُ وصلتُه في محلِّ نصب على أنه مفعول به ، نصبَه " تَدْرون " ، وإنما بُني لوجودِ شرطَي البناءِ : وهما أَنْ تُضاف " أي " لفظاً وأَنْ يُحْذَفَ صدرُ صلتِها ، وصارت هذه الآيةُ نظيرَ الآيةِ الأخرى وهي { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ } [ مريم : 69 ] فصارَ التقديرُ : لا تدرون الذي هو أقربُ . قال الشيخ : " ولم أرَهم ذكروه " يعني هذا الوجه . قلت : ولا مانعَ منه لا من جهةِ المعنى ولا من جهةِ الصناعةِ . فعلى القولِ الأولِ تكونُ الجملةُ سادَّةً مسدَّ المفعولين ، ولا حاجةَ إلى تقدير حذف ، وعلى الثاني يكونُ الموصولُ في محلِّ نصبٍ مفعولاً أولَ ، ويكون الثاني محذوفاً ، وبعدمِ الاحتياجِ إلى حَذْفِ المفعول الثاني يترجَّح الوجُه الأول .
ثم هذه الجملةُ أعني قولَه : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ } لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها جملة اعتراضية . قال الزمخشري : بعد أن حكى في معانيها أقوالاً اختار منها الأولَ " لأنَّ هذه الجملةَ اعتراضية ، ومن حقِّ الاعتراضِ أَنْ يؤكِّد ما اعتَرَض بينه وبين ما يناسِبُه " يعني بالاعتراض أنها واقعةٌ من قصة المواريث ، إلا أنَّ هذا الاعتراضَ غيرُ مرادِ النحويين ، لأنهم لا يَعْنُون بالاعتراضِ في اصطلاحهم إلاَّ ما كان بين شيئين متلازمين كالاعتراضِ بين المبتدأ وخبره ، والشرطِ وجزائه ، والقسمِ وجوابه ، والصلةِ وموصولها . ثم ذكر في معانيها أقوالاً أحدها : وهو الذي اختاره أَنْ جَعَلَها متعلقةً بالوصية فقال : " ثم أكَّد ذلك يعني الاهتمام بالوصية ورَغَّب فيه بقوله : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ } أي : لا تَدْرُون مَنْ أنفعُ لكم من آبائكم وأبنائِكم الذين يَمُوتون ، أَمَنْ أَوصى منهم أم من لم يوصِ ، يعني أنَّ مَنْ أوصى ببعضِ مالِه فعرَّضكم لثوابِ الآخرةِ بإمضاء وصيته فهو أقربُ لكم نفعاً وأحضَرُ جدوى ممَّن ترك الوصيَّة فوفَّر عليكم عَرَض الدنيا ، وجعل ثواب الآخرة أقربَ وأَحْضَرَ مِنْ عرض الدنيا ، ذهاباً إلى حقيقة الأمر ، لأن عَرَضَ الدنيا وإنْ كان قريباً عاجلاً في الصورة إلا أنه فانٍ ، فهو في الحقيقةِ الأبعدُ الأقصى ، وثوابُ الآخرة وإن كان آجلاً إلا أنه باق ، فهو في الحقيقةِ الأقربُ الأدنى " .
وانتصبَ " نفعاً " على التمييز من " أقرب " ، وهو منقول من الفاعلية ، واجبُ النصب ، لأنه متى وقع تمييزُ بعد أَفْعلِ التفضيل : فإنْ صَحَّ أَنْ يصاغَ منها فعلٌ مسندٌ إلى ذلك التمييز على جهة الفاعلية وجب النصب كهذه الآية ، إذ يصح أن يقال : أيُّهم قَرُبَ الكم نَفْعُه ، وإن لم يصِحَّ ذلك وجَبَ جَرُّه نحو : " زيد أحسنُ فقيه " بخلاف " زيد أحسنُ فقهاً " وهذه قاعدةٌ مفيدة . و " لكم " متعلق ب " أقرب " .
قوله : { فَرِيضَةً } فيها ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنها مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمون الجملة السابقة من الوصية ، لأنَّ معنى " يوصيكم " فرض الله عليكم ، فصار المعنى : " يوصيكم الله وصيةَ فرض " فهو مصدر على غير الصدر . والثاني : أنها مصدر منصوب بفعل محذوف من لفظها . قال أبو البقاء : و " فريضةً " صدر لفعل محذوف أي : فرض الله ذلك فريضة " والثالث : قاله مكي وغيره أنها حالٌ لأنها ليست مصدراً ، وكلامُ الزمخشري محتمل للوجهين الأَوَّلَيْن فإنه قال : " فريضة " نُصِبت نَصْبِ المصدر المؤكد ، أي : فرض ذلك فرضاً " .