نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا} (164)

ولما تم ما اقتضاه مقام النبوة ، وكان فيهم رسل ، وكان ربما قال متعنت : إن شأن الرسل غير شأن الأنيباء في الوحي ، قال عاطفاً على ما تقديره من معنى " أوحينا " : أرسلنا من شئنا{[23802]} من هؤلاء الذين قصصناهم عليك هنا إلى من شئنا{[23803]} من الناس : { ورسلاً } أي غير هؤلاء { قد قصصناهم } أي تلونا ذكرهم { عليك } ولما كان القص عليه غير مستغرق للزمان الماضي قال : { من قبل } أي من قبل إنزال هذه الآية { ورسلاً لم نقصصهم عليك } أي{[23804]} إلى الآن .

ولما كان المراد أنه لا فرق بين النبي والرسول في الوحي ، نبه على ذلك بقوله : { وكلم الله } أي الذي له الكمال كله ، فهو يفعل ما يريد ، لا أمر لأحد معه { موسى تكليماً * } أي على{[23805]} التدرج شيئاً فشيئاً بحسب المصالح من غير واسطة ملك ، فلا فرق في الوحي بين ما كان بواسطة وبين ما كان بلا واسطة ، والمعنى أنكم لو كنتم إنما تتوقفون{[23806]} عن الإيمان ببعض الأنبياء تثبتاً{[23807]} لتعلموا أنه فعل به ما فعل بموسى عليه الصلاة والسلام من الكرامة ، لم تؤمنوا بإبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط وهارون{[23808]} وغيرهم ، فإنه خص بالتكليم دونهم ، فلِمَ جعلتم الإتيان بمثل ما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام شرطاً في الإيمان ببعض الأنبياء دون بعض ؟ وإن جعلتم الشرط الإتيان بالكتاب جملة و{[23809]}من السماء مدعين أنه{[23810]} كان له ذلك دون التكليم وغيره مما جعل له ، كان {[23811]}ذلك - على{[23812]} تقدير التسليم تنزلاً - تحكماً وترجيحاً من غير مرجح ، على أن التوراة أيضاً - كما تقدم بيانه - كهذا القرآن في إنزالها منجمة على حسب الوقائع على ما أشار إليه قوله ( تكليماً ) ولم يكتب منها جملة إلا اللوحان اللذان{[23813]} وضعا في تابوت{[23814]} الشهادة كما أنزل بعض سور القرآن جملة كسورة الأنعام ، وليس في نزول موسى عليه الصلاة والسلام بهما من جبل الطور مكتوبَين دليل على نزولهما من السماء ، ويدل على ذلك كثير من نصوصها{[23815]} أصرحها أنه تعالى حرم عليهم العمل في السبت عقب إخراجهم من البحر عند إنزال المن - كما بين في السفر الثاني منهما - ولم يبين كيف يفعل بالعاصي فيه إلا بعد ذلك بدهر ، بدليل ما في السفر الرابع منها في قصة التيه : ومكث بنو إسرائيل في البرية و{[23816]}وجدوا رجلاً يحتطب حطباً يوم السبت ، فقدمه الذين وجدوه يحتطب إلى موسى وهارون وإلى الجماعة كلها ، وحبسوه في السجن ، لأنه لم يكن أوحى إلى موسى كيف يصنع به ؟ فقال الرب لموسى : يقتل هذا الرجل ، يرجم بالحجارة خارجاً من العسكر ، ورجمه الجماعة كلها بالحجارة ومات - كما أمر الرب موسى ؛ ومنها أنه أمرهم - كما بين في السفر الثاني - بنصب قبة الزمان التي كانوا يصلون إليها ، ويسمع موسى الكلام منها ، ثم بعد ذلك بمدة أمرهم - كما بين في السفر الرابع - بالزيادة فيها ؛ ومنها أنه كتب له الألواح{[23817]} في الطور : اللوحين اللذين{[23818]} كسرهما غضباً من اتخاذهم العجل ، ثم لوحين عوضاً عنهما ، ثم لما نصبت قبة الزمان صار سبحانه وتعالى يكلمه منها ، وغالب أحكامهم{[23819]} إنما شرعت بالكلام الذي كان في قبة الزمان - كما هو في غاية الوضوح في التوراة ؛ ومنها ما قال في أوخر السفر الخامس وهو آخرها : فلما أكمل موسى كتاب آيات هذه التوراة في السفر وفرغ منها ، أمر موسى الأحبار الذين يحملون تابوت عهد الرب وقال لهم : خذوا سفر هذه السنن{[23820]} واجعلوه في جوف تابوت عهد الله ربكم في جانب من جوانبه ، ليكون هناك شاهداً ، لأني{[23821]} قد عرفت جفاءكم وقساوة قلوبكم وما تصيرون{[23822]} إليه ، وكيف لا يكون{[23823]} ذلك وقد أغضبتم الرب وأنا حي معكم ؟ فمن بعد موتي أحرى أن تفعلوا ذلك ، فليجتمع إليّ أشياخ أسباطكم وكتّابكم فأتلو عليهم هذه الأقوال ، ولأشهد{[23824]} عليهم السماء والأرض ، لأنكم مفسدون{[23825]} من بعد وفاتي ، تحيدون{[23826]} عن الطريق الذي آمركم به ، شر شديد في آخر الأيام {[23827]}إذا عملتم{[23828]} السيئات{[23829]} بين يدي الرب ، وأغضبتموه بأعمال أيديكم ، وقال موسى بين يدي جماعة بني إسرائيل : انصتي أيتها السماء فأتكلم ، ولتسمع الأرض النطق من فيّ - وقال كلاماً كثيراً في ذمهم أذكره إن شاء الله تعالى في المائدة عند

من لعنه الله وغضب عليه{[23830]} }[ المائدة : 60 ] ثم قال{[23831]} : يقول الله : أسخطوني مع الغرباء بأوثانهم ، وأغضبوني حين ذبحوا للشياطين{[23832]} - ومضى يتكلم من كلام الله الذي هو من أحسن التوراة إلى أن قال : فلما أكمل موسى هذه الآيات كلها لبني إسرائيل قال لهم : أقبلوا{[23833]} بقلوبكم إلى هذه الأقوال ؛ ثم قال : وكلم الرب موسى ذلك اليوم وقال : اصعد إلى جبل العبرانيين ، هذا جبل نابو{[23834]} الذي في أرض مواب{[23835]} حيال إيريحا ، وانظر{[23836]} إلى أرض كنعان التي أعطى بني إسرائيل ميراثاً - وذكر بعد ذلك كلاماً طويلاً فيها كلها{[23837]} لمن يتأملها كثير مما هو ظاهر في ذلك ، بل صريح ، وفي قصة نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام ما هو صريح في أن الإيحاء إليهما كان منجماً - كما مضى عنهما في قصة إبراهيم عليه السلام في البقرة ، ويأتي إن شاء الله تعالى في ذكر الأحبار في الأعراف وفي قصة{[23838]} نوح عليه الصلاة والسلام في سورة هود - والله الموفق ، وقد ابتدأ سبحانه في هذه الآية بنوح عليه الصلاة والسلام أول أولي العزم و{[23839]}أصحاب الشرائع وجوداً ، وهو من أوائل{[23840]} الأنبياء ، وزمانه في القدم بحيث لا يعلم مقداره على الحقيقة إلا الله تعالى ، ثم ثنى بثانيهم في الوجود وهو{[23841]} إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ثم ذكر أولاده على ترتيبهم ، والأسباط يحتمل أن يراد بهم أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام أنفسهم وقبائلهم ، ويكون المعنى حينئذ : وأنبياء الأسباط ، ويكون مما استعمل في حقيقته ومجازه ، ويكون شاملاً لجميع{[23842]} أنبياء بني إسرائيل ، ثم صرح ببعض من دخل منهم في العموم فبدأهم{[23843]} بآخرهم بعثاً وهو عيسى عليه الصلاة والسلام الذي هو أحد نبي أهل الكتابين ، وختم الآية بأحد{[23844]} أصحاب الكتب منهم ، وهو جده المشهور بالنسبة إليه ، فإن اليهود يقولون لعيسى عليه الصلاة والسلام : يا ابن داود{[23845]} ! لأن أمه في ذريته ، وختم الآية بأول نبي أهل الكتابين موسى عليه الصلاة والسلام الذي {[23846]}آخر آجرّ تبنى{[23847]} على الإسلام ، فانتقله{[23848]} المنتمون إلى أتباعه ، ووسّط أخاه هارون عليه الصلاة والسلام بين اثنين من أهل البلاء : أيوب ويونس واثنين من أهل الملك - وأحدهم{[23849]} صاحب كتاب - وهما{[23850]} سليمان وداود ، وكل ذلك إشارة إلى أنه لا فرق في كيفية الإيحاء بحوما إلى الأنبياء بين متقدمهم ومتأخرهم ، سواء كان من بني إسرائيل أو من غيرهم ، وسواء منهم من أوتي الملك ومن لم يؤته ، ومن أتى{[23851]} بكتاب ومن لم يأت ؛ ومن لطائف هذا الترتيب أن المخصوصين بالذكر في الآية الأولى بعد دخولهم في العموم أحد عشر أسماء ، الأسباط أحدها ، والمشهور بالكتب والصحف منهم ثلاثة : إبراهيم وعيسى وداود ، وقد وقع كل منهم سادساً لصاحبه ، وهو العد{[23852]} الذي كان فيه الخلق ، فلعل ذلك إشارة إلى أن الله لا يحب العجلة ، فكما أنه لم يعجل في إنشاء الخلق ، فكذلك{[23853]} لم يعجل بإنزال الكتب التي بها قوامهم{[23854]} وبقاؤهم دفعة ، بل أنزلها منجمة تبعاً لمصالحهم وتثبيتاً لدعائمهم ، ومن لطائفه أنه تعالى بدأ المذكورين ، وختمهم باثنين من أولي العزم اشتركا في أن كلاً منهما أهلك من عانده كنفس واحدة بالإغراء ، ترهيباً لهؤلاء الملبسين على أهل الإسلام بالباطل المدعين{[23855]} أنهم أتباع ، ووسّط بينهم وبين بقية المسمين{[23856]} عموم النبيين والمرسلين ، ولعله آخر الرسل ليفهم {[23857]}أن كل{[23858]} من عطفوا عليه مرسل ، ولأن رتبة النبوة قبل رتبة الرسالة ، بمعنى أنها أعم منها .

ولما سرد{[23859]} أسماء من دخل في العموم بدأهم بأشرفهم ثم بالأقرب إلى هذا النبي الكريم فالأقرب من المرتبين{[23860]} على حسب ترتيب الوجود ، إشارة إلى أنه سن به في الوحي سنة آبائه{[23861]} وإخوانهم وذرياتهم - والله أعلم .


[23802]:من ظ ومد، وفي الأصل: شا.
[23803]:من ظ ومد، وفي الأصل: شا.
[23804]:سقط من ظ.
[23805]:زيد من ظ ومد.
[23806]:من ظ ومد، وفي الأصل: تتوفون.
[23807]:زيد من ظ ومد.
[23808]:سقط من ظ.
[23809]:زيد من ظ ومد.
[23810]:زيد بعده في ظ: لو.
[23811]:في ظ: على ذلك.
[23812]:في ظ: على ذلك.
[23813]:من ظ ومد، وفي الأصل: الذين.
[23814]:سقط من ظ.
[23815]:في ظ: خصوصها.
[23816]:زيدت الواو من ظ ومد.
[23817]:من ظ ومد، وفي الأصل: الألواح.
[23818]:في ظ: الذين.
[23819]:من ظ ومد، وفي الأصل: أحكامها.
[23820]:في ظ: السين.
[23821]:من ظ ومد، وفي الأصل: إلى ـ كذا.
[23822]:في ظ: تضرون.
[23823]:من ظ ومد، وفي الأصل: لا تكون.
[23824]:في ظ: لا سهل.
[23825]:من ظ ومد، وفي الأصل: مقيدون.
[23826]:من مد، وفي الأصل: يحيدون ، وفي ظ: عذرون ـ كذا.
[23827]:من مد، وفي الأصل: إذا علمتم، وسقط من ظ.
[23828]:من مد، وفي الأصل: إذا علمتم، وسقط من ظ.
[23829]:في ظ: للمساب.
[23830]:آية 60.
[23831]:من ظ ومد، وفي الأصل: قال ثم.
[23832]:من مد، وفي الأصل: للشيطان، وفي ظ: الشياطين.
[23833]:من ظ ومد، وفي الأصل: اقتلوا.
[23834]:من التوراة، وفي الأصل: بانوا، وفي ظ: نانو، ولا يتضح في مد.
[23835]:من ظ ومد، وفي الأصل: موات.
[23836]:في ظ: انظروا.
[23837]:سقط من ظ.
[23838]:زيد ما بين الحاجزين من ظ ومد.
[23839]:زيد ما بين الحاجزين من ظ ومد.
[23840]:في ظ ومد: أول.
[23841]:من ظ ومد، وفي الأصل: هم.
[23842]:من ظ ومد، وفي الأصل: يجمع ـ كذا.
[23843]:في ظ: فبداهم.
[23844]:من ظ ومد، وفي الأصل: بحسب ـ كذا.
[23845]:من ظ ومد، وفي الأصل: آدم.
[23846]:من ظ، وفي الأصل: به تبنى ، وفي مد: آخر تبنى ـ كذا.
[23847]:من ظ، وفي الأصل: به تبنى، وفي مد: آخر تبنى ـ كذا.
[23848]:من ظ، وفي الأصل: وانظر، ولا يتضح في مد.
[23849]:في ظ: آخرهم.
[23850]:من ظ ومد، وفي الأصل: هم.
[23851]:في ظ: أوتي.
[23852]:في ظ: الغد.
[23853]:في ظ: فلذلك.
[23854]:في ظ: أقوالهم.
[23855]:في ظ: المدعنين.
[23856]:في ظ: الملتبسين.
[23857]:من ظ ومد، وفي الأصل: إنه كلا.
[23858]:من ظ ومد، وفي الأصل: إنه كلا.
[23859]:من مد، وفي الأصل وظ: سره.
[23860]:من مد، وفي الأصل: المرسلين، وفي ظ: المرتبتين ـ كذا.
[23861]:من ظ ومد، وفي الأصل: آبايهم.