اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا} (164)

قوله : { وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ } كالأول . وقوله : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى } الجمهور على رفع الجلالة ، وهي واضحةٌ . و " تَكْلِيماً " مصدرٌ مؤكد رافعٌ للمجاز .

قال الفرَّاء{[10357]} : العَرَبُ [ تُسَمِّي ]{[10358]} ما يُوصَلُ إلى الإنْسَانِ كلاماً بأيِّ طَرِيقٍ وَصَلَ ولكِنْ لا تُحَقِّقُه بالمصْدَرِ ، فإذا حُقِّق بالمصْدَرِ ، لم يَكُنْ إلاَّ حَقِيقَةَ الكلامِ ؛ كالإرادَةِ ، يُقال : أراد فُلانٌ إرادَةً ، يريد : حَقيقةَ الإرَادَة .

قال القُرْطُبِي{[10359]} : " تَكْلِيماً " يقدر مَعْنَاه بالتَّأكِيدِ ، وهذا يَدُلُّ على بُطْلانِ قول من يقُولُ : خَلَق [ اللَّه ]{[10360]} لِنَفْسه كَلاَماً في شَجَرةٍ ، فَسَمِعَهُ مُوسَى - [ عليه السلام ]{[10361]} - ، بل هو الكلامُ الحقيقيُّ الذي يكُون به المُتَكَلِّم مُتَكَلِّماً .

قال النَّحَّاس{[10362]} : وأجمع النَّحوِيُّون على أنَّك إذا أكَّدْت الفِعْلَ بالمصْدَر ، لم يَكُنْ مجازاً ، وأنَّه لا يجُوزُ في قول الشاعر : [ الرجز ]

امْتَلأ الْحَوْضُ وقال قَطْنِي{[10363]} *** . . .

أن يقول : قال قولاً فكذا لمَّا قال : " تَكْلِيماً " وجَبَ أن يكُون كلاماً على الحَقِيقَةِ .

ومعنى الآية : أنَّ الله - تعالى - ذكر هَؤلاء الأنْبِيَاء والرُّسُل [ وخص مُوسَى ]{[10364]} بالتكْلِيم مَعَهُ ولم يَلْزَم مِنْ تَخْصِيصِ مُوسَى عليه السلام بهَذَا التَّشْرِيف ، الطَّعْن في نُبُوة الأنْبِيَاء - عليهم السلام - ، فكَذَلِك لا يلزم من إنْزَالُ التَّوْرَاة دفْعَةً واحِدَةً الطَّعْن فيمن أُنْزِل عليه الكِتَاب مُفَصَّلاً .

وقرأ إبْراهيم{[10365]} ويَحْيَى بن وَثَّاب : بنَصْبِ الجلالة .

وقال بعضُهُم : { وَكَلَّمَ اللَّهُ [ مُوسَى تَكْلِيماً ]{[10366]} } معناه : وجَرَحَ اللَّهُ مُوسَى بأظْفَار المحن ومَخَالِب الفَتن ، وهذا تَفْسِيرٌ بَاطِلٌ .

وقد جاء التأكيد بالمصدر في ترشيح المجاز ؛ كقول هند بنت النعمانِ بن بشير في زوْجِها رَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ وزيرِ عبد الملِكِ بْنِ مَرْوَانَ : [ الطويل ]

بَكَى الْخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وأنْكَرَ جِلْدَهُ *** وَعَجَّتْ عَجِيجاً مِنْ جُذَامَ المَطَارِفُ{[10367]}

تقول : إنَّ زوْجَها رَوْحاً قد بكَى ثيابُ الخَزِّ مِنْ لُبْسِهِ ؛ لأنه ليس من أهل الخَزِّ ، وكذلك صرخَتْ صُرَاخاً من جُذَام - وهي قبيلة رَوحٍ - ثيابُ المطارِفِ ، تعني : أنهم ليسوا من أهل تلك الثياب ، فقولها : " عَجَّتِ المَطَارِفُ " مجازٌ ؛ لأن الثياب لا تعجُّ ، ثم رَشحَتْهُ بقوله عَجِيجاً ، وقال ثَعْلَبٌ : لولا التأكيد بالمصدر ، لجاز أن يكونَ كما تقول : " كَلَّمْتُ لك فُلاناً " ، أي : أرسلْتُ إليه ، أو كتبتُ له رُقْعةً .


[10357]:ينظر: تفسير البغوي 1/500.
[10358]:سقط في أ.
[10359]:ينظر: تفسير القرطبي 6/13.
[10360]:سقط في أ.
[10361]:سقط في ب.
[10362]:ينظر: تفسير القرطبي 6/14.
[10363]:صدر بيت وعجزه: مهلا رويدا قد ملأت بطني *** ... ينظر إصلاح المنطق ص 57، 342 والإنصاف ص 130 وأمالي المرتضى 2/309 وتخليص الشواهد ص 111 وجواهر الأدب ص 151 والخصائص 1/23 ورصف المباني ص 362 وسمط اللآلئ ص 475 وشرح الأشموني 1/57 وشرح المفصل 1/82، 2/131، 3/125 واللسان (قطط) والمقاصد النحوية 1/361 ومجالس ثعلب ص 189.
[10364]:سقط في أ.
[10365]:ينظر: المحرر الوجيز 2/137، والبحر المحيط 3/414، والدر المصون 2/466.
[10366]:سقط في أ.
[10367]:تقدم.