( ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما164 ) .
( ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ) أي : في السور المكية ( ورسلا لم نقصصهم عليك ) أي : لم نسمهم لك في القرآن . وقد أحصى بعض المدققين أنبياء اليهود والنصارى ورسلهم فوجد عددهم لا يتجاوز الخمسين . روي في عدتهم أحاديث تكلم في أسانيدها . منها حديث أبي ذر : " إن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا . والرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر " . صححه ابن حبان . وخالفه ابن الجوزي فذكره في ( موضوعاته ) واتهم به إبراهيم بن هاشم . وقد تكلم فيه غير واحد ( وكلم الله موسى تكليما ) يعني خاطبه مخاطبة من غير واسطة . لأن تأكيد ( كلم ) بالمصدر يدل على تحقق الكلام . وأن موسى عليه السلام سمع كلام الله بلا شك . لأن أفعال المجاز لا تؤكد بالمصادر . فلا يقال : أراد الحائط يسقط إرادة . وهذا رد على من يقول : إن الله خلق كلاما في محل . فسمع موسى ذلك الكلام . قال الفراء : العرب تسمي كل ما يوصل إلى الإنسان كلاما ، بأي طريق وصل . لكن لا تحققه بالمصدر . وإذا حقق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام . فدل قوله تعالى : ( تكليما ) على أن موسى قد سمع كلام الله حقيقة من غير واسطة . قال بعضهم : كما أن الله تعالى خص موسى عليه السلام بالتكليم وشرفه به ولم يكن ذلك قادحا في نبوة غيره من الأنبياء ، فكذلك إنزال التوراة عليه جملة واحدة لم يكن قادحا في نبوة من أنزل عليه كتابه منجما من الأنبياء . كذا في ( اللباب ) .
يحسن في هذا المقام إيراد عقيدة السلف الكرام في مسألة الكلام . فإنها من أعظم مسائل الدين . وقد تحيرت فيها آراء أهل الأهواء من المتقدمين والمتأخرين . واضطربت فيها الأقوال . وكثرت بسببها الأهوال . وأثارت فتنا وجلبت محنا . وكم سجنت إماما . وبكت أقواما . وتشعبت فيها المذاهب . واختلفت فيها المشارب . ولم يثبت إلا قول أهل السنة والجماعة . المقتفين لأثر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم . فنقول : قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية عليه رحمة الرحيم السلام ، في كتابه إلى جماعة العارف عدي بن مسافر ما نصه :
ومن ذلك الاقتصاد في السنة وإتباعها كما جاءت بلا زيادة ولا نقصان . مثل الكلام في القرآن وسائر الصفات ، فإن مذهب سلف الأمة وأهل السنة : أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، منه بدا واليه يعود . هكذا قال غير واحد من السلف . روي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار وكان من التابعين الأعيان قال : ما زلت أسمع الناس يقولون ذلك . القرآن الذي أنزله الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم . وهو كلام الله لا كلام غيره . وان تلاه العباد وبلغوه بحركاتهم وأصواتهم . فإن الكلام لمن قاله مبتدئا ، لا لمن قاله مبلغا مؤديا . قال الله تعالى : ( وان أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) {[2617]} . وهذا القرآن في المصاحف . كما قال تعالى : ( بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ ) {[2618]} . وقال تعالى : ( يتلو صحفا مطهرة * فيها كتب قيمة ) {[2619]} . وقال : ( انه لقرآن كريم * في كتاب مكنون ) {[2620]} . والقرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه . كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله . وإعراب الحروف هو من تمام الحروف . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات " . وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما : " حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه " .
ثم قال رحمه الله : والتصديق بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أن الله يتكلم بصوت وينادي آدم عليه السلام بصوت ، إلى أمثال ذلك من الأحاديث . فهذه الجملة كان عليها سلف الأمة وأئمة السنة . وقال أئمة السنة : القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ، حيث تلي ، وحيث كتب . فلا يقال لتلاوة العبد بالقرآن إنها مخلوقة . لأن ذلك يدخل فيه القرآن المنزل . ولا يقال غير مخلوقة ، لأن ذلك يدخل فيه أفعال العباد . ولم يقل قط أحد من أئمة السلف : إن أصوات العباد بالقرآن قديمة . بل أنكروا على من قال : ( لفظ العبد بالقرآن غير مخلوق ) وأما من قال : إن المداد قديم – فهذا من أجهل الناس وأبعدهم عن السنة . قال الله تعالى : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ) {[2621]} . فأخبر أن المداد يكتب به كلماته . وكذلك من قال : ( ليس القرآن في المصحف . وإنما في المصحف مدادا وورق وحكاية وعبارة ) فهو مبتدع ضال . بل القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو ما بين الدفتين . والكلام في المصحف على الوجه الذي يعرفه الناس ، له خاصة يمتاز بها عن سائر الأشياء . وكذلك من زاد على السنة فقال : إن ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة ، فهو مبتدع ضال . كمن قال : إن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت – فانه أيضا مبتدع منكر للسنة . وكذلك من زاد وقال : إن المداد قديم – فهو ضال . كمن قال : ليس في المصاحف كلام الله . وأما من زاد على ذلك من الجهال الذين يقولون : إن الورق والجلد والوتد وقطعة من الحائط ، كلام الله فهو بمنزلة من يقول : ما تكلم الله بالقرآن ولا هو من كلامه . هذا الغلو من جانب الإثبات يقابل التكذيب من جانب النفي . وكلاهما خارج عن السنة والجماعة . وكذلك إفراد الكلام في النقطة والشكلة بدعة ، نفيا وإثباتا . وإنما حدثت هذه البدعة من مائة سنة أو أكثر بقليل . فإن من قال : إن المداد الذي تنقط به الحروف وتشكل به ، قديم – فهو ضال جاهل . ومن قال : إن إعراب حروف القرآن ليس من القرآن – فهو ضال مبتدع . بل الواجب أن يقال : هذا القرآن العربي هو كلام الله . وقد دخل في ذلك حروفه بإعرابها . كما دخلت معانيه . ويقال : وما بين اللوحين جميعه كلام الله . فإن كان المصحف منقوطا مشكولا أطلق على ما بين اللوحين جميعه انه كلام الله . وان كان غير منقوط ولا مشكول ، كالمصاحف القديمة التي كتبها الصحابة ، كان أيضا ما بين اللوحين هو كلام الله . فلا يجوز أن تلقى الفتنة بين المسلمين بأمر محدث ونزاع لفظي لا حقيقة له . ولا يجوز أن يحدث في الدين ما ليس منه .
وسئل رحمه الله تعالى عن رجلين تباحثا فقال أحدهما : القرآن حرف وصوت . وقال الأخر : ليس هو بحرف ولا صوت . وقال أحدهما : النقط التي في المصحف والشكل من القرآن . وقال الأخر : ليس ذلك من القرآن . فما الصواب في ذلك ؟
فأجاب رضي الله عنه : الحمد لله رب العالمين . هذه المسألة يتنازع فيها كثير من الناس . ويخلطون الحق بالباطل . فالذي قال : إن القرآن حرف وصوت ، إن أراد بذلك إن هذا القرآن الذي يقرأ للمسلمين هو كلام الله ، الذي نزل به الروح الأمين على محمد خاتم النبيين والمرسلين ، وأن جبرئيل سمعه من الله ، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبرئيل ، والمسلمون سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى : ( والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ) {[2622]} – فقد أصاب في ذلك . فإن هذا مذهب سلف الأمة وأئمتها . والدلائل على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع . ومن قال : إن القرآن العربي لم يتكلم الله به وإنما هو كلام جبرئيل أو غيره ، عبر به عن المعنى القائم بذات الله ، كما يقول ذلك ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما –فهو قول باطل من وجوه كثيرة . فإن هؤلاء يقولون : انه معنى واحد قائم بالذات . وان معنى التوراة والانجيل والقرآن واحد . وانه لا يتعدد ولا يتبعض . وانه إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا ، وبالعبرانية كان توراة . وبالسريانية كان انجيلا . فيجعلون معنى آية الكرسي ، وآية الدين ، و ( قل هو الله أحد ) ، و ( تبت يدا أبي لهب ) ، والتوراة والانجيل وغيرهما – معنى واحدا . وهذا قول فاسد بالعقل والشرع . وهو قول أحدثه ابن كلاب . لم يسبقه إليه غيره من السلف . وان أراد قائل بالحرف والصوت ، أن الأصوات المسموعة من القراء ، والمداد الذي في المصاحف قديم أزلي –أخطأ وابتدع . وقال ما يخالف العقل والشرع . فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال{[2623]} : " زينوا القرآن بأصواتكم " . فبين أن الصوت صوت القارئ . والكلام كلام الباري . كما قال تعالى : ( وان أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) {[2624]} . فالقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله لا كلام غيره . كما ذكر الله ذلك . وفي ( السنن ) {[2625]} عن جابر بن عبد الله : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على الناس في الموقف فقال : ألا رجل يحملني إلى قومه ؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي " . " قالوا لأبي بكر الصديق لما قرأ عليهم ( ألم غلبت الروم ) : هذا كلامك أم كلام صاحبك ؟ فقال : ليس بكلامي ولا كلام صاحبي . ولكنه كلام الله تعالى " .
والناس إذا بلغوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم {[2626]}كقوله : " إنما الأعمال بالنيات " –يعلمون أن الحديث الذي يسمعونه حديث النبي صلى الله عليه وسلم . تكلم به بصوته وبحروفه ومعانيه . والمحدث بلغه عنه بصوت نفسه لا بصوت النبي صلى الله عليه وسلم . فالقرآن أولى أن يكون كلام الله ، إذا بلغته الرسل عنه ، وقرأه الناس بأصواتهم . والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه . ونادى موسى بصوت نفسه . كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف . وصوت العبد ليس هو صوت الرب . ولا مثل صوته . فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله . وقد نص أئمة الإسلام ، أحمد ومن قبله من الأئمة على ما نطق به الكتاب والسنة : من أن الله ينادي بصوت . وان القرآن كلامه تكلم بحروف وصوت . ليس منه شيء كلاما لغيره . لا جبرئيل ولا غيره . وأن العباد يقولونه بأصوات أنفسهم وأفعالهم . فالصوت المسموع من العبد صوت القارئ . والكلام كلام الباري . وكثير من الخائضين في هذه المسألة لا يميز بين صوت العبد وصوت الرب . بل يجعل هذا هو هذا . فينفيهما جميعا . ويثبتها جميعا . فإذا نفى الحرف والصوت نفى أن يكون القرآن العربي كلام الله ، وأن يكون مناديا لعباده بصوته ، وأن يكون القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله . كما نفى أن يكون صوت العبد صفة لله . ثم جعل كلام الله المتنوع شيئا واحدا . لا فرق بين القديم والحادث . وهذا مصيب في هذا الفرق دون ذاك الثاني ، الذي فيه نوع من الإلحاد والتعطيل . حيث جعل كلام الله المتنوع شيئا واحدا لا حقيقة له عند التحقيق . وإذا أثبت ، جعل صوت الرب هو صوت العبد ، أو سكت عن التمييز بينهما ، مع قوله : إن الحروف متعاقبة في الوجود ، مقترنة في الذات ، قديمة أزلية الأعيان ، فجعل عين صفة الرب تحل في العبد ، ويتحد بصفته ، فقال في نوع من الحلول والاتحاد يفضي إلى نوع من التعطيل . وقد علم أن نفي الفرق والمباينة ، بين الخالق وصفاته ، والمخلوق وصفاته ، خطأ وضلال . لم يذهب إليه احد من سلف الأمة وأئمتها . بل هم متفقون على التمييز بين صوت الرب وصوت العبد . ومتفقون ان الله تكلم بالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . حروفه ومعانيه . وأنه ينادي عباده بصوته . ومتفقون على أن الأصوات المسموعة من القراء أصوات العباد . وعلى انه ليس بشيء من أصوات العباد ، ولا مداد المصاحف ، قديما . بل القرآن مكتوب في مصاحف المسلمين . مقروء بألسنتهم . محفوظ بقلوبهم . وهو كلام الله . والصحابة كتبوا المصاحف لما كتبوها بغير شكل ولا نقط . لأنهم كانوا عربا لا يلحنون . ثم لما حدث اللحن نقط الناس المصاحف وشكلوها . فإن كتبت بلا شكل ولا نقط جاز . وان كتبت بنقط وشكل جاز . ولم يكره ، في أظهر قولي العلماء . وهو إحدى الروايتين عن أحمد . وحكم النقط والشكل حكم الحروف فإن الشكل يبين إعراب القرآن ، كما يبين النقط الحروف . والمداد الذي يكتب به الحروف ويكتب به الشكل والنقط ، مخلوق . وكلام الله العربي الذي أنزله وكتب في المصاحف بالشكل والنقط ، وبغير شكل ونقط ، ليس مخلوق . وحكم الإعراب حكم الحروف . لكن الإعراب لا يستقل بنفسه . بل هو تابع للحروف المنقوطة . والشكل والنقط لا يستقل بنفسه . بل هو تابع للحروف . المرسومة . فلهذا لا يحتاج لتجريدها وإفرادها بالكلام . بل القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله : معانيه وحروفه وإعرابه . والله تكلم بالقرآن العربي الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم . والناس يقرؤونه بأفعالهم وأصواتهم ، والمكتوب في مصاحف المسلمين هو كلام الله . وهو القرآن العربي الذي أنزل على نبيه . سواء كتب بشكل ونقط ، أو بغير شكل ونقط . والمداد الذي كتب به القرآن ليس بقديم بل هو مخلوق . والقرآن الذي كتب في المصحف بالمداد هو كلام الله منزل ، غير مخلوق . والمصاحف يجب احترامها باتفاق المسلمين . لأن كلام الله مكتوب فيها . واحترام النقط والشكل ، إذا كتب المصحف مشكلا منقوطا باتفاق المسلمين . ولهذا قال أبو بكر وعمر : " حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه " . والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه . فجميعه كلام الله . فلا يقال : بعضه كلام الله وبعضه ليس بكلام الله . وهو سبحانه نادى موسى بصوت سمعه موسى . فإنه قد أخبر أنه نادى موسى في غير موضع من القرآن . كما قال تعالى : ( هل أتاك حديث موسى * إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ) {[2627]} . والنداء لا يكون إلا صوتا باتفاق أهل اللغة . وقد قال تعالى : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان * وآتينا داود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك * وكلم الله موسى تكليما ) {[2628]} . فقد فرق الله بين ايحائه إلى النبيين وبين تكليمه لموسى . فمن قال : إن موسى لم يسمع صوتا ، بل ألهم معناه – لم يفرق بين موسى وغيره . وقد قال تعالى : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض * منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ) {[2629]} ، وقال تعالى : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ) {[2630]} . فقد فرق بين الايحاء والتكلم من وراء حجاب . كما كلم الله موسى . فمن سوى بين هذا وهذا ، كان ضالا . وقد قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره : لم يزل الله متكلما إذا شاء . وهو يتكلم بمشيئته وقدرته . يتكلم بشيء بعد شيء . كما قال تعالى : ( فلما أتاها نودي يا موسى ) {[2631]} . فناداه حين أتاها ولم يناده قبل ذلك . وقال تعالى : ( فدلاهما بغرور * فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة * وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ) {[2632]} . فهو سبحانه ناداهما حين ذاقا الشجرة . ولم ينادهما قبل ذلك . وكذلك قال تعالى : ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) {[2633]} . بعد أن خلق آدم وصوره . ولم يأمرهم قبل ذلك . وكذا قوله : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم * خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) {[2634]} . فأخبر أنه قال له : ( كن فيكون ) . بعد أن خلقه من تراب . ومثل هذا الخبر في القرآن كثير . يخبر أنه تكلم في وقت معين . ونادى في وقت معين . وقد ثبت في ( الصحيحين ) {[2635]} عن النبي صلى الله عليه وسلم ، " أنه لما خرج إلى الصفا قرأ قوله تعالى : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) {[2636]} . قال : نبدأ بما بدأ الله به " . فأخبر أن الله بدأ بالصفا قبل المروة .
والسلف اتفقوا على أن كلام الله منزل غير مخلوق . منه بدأ واليه يعود . فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين . ثم قالت طائفة : هو معنى واحد . وهو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي والخبر بكل مخبر . إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا ، وان عبر عنه بالعبرانية كان توراة ، وان عبر عنه بالسريانية كان انجيلا . وهذا القول مخالف للشرع والعقل . وقالت طائفة : هو حروف وأصوات قديمة الأعيان ، لازمة لذات الله ، لم تزل لازمة لذاته . وأن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها إلى بعض معا . أزلا وأبدا . لم تزل ولا تزال . لم يسبق منها شيئا . وهذا أيضا مخالف للشرع والعقل . وقالت طائفة : إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته . وانه في الأزل كان متكلما بالنداء الذي سمعه موسى . وإنما تجدد استماع موسى . لا انه ناداه حين أتى الوادي المقدس . بل ناداه قبل ذلك بما لا يتناهى . ولكن تلك الساعة سمع النداء . وهؤلاء وافقوا الذين قالوا : إن القرآن مخلوق ، في أصل قولهم . فإن أصل قولهم : إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية . فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته . وقالوا : هذه حوادث . والرب لا تقوم به الحوادث . فخالفوا صحيح المنقول وصريح المعقول . واعتقدوا أنهم بهذا يردون على الفلاسفة ويثبتون حدوث العالم . وأخطأوا في ذلك . فلا للاسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا . وادعوا أن الرب لم يكن قادرا في الأزل على كلام يتكلم به ، ولا فعل يفعله . وأنه صار قادرا بعد أن لم يكن قادرا . بغير أمر حدث . أو يغيرون العبارة فيقولون : لم يزل قادرا . لكن يقولون : إن المقدور كان ممتنعا . وان الفعل صار ممكنا له ، بعد أن صار ممتنعا عليه . من غير تجدد شيء . وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا : كان قادرا في الأزل على ما يمكن ، فيما لا يزال على ما لا يمكن في الأزل . فيجمعون بين النقيضين . حيث يثبتونه قادرا في حال كون المقدور عليه ممتنعا عندهم . ولم يفرقوا بين نوع الكلام والفعل ، وبين عينه . كما لم يفرق الفلاسفة بين هذا وهذا . بل الفلاسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم بقدمه . فضلوا في ذلك وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول . فإن الأدلة لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم . بل تدل على أن ما سوى الله مخلوق حادث . بعد أن لم يكن . إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته . كما تدل على ذلك الدلائل القطعية ، والفاعل بمشيئته لا يكون شيء من مفعوله لازما ، بصريح العقل واتفاق عامة العقلاء . بل وكل فاعل لا يكون شيء من مفعوله لازما لذاته . ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين ، له . ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة . فكيف بالفاعل بالإرادة ؟ وما يذكر بأن المعلول يقارن علته ، إنما يصح فيما كان من العلل يجري مجرى الشروط . فإن الشرط لا يجب أن يتقدم على المشروط . بل قد يقارنه . كما تقارن الحياة العلم . وأما ما كان فاعلا . سواء سمي علة أو لم يسم ، فلا بد أن يتقدم على الفعل المعين . والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شيء من مفعولاته . ولا يعرف العقلاء فاعلا قط يلتزمه مفعول معين . وقول القائل ( حركت يدي فتحرك الخاتم ) هو من باب الشروط لا من باب الفاعلين . ولأنه لو كان العالم قديما لكان فاعله موجبا بذاته في الأزل . ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه . ولو كان كذلك لم يحدث شيئا من الحوادث . وهذا خلاف المشاهدة . وان كان هو سبحانه لم يزل قادرا على الكلام والفعل . بل لم يزل متكلما / إذا شاء ، فاعلا لما يشاء . ولم يزل موصوفا بصفات الكمال ، منعوتا بنعوت الجلال والإكرام . والعالم فيه من الإحكام والإتقان ما دل على علم الرب . وفيه من الاختصاص ما دل على مشيئته . وفيه من الإحسان ما دل على رحمته . وفيه من العواقب الحميدة ما دل على حكمته . وفيه من الحوادث ما دل على قدرة الرب تعالى . مع أن الرب مستحق لصفات الكمال لذاته ، فإنه مستحق لكل كمال ممكن للوجود . لا نقص فيه . منزه عن كل نقص . وهو سبحانه ليس له كفؤ في شيء من أموره . فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفصيل . منزه فيها عن التشبيه والتمثيل . ومنزه عن النقائص مطلقا . فإن وصفه بها من أعظم الأباطيل . وكماله من لوازم ذاته المقدسة . لا يستفيده من غيره . بل هو المنعم على خلقه بالخلق والإنشاء . وما جعله فيهم من صفات الأحياء . وخالق صفات الكمال أحق بها من لا كفؤ له فيها . وأصل اضطراب الناس في مسألة كلام الله ، أن الجهمية والمعتزلة ، لما ناظرت الفلاسفة في مسألة حدوث العالم ، اعتقدوا أن ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثا . بناء على أن ما لا يتناهى لا يمكن وجوده . والتزموا أن الرب كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام . بل كان ذلك ممتنعا عليه . وكان معطلا عن ذلك . وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادرا في الأزل على الفعل فيما لا يزال ، مع امتناع الفعل عليه في الأزل . فيجمعون بين النقيضين . حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته . إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له أولا . والأزل لا أول له . والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين . ولم يهتدوا إلى الفرق بين ما يستلزم الأولية والحدوث . وهو الفعل المعين والمفعول المعين . وبين ما لا يستلزم ذلك وهو نوع الفعل والكلام . بل هذا يكون دائما . وان كان كل من آحاده حادثا . كما يكون دائما في المستقبل ، وان كان كل من آحاده فانيا . بخلاف خالق يلزمه مخلوقه المعين دائما ، فإن هذا هو الباطل في صريح العقل وصحيح النقل . ولهذا اتفقت فطر العقلاء على إنكار ذلك . لم ينازع فيه إلا شرذمة من المتفلسفة . كابن سينا وأمثاله . الذين زعموا أن الممكن المفعول قد يكون قديما واجب الوجود بغيره . فخالفوا في ذلك جماهير العقلاء . مع مخالفتهم لسلفهم ، أرسطو وأتباعه ، فإنهم لم يكونوا يقولون ذلك . وان قالوا بقدم الأفلاك . وأرسطو أول من قال بقدمها من الفلاسفة المشائين . بناء على إثبات علة غاية لحركة الفلك . بتحرك الفلك للنسبة بها . لم يثبتوا له فاعلا مبتدعا . ولم يثبتوا ممكنا قديما واجبا بغيره . وهم ، وان كانوا أجهل بالله وأكفر من متأخريهم ، فهم يسلمون لجمهور العقلاء ، أن ما كان ممكنا بذاته فلا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم . فاحتاجوا أن يقولوا : كلامه مخلوق منفصل عنه . وطائفة وافقتهم على امتناع وجود ما لا نهاية له . لكن قالوا : تقوم به الأمور الاختيارية . فقالوا : انه في الأزل لم يكن متكلما ، بل ولا كان الكلام مقدورا له . ثم صار متكلما بلا حدوث حادث ، بكلام يقوم به . وهو قول الهاشمية والكرامية وغيرهم . وطائفة قالت : إذا كان القرآن غير مخلوق ، فلا يكون إلا قديم العين ، لازما لذات الرب . فلا يتكلم بمشيئته وقدرته . ثم منهم من قال : هو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض . ومنهم من قال : انه حروف وأصوات مقترنة لازمة للذات . وهؤلاء أيضا وافقوا الجهمية والمعتزلة في أصل قولهم أنه متكلم بكلام لا يقوم بنفسه ومشيئته وقدرته . وأنه لا تقوم به الأمور الاختيارية . وأنه لم يستو على عرشه بعد أن خلق السموات والأرض . ولن يأتي يوم القيامة . ولم يناد موسى حين ناداه . ولا تغضبه المعاصي ولا ترضيه الطاعات . ولا تفرحه توبة التائبين . وقالوا : في قوله{[2637]} : ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) ، ونحو ذلك ، أنه لا يراها إذا وجدت . بل إما أنه لم يزل رائيا لها . وإما أنه لم يتجدد شيء موجود ، بل تعلق معدوم . إلى أمثال هذه المقالات التي خالفوا فيها نصوص الكتاب والسنة . مع مخالفة صريح العقل . والذي ألجأهم لذلك ، موافقتهم للجهمية على أصل قولهم : في أنه سبحانه لا يقدر في الأزل على الفعل والكلام . وخالفوا السلف والأئمة في قولهم : لم يزل الله متكلما إذا شاء . ثم افترقوا أحزابا أربعة كما تقدم : الخلقية . والحدوثية . والاتحادية . والاقترانية . وشر من هؤلاء الصابئة والفلاسفة . الذين يقولون : إن الله لم يتكلم لا بكلام قائم بذاته ، ولا بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته . لا قديم النوع ولا قديم العين . ولا حادث ولا مخلوق . بل كلامه عندهم ما يفيض على نفوس الأنبياء . ويقولون : أنه كلم موسى من سماء عقله . وقد يقولون : انه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات . فإنه إنما يعلمها على وجه كلي . ويقولون ، مع ذلك : انه يعلم نفسه ويعلم ما يفعله . وقولهم : ( يعلم نفسه ومفعولاته ) حق ، كما قال تعالى : ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) {[2638]} . لكن قولهم ، مع ذلك ( انه لا يعلم الأعيان . المعينة ) جهل وتناقض . فإن نفسه المقدسة معينة . والأفلاك معينة . وكل موجود معين . فإن لم يعلم المعينات لم يعلم شيئا من الموجودات . إذ الكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان . فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات : تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا . وهم ، إنما ألجأهم إلى هذا الإلحاد فرارهم من تجدد الأحوال للباري تعالى . إن هؤلاء يقولون : إن الحوادث تقوم بالقديم . وان الحوادث لا أول لها . لكن نفوا ذلك عن الباري . لاعتقادهم أنه لا صفة له . بل هو موجود مطلق . وقالوا : إن العلم نفس عين العالم . والقدرة نفس عين القادر . والعلم والعالم شيء واحد . والمريد والإرادة شيء واحد . فجعلوا هذه الصفة هي الأخرى . وجعلوا الصفات هي الموصوف . ومنهم من يقول بل العلم كل المعلوم . كما يقوله الطوسي صاحب ( شرح الإشارات ) فإنه أنكر على ابن سينا إثباته لعلمه بنفسه وما يصدر عن نفسه . وابن سينا أقرب إلى الصواب . لكنه تناقض مع ذلك حيث نفى قيام الصفات به ، وجعل الصفة عين الموصوف ، وكل صفة هي الأخرى . ولهذا كان هؤلاء هم أوغل في الاتحاد والإلحاد ممن يقول : معاني الكلام شيء واحد . لكنهم / ألزموا قولهم لأولئك فقالوا : إذا جاز أن تكون المعاني المتعددة شيئا واحدا ، جاز أن يكون العلم هو القدرة ، والقدرة هي الإرادة . فاعترف حذاق أولئك بان هذا الإلزام لا جواب عنه . ثم قالوا : وإذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى ، جاز أن تكون الصفة هي الموصوف . فجاء ابن عربي وابن سبعين والقونوي ونحوهم ، فقالوا : إذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى والصفة هي الموصوف ، جاز أن يكون الموجود الواجب القديم الخالق ، هو الموجود الممكن المحدث المخلوق . فقالوا : إن وجود كل مخلوق هو عين وجود الخالق . وقالوا : الوجود واحد . ولم يفرقوا بين الواحد بالنوع والواحد بالعين . كما لم يفرق أولئك بين الكلام الواحد بالعين ، والكلام الواحد بالنوع . وكان منتهى أمر أهل الإلحاد في الكلام ، إلى هذا التعطيل والكفر والاتحاد . الذي قاله أهل الوحدة والحلول والاتحاد في الخالق والمخلوقات . كما أن الذين لم يفرقوا بين نوع الكلام وعينه ، وقالوا : هو يتكلم بحرف وصوت قديم ، قالوا : أولا انه لا يتكلم بمشيئته وقدرته ، ولا تسبق الباء السين ، بل لما نادى موسى فقال : ( إنني أنا الله لا اله إلا أنا فاعبدني * إني أنا الله رب العالمين ) ، كانت الهمزة والنون وما بينهما موجودا في الأزل ، يقارن بعضهما بعضا ، لم تزل لازمة لذات الله . ثم قال فريق منهم : إن ذلك القديم هو نفس الأصوات المسموعة من القراء . وقال بعضهم : بل المسموع صوتان : قديم ومحدث . وقال بعضهم : أشكال المداد قديمة أزلية . وقال بعضهم : محل المداد قديم أزلي . وحكي عن بعضهم أنه قال : المداد قديم أزلي . وأكثرهم يتكلمون بلفظ القديم ولا يفهمون معناه . بل منهم من يظن أنه قديم في علمه . ومنهم من يظن أن معناه متقدم على غيره منهم من يظن أن معنى اللفظ أنه غير مخلوق . ومنهم من لا يميز بين ما يقول . فصار هؤلاء حلولية اتحادية في الصفات . ومنهم من يقول بالحلول والاتحاد في الذات والصفات . وكان منتهى أمر هؤلاء وهؤلاء إلى التعطيل . والصواب في هذا الباب وغيره ، مذهب سلف الأمة وأئمتها : أنه سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء . وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته . وأن كلماته لا نهاية لها . وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى . وإنما ناداه حين أتى . لم يناده قبل ذلك . وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد ، كما أن علمه لا يماثل علمهم . وقدرته لا تماثل قدرتهم . وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته . ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته . ولا في ذاته شيء من مخلوقاته . وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد الذين عطلوا الذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال – باطلة . وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات والصفات – باطلة . وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع . وقد بسطناها في ( الواجب الكبير ) . والله أعلم بالصواب . ( وقال تقي الدين أيضا في مقالة له في هذا البحث ) : أول من اظهر إنكار التكليم والمخالة الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية . وأمر علماء الإسلام ، كالحسن البصري وغيره ، بقتله . فضحى به خالد بن عبد الله القسري ، أمير العراق بواسط . فقال : أيها الناس ضحوا . تقبل الله ضحاياكم . فاني مضح بالجعد بن درهم . انه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا . ولم يكلم موسى تكليما . تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا .
ثم نزل فذبحه . وأخذ ذلك عنه الجهم بن صفوان . فأنكر أن يكون الله يتكلم . ثم نافق المسلمين فأقر بلفظ الكلام وقال : كلامه يخلق في محل كالهواء وورق الشجر . ودخل بعض أهل الكلام أو الجدل ، من المنتسبين إلى الإسلام ، من المعتزلة ونحوهم ، في بعض مقالة الصابئة والمشركين . متابعة للجعد والجهم . وكان مبدأ ذلك أن الصابئة في الخلق على قولين : منهم من يقول : إن السماوات مخلوقة بعد أن لم تكن . كما أخبرت بذلك الرسل وكتب الله تعالى . ومنهم من ابتدع فقال : بل هي قديمة أزلية . لم تزل موجودة بوجود الأول واجب الوجود بنفسه . ومنهم من قد ينكر الصانع بالكلية . ولهم مقالات كثيرة الاضطراب ، في الخلق والبعث والمبدأ والمعاد . لأنهم لم يكونوا معتصمين بحبل من الله تعالى يجمعهم . والظنون لا تجمع الناس في مثل هذه الأمور . التي تعجز الآراء عن درك حقائقها إلا بوحي من الله تعالى . وهم إنما يناظر بعضهم بعضا بالقياس المأخوذ مقدماته من الأمور الطبيعية السفلية . وقوى الطبائع الموجودة في التراب والماء والهواء والحيوان والمعدن والنبات . ويريدون بهذه المقدمات السفلية أن ينالوا معرفة الله ، وعلم ما فوق السموات . وأول الأمر وآخره . وهذا غلط بين . اعترف أساطينهم بأن هذا غير ممكن . وأنهم لا سبيل لهم إلى إدراك اليقين . وأنهم إن يتبعون إلا الظن . فلما كان حال هذه الصابئة المبتدعة الضالة ومن أضلوه من اليهود والنصارى ، وكان قد اتصل كلامهم ببعض من لم يهتد بهدى الله الذي بعث به رسله ، من أهل الكلام والجدل – صاروا يريدون أن يأخذوا مآخذهم . كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله{[2639]} : " لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع . قالوا : يا رسول الله ! فارس والروم ؟ قال : ومن الناس إلا فارس والروم ؟ " فاحتجوا على حدوث العالم بنحو من مسالك هذه الصابئة . وهو الكلام في الأجسام والأعراض . بأن تثبت الأعراض ثم يثبت لزومها للأجسام . ثم حدوثها . ثم يقال : ما لا يسبق الحوادث فهو حادث . واعتمد كثير من أهل الجدل على هذا في إثبات حدوث العالم . فلما رأوا أن الأعراض ، التي هي الصفات ، تدل عندهم على حدوث الموصوف الحامل للأعراض – التزموا نفيها عن الله . لأن ثبوتها مستلزم حدوثه . وبطلان دليل على حدوث العالم الذي اعتقدوا أن لا دليل سواه . بل ربما اعتقدوا أنه لا يصح إيمان أحد إلا به معلوم بالاضطرار من دين الاسلام . وهؤلاء يخالفون الصابئة الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالم وبأن النبوة كمال يفيض على نفس النبي . لأن هؤلاء المتكلمين أكثر حقا واتبع للأدلة العقلية والسمعية ، لما تنورت به قلوبهم من نور الإسلام والقرآن . وان كانوا قد ضلوا في كثير مما جاء به الرسل . لكن هم خير من أولئك من وجوه أخرى وافقوا فيها . فوافقوا أولئك على أن الله لم يتكلم . كما وافقوهم على أنه لا علم له ولا قدرة ولا صفة من الصفات . ورأوا أن إثباته متكلما يقتضي أن يكون جسما . والجسم حادث . لأنه من الصفات الدالة على حدوث الموصوف . بل هو عندهم أدل على حدوث المتكلم من غيره . لأنه يفتقر من المخارج إلى ما لا يفتقر إليه غيره . ولأن فيه من الترتيب والتقديم والتأخير ما ليس في غيره . ولما رأوا أن الرسل اتفقت على أنه متكلم ، والقرآن مملوء من إثبات ذلك – صاروا تارة يقولون : متكلم مجازا لا حقيقة . وهذا قولهم الأول لما كانوا في بدعتهم على الفطرة . قبل أن يدخلوا في المعاندة والجحود . ثم إنهم رأوا هذا شنيعا فقالوا : بل هو متكلم حقيقة . وربما حكى بعض متكلميهم الإجماع . وليس عندهم كذلك . بل حقيقة قولهم وأصله ، عند من عرفه وابتدعه : إن الله ليس بمتكلم . وقالوا : المتكلم من فعل الكلام ، ولو في محل منفصل عنه . ففسروا المتكلم في اللغة بمعنى لا يعرف في لغة العرب ولا غيرهم ، لا حقيقة ولا مجازا . وهذا قول من يقول : القرآن مخلوق . وهو احد قولي الصابئة الذين يوافقون الرسل في حدوث العالم . وهو وان كفر بما جاءت به الرسل ، فليس هو في الكفر مثل القول الأول . لأن هؤلاء لا يقولون : إن الله أراد أن يبعث رسولا معينا ، وأن ينزل عليه هذا الكلام الذي خلقه . وأنكروا أن يكون متكلما على الوجه الذي دلت عليه الكتب الإلهية ، واتفقت عليه أهل الفطرة السليمة . نشأ بين هؤلاء الذين هم فروع الصابئة ، وبين المؤمنين أتباع الرسل ، الخلاف . فكفر هؤلاء ببعض ما جاءت به الرسل من وصف الله بالكلام والتكليم . واختلفوا في كتاب الله فآمنوا ببعض وكفروا ببعض . واتبع المؤمنون ما أنزل إليهم من ربهم من أن الله تكلم بالقرآن . وأنه / كلم موسى تكليما . وأنه يتكلم . ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه كما فعل الأولون . بل ردوا تحريف أولئك ببصائر الإيمان ، الذي علموا به مراد الرسل من أخبارهم برسالة الله وكلامه . وتبعوا هذا القرآن والحديث وإجماع السلف من الصحابة والتابعين وسائر أتباع الأنبياء . وعلموا أن قول هؤلاء أخبث من قول اليهود والنصارى . حتى كان ابن المبارك إمام المسلمين يقول : إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ، ولا نستطيع ان نحكي كلام الجهمية . وكان قد كثر ظهور هؤلاء ، الذين هم فروع المشركين ، ومن اتبعهم ، من مبدلة الصابئين ثم مبدلة اليهود والنصارى في أوائل المائة الثانية وأوائل الثالثة ، في إمارة أبي العباس الملقب بالمأمون ، بسبب تعريب كتب الروم المشركين الصابئين . الذين كانوا قبل النصارى ، ومن أشبههم من فارس والهند . وظهرت علوم الصابئين المنجمين ونحوهم . وقد تقدم أن أهل الكلام المبتدع في الإسلام هم من فروع الصابئين . كما يقال : المعتزلة مخانيث الفلاسفة . فظهرت هذه المقالة في أهل العلم والكلام . وفي أهل السيف والإمارة . وصار في أهلها من الخلفاء والأمراء والوزراء والقضاة والفقهاء ، ما امتحنوا به المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات . الذين اتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم . ولم يبدلوا ويبتدعوا . وذلك لقصور وتفريط من أكثرهم ، في معرفة حقيقة ما جاء به الرسول وأتباعه .
فجاء قوم من متكلمي الصفاتية الذين نصروا أن الله له علم وقدرة وبصر وحياة ، بالمقاييس العقلية المطابقة للنصوص النبوية . وفرقوا بين الصفات القائمة بالجواهر فجعلوها أعراضا ، وبين الصفات القائمة بالرب فلم يسموها أعراضا . لأن العرض ما لا يدوم وما لا يبقى . أو ما يقوم بمتحيز أو جسم . وصفات الرب لازمة دائمة ليست من جنس الأعراض القائمة بالأجسام . وهؤلاء أهل الكلام القياسي من الصفاتية ، فارقوا أولئك المبتدعة المعطلة الصابئة في كثير من أمورهم . وأثبتوا الصفات التي قد يستدل بالقياس العقلي عليها . كالصفات السبع . وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام . ولهم نزاع في السمع والبصر والكلام . هل هو من الصفات العقلية أو الصفات النبوية الخبرية السمعية ؟ ولهم اختلاف في البقاء والقدم . وفي الإدراك الذي هو إدراك المشمومات والمذوقات والملموسات . ولهم أيضا اختلاف في الصفات السمعية القرآنية الخبرية . كالوجه واليد . فأكثر مقدميهم أو كلهم يثبتها . وكثير من متأخريهم لا يثبتها . وأما ما لا يرد إلا في الحديث فأكثرهم لا يثبتها . ثم منهم من يصرف النصوص عن دلالتها لأجل ما عارضها من القياس العقلي عنده . ومنهم من يفوض معناها . وليس الغرض هنا تفصيل مقالات الناس فيما يتعلق بسائر الصفات . وإنما المقصود القول في رسالة الله وكلامه الذي بلغته رسله . فكان هؤلاء ، بينهم وبين أهل الوراثة النبوية ، قدر مشترك بما ملكوه من الطرق الصابئة في أمر الخالق وأسمائه وصفاته . فصار في مذهبهم في الرسالة تركيب من الوراثتين . لبسوا حق ورثة الأنبياء بباطل ورثة أتباع الصابئة . كما كان في مذهب أهل الكلام المحض المبتدع كالمعتزلة ، تركيب . بين الأثارة النبوية وبين الأثارة الصابئة . لكن أولئك أشد اتباعا للآثار النبوية ، واقرب إلى مذاهب أهل السنة ، من المعتزلة ونحوهم ، من وجوه كثيرة . ولهذا وافقهم في بعض ما ابتدعوه كثير من أهل الفقه والحديث والتصوف ، لوجوه :
أحدها : كثرة الحق الذي يقولونه وظهور الأثارة النبوية عندهم .
الثاني : لبسهم ذلك بمقاييس عقلية بعضها موروث عن الصابئة وبعضها مما ابتدع في الإسلام ، واستيلاء ما في ذلك من الشبهات عليهم . وظنهم أنه لم يكن التمسك بالأثارة النبوية من أهل العقل والعلم إلا على هذا الوجه .
الثالث : ضعف الأثارة النبوية الدافعة لهذه الشبهات والموضحة لسبيل الهدى عندهم .
الرابع : العجز والتفريط الواقع في المنتسبين إلى السنة والحديث . تارة يرون ما يعلمون صحته . وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور . فلما كان هذا منهاجهم ، وقالوا : إن القرآن غير مخلوق ، لما دل على ذلك من النصوص وإجماع / السلف . ولما رأوا أنه مستقيم على الأصل الذي قرروه في الصفات ، ورأوا أن التوفيق بين النصوص النبوية السمعية ، وبين القياس العقلي ، لا يستقيم إلا أن يجعلوا القرآن معنى قائما بنفس الله تعالى كسائر الصفات . كما جعله الأولون من باب المصنوعات المخلوقات ، لا قديما كسائر الصفات . ورأوا أنه ليس إلا مخلوقا أو قديما ، فإن إثبات قسم ثالث قائم بالله يقتضي حلول الحوادث بذاته ، وهو دليل على حدوث الموصوف ، ويبطل لدلالة حدوث العالم ، ثم رأوا انه لا يجوز أن يكون معاني كثيرة ، بل إما معنى واحدا عند طائفة ، أو معاني أربعة عند طائفة ، والتزموا على هذا أن حقيقة الكلام هي المعنى القائم بالنفس ، وأن الحروف والأصوات ليست من حقيقة الكلام ، بل دالة عليه . فتسمى باسمه إما مجازا عند طائفة أو حقيقة بطريق الاشتراك عند طائفة . وإما مجازا في كلام الله ، حقيقة في غيره عند طائفة . وخالفهم الأولون وبعض من يستنن أيضا ، وقالوا : لا حقيقة للكلام إلا الحروف والأصوات ، وليس وراء ذلك معنى إلا العلم ونوعه ، أو الإرادة ونوعها . فصار النزاع بين الطائفتين . وادعى هؤلاء أن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام اضافية . ليست أنواعا له وأقساما . وأن كلام الله معنى واحد . إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن . وبالعبرية فهو توراة . وبالسريانية فهو انجيل . وقال لهم أكثر الناس : هذا معلوم الفساد بالضرورة . كما قال الأولون : انه خلق الكلام في الهواء فصار متكلما به . وان المتكلم من احدث الكلام ولو في ذات غير ذاته . وقال لهم أكثر الناس : إن هذا معلوم الفساد بالضرورة . وقال الجمهور من جميع الطوائف : إن الكلام اسم للفظ والمعنى جميعا . كما أن الإنسان المتكلم اسم للروح والجسم جميعا . وانه إذا أطلق على أحدهما فبقرينة . وان معاني الكلام متنوعة ليست منحصرة في العلم والإرادة . ، كتنوع ألفاظه . وان كانت المعاني أقرب إلى الاتحاد والاجتماع . والألفاظ أقرب إلى التعدد والتفرق . والتزم هؤلاء أن حروف القرآن مخلوقة . وان لم يكن عندهم المعنى الذي هو كلام الله مخلوقا . وفرقوا بين كتاب الله وكلامه . فقالوا : كتاب الله هو الحروف وهو مخلوق . وكلام الله هو معناها غير مخلوق . وهؤلاء والأولون متفقون على خلق القرآن الذي قال الأولون : انه مخلوق . واختلف هؤلاء أين خلقت هذه الحروف ؟ هل خلقت في الهواء أو في نفس جبرئيل أو أن جبرئيل هو الذي أحدثها أو محمد ؟ وأما جمهور الأمة وأهل الحديث والفقه والتصوف فعلى ما جاءت به الرسل وما جاء عنهم من الكتب والأثارة من العلم . وهم المتبعون للرسالة إتباعا محضا . لم يشوبوه بما يخالفه من مقالة الصابئين . وهو أن القرآن كله كلام الله . لا يجعلون بعضه كلام الله وبعضه ليس كلام الله . والقرآن هو القرآن الذي يعلم المسلمون أنه القرآن . حروفه ومعانيه . والأمر والنهي . هو اللفظ والمعنى جميعا . ولهذا كان الفقهاء المصنفون في أصول الفقه من جميع الطوائف : الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية ، إذا لم يخرجوا عن مذاهب الأئمة والفقهاء ، إذا تكلموا في الأمر والنهي ، ذكروا ذلك ، وخالفوا من قال : إن الأمر هو المعنى المجرد . ويعلمون أهل الأثارة النبوة أهل السنة والحديث وعامة المسلمين الذين هم جماهير أهل القبلة ، أن قوله تعالى : ( ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه ) {[2640]} . ونحو ذلك هو كلام الله لا كلام غيره . وكلام الله هو ما تكلم به ، لا ما خلقه في غيره ولم يتكلم هو به .
( وسئل تقي الدين أيضا ) ما تقول السادة العلماء الجهابذة أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين ، فيمن يقول : الكلام غير المتكلم والقول غير القائل . والقرآن والمقروء والقارئ كل واحد منها له معنى . بينوا لنا ذلك بيانا شافيا ليصل إلى ذهن الحاذق والبليد . أثابكم الله بمنه .
( فأجاب رحمه الله ) : الحمد لله . من قال : إن الكلام غير المتكلم ، والقول غير القائل ، وأراد أنه مبائن له ومنفصل عنه ، فهذا خطأ وضلال . وهو من يقول : إن القرآن مخلوق . فإنهم يزعمون أن الله لا تقوم به صفة من الصفات لا القرآن ولا غيره . ويهمون الناس بقولهم : العلم غير العالم ، والقدرة غير القادر ، والكلام غير المتكلم . ثم يقولون : وما كان غير الله فهو مخلوق . وهذا تلبيس منهم . فإن لفظ ( الغير ) يراد به ما يجوز مبائنته للآخر ومفارقته له . وعلى هذا فلا يجوز أن يقال : علم الله غيره ولا كلامه غيره . ولا يقال : إن الواحد من العشرة غيرها . وأمثال ذلك . وقد يقال بلفظ ( الغير ) ما ليس هو الآخر . وعلى هذا فتكون الصفة غير الموصوف . ولكن على هذا المعنى ، لا يكون ما هو غير ذات الله الموصوفة بصفاته – مخلوقا . لأن صفاته ليست هي الذات . لكن قائمة بالذات . والله سبحانه وتعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات كماله . وليس الاسم اسما لذات لا صفات لها . بل يمتنع وجود ذات لا صفات لها . والصواب في مثل هذا أن يقال : الكلام صفة المتكلم . والقول صفة القائل . وكلام الله ليس مبائنا منه . بل أسمعه لجبرئيل ونزله به على محمد صلى الله عليه وسلم . كما قال تعالى : ( والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ) . ولا يجوز أن يقال : إن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره . بل يقال كما قال السلف : انه كلام الله غير مخلوق . منه بدا واليه يعود . فقولهم : ( منه بدا ) رد على من قال : ( انه مخلوق في بعض الأجسام ، ومن ذلك المخلوق ابتدأ ) فبينوا أنه الله هو المتكلم به . ومنه بدا ، لا من بعض المخلوقات . ( واليه يعود ) أي : فلا يبقى في الصدور منه آية ، ولا في المصاحف حرف . وأما القرآن فهو كلام الله . فمن قال : ان القرآن ، الذي هو كلام الله ، غير الله – فخطؤه كخطأ من قال : ان الكلام غير المتكلم . وكذلك من قال : ان الله له مقروء غير القرآن الذي تكلم به ، فخطؤه ظاهر . وكذلك : أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون غير المقروء الذي يقرؤه المسلمون – فقد أخطأ . وان أراد بالقرآن مصدر ( قرأ يقرأ قراءة وقرآنا ) وقال : أردت القراءة غير المقروء ، فلفظ القراءة مجمل قد يراد بالقراءة القرآن ، وقد يراد بالقراءة المصدر ، فمن جعل القراءة التي هي المصدر ، قال : القارئ غير المقروء . كما يجعل التكلم الذي فعله غير الكلام الذي هو يقول ، وأراد ب ( الغير ) أنه ليس هو إياه ( فقد صدق . فإن الكلام الذي يتكلم به الإنسان يتضمن فعلا كالحركة ، ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف والمعاني . ولهذا يجعل القول قسيما للفعل تارة ، وقسيما منه أخرى . فالأول كما يقال : الإيمان قول وعمل . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم{[2641]} : إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم " . ومنه قوله تعالى : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) {[2642]} . ومنه قوله تعالى : ( وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل ) {[2643]} . وأمثال ذلك فيما يفرق فيه بين القول والعمل . وأما دخول القول في العمل ففي مثل قوله تعالى : ( فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون ) {[2644]} . وقد فسروه بقوله : لا اله إلا الله . ولما سئل :{[2645]} " أي الأعمال أفضل ؟ قال : الإيمان بالله " . مع قوله{[2646]} : " الإيمان بضع وسبعون . والحياء شعبة من الإيمان . أفضلها وأعلاها قول : لا اله إلا الله " . وأدناها إماطة الأذى عن الطريق . ونظائر ذلك متعددة . وقد تنوزع فيمن حلف لا يعمل عملا ، إذا قال قولا كالقراءة ، هل يحنث ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره . بناء على هذا . فهذه الألفاظ التي فيها إجمال واشتباه إذا فصلت معانيها ، وإلا وقع فيها نزاع واضطراب ، والله سبحانه وتعالى أعلم . انتهى كلام تقي الدين رحمه الله تعالى .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب ( الرد على الجهمية ) : سألت أبي عن قوم يقولون ( لما كلم الله موسى ) : لم يتكلم بصوت . فقال أبي : بلى . تكلم جل ثناؤه بصوت . هذه الأحاديث نرويها كما جاءت . وقال أبي : حديث ابن مسعود{[2647]} : " إذا تكلم الله تعالى سمع له صوت كمر السلسلة على الصفوان " . قال : وهذه الجهمية تنكره . وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس . ثم قال : حدثنا المحاربي عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبيد الله قال : " إذا تكلم الله تبارك وتعالى بالوحي ، سمع صوته أهل السماء فيخرون سجدا " .
وقال السفاريني في ( شرح العقيدة ) : روي في إثبات الحرف والصوت أحاديث تزيد على أربعين حديثا . وأخرج الإمام أحمد غالبها ، واحتج به . وأخرج الحافظ ابن حجر أيضا في ( شرح البخاري ) واحتج بها البخاري وغيره من أئمة الحديث . " على أن الحق سبحانه يتكلم بحرف وصوت " . وقد صححوا هذا الأصل واعتقدوه ، واعتمدوا على ذلك ، منزهين الله تعالى عما لا يليق بجلاله . من شبهات الحدوث وسمات النقص . كما قالوا في سائر الصفات ، معتمدين على ما صح عندهم من صاحب الشريعة المعصوم في أقواله وأفعاله ، الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله تعالى عليه وسلم .
وقال الإمام الواسطي ابن شيخ الحرمين الشافعي في ( عقيدته ) : إنني كنت برهة من الدهر متحيرا في ثلاث مسائل : مسألة الصفات ، ومسألة الفوقية ، ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد . وكنت متحيرا في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك . من تأويل الصفات وتحريفها ، أو إمرارها والوقوف فيها . أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ، ولا تشبيه ولا تمثيل . فأجد النصوص في كتاب الله وسنة رسوله ناطقة مبينة لحقائق هذه الصفات . وكذلك في إثبات العلو والفوقية ، وكذلك في الحرف والصوت . ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم ، منهم من تأول الاستواء بالقهر والاستيلاء . وتأول النزول بنزول الأمر . وتأول اليدين بالنعمتين والقدرتين . وتأول القدم بقدم صدق عند ربهم . وأمثال ذلك . ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله معنى قائما بالذات ، بلا حرف ولا صوت ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم . وممن ذهب إلى هذه الأقوال أو بعضها قوم لهم في صدري منزلة . مثل فقهاء الأشعرية الشافعيين . لأني على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى ، عرفت فرائض ديني وأحكامه . فأجد مثل هؤلاء الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال . وهم شيوخي . ولي فيهم الاعتقاد التام . لعلمهم وفضلهم . ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها . واجد الكدر والظلمة منها . وأجد ضيق الصدر وعدم انشراحه مقرونا بها . فكنت كالمتحير . المضطرب في تحيره . المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره . وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول ، مخافة الحصر والتشبيه . ومع ذلك ، فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله أجدها نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني . وأجد الرسول الله صلى الله عليه وسلم قد صرح بها مخبرا عن ربه ، واصفا له بها . ثم لا أجد شيئا يعقب تلك النصوص ويؤولها كما تأولها هؤلاء الفقهاء المتكلمون . ثم قال : والذين أولوا ما أولوا ، هو انهم ما فهموا في صفات الرب إلا ما يليق بالمخلوقين . فلذلك حرفوا الكلم عن مواضعه ، وعطلوا ما وصف الحق به نفسه . ولو علموا أن هذه الصفات هي كلها ثابتة له ، كما يليق بجلاله وعظمته ، لا على ما نعقل من صفات المخلوقين ، لسلموا من التشبيه والتأويل المؤدي إلى التعطيل .
ثم قال : ومسألة الحرف والصوت تساق هذا المساق . فإن الله تعالى قد تكلم بالقرآن المجيد بجميع حروفه . فقال تعالى : ( ألمص ) {[2648]} . وقال : ( ق * والقرآن المجيد ){[2649]} . وكذلك / جاء في الحديث{[2650]} : " فينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب " . وفي الحديث : " لا أقول ( الم ) حرف ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف ) . فهؤلاء ما فهموا من كلام الله الا ما فهمومه من كلام المخلوقين . فقالوا : إذا قلنا بالحرف فإن ذلك يؤدي إلى القول بالجوارح واللهوات . وكذلك إذا قلنا بالصوت أدى ذلك إلى الحلق والحنجرة . فعملوا بهذا من التخبيط كما عملوا فيما تقدم من الصفات . والتحقيق هو أن الله تعالى تكلم بالحروف كما يليق بجلاله وعظمته فإنه قادر – والقادر لا يحتاج إلى جوارح ولا إلى لهوات . وكذلك له صوت يليق به يسمع . ولا يفتقر ذلك الصوت المقدس إلى الحلق والحنجرة . فكلام الله كما يليق به ، وصوته كما يليق به . ولا ننفي الحرف والصوت عن كلامه سبحانه ، لافتقارهما منا إلى الجوارح واللهوات . فإنهما في جناب الحق لا يفتقران إلى ذلك . وهذا ينشرح الصدر له ويستريح الإنسان به من التعسف والتكلف بقوله : هذا عبارة عن ذلك . فإن قيل : هذا الذي يقرؤه القارئ هو عين قراءة الله وعين تكلمه هو ؟ قلنا : لا . بل القارئ يؤدي كلام الله . و الكلام إنما ينسب إلى من قاله مبتدئا ، لا إلى من قاله مؤديا مبلغا . ولفظ القارئ في غير القرآن مخلوق ، وفي القرآن لا يتميز اللفظ المؤدي عن الكلام المؤدى عنه . ولهذا منع السلف من قول ( لفظي بالقرآن مخلوق ) لأنه لا يتميز . كما منعوا عن قول ( لفظي بالقرآن غير المخلوق ) فإن لفظ العبد في غير التلاوة مخلوق وفي التلاوة مسكوت عنه . كيلا يؤدي الكلام في ذلك إلى القول بخلق القرآن . وما أمر السلف بالسكوت عنه . يجب السكوت عنه . والله الموفق والمعين .
قال في ( العناية ) : القراءة المشهورة في الآية رفع الجلالة الشريفة . وقرئ بنصبها في الشواذ . انتهى .
قال الحافظ ابن كثير : روى الحافظ أبو بكر بن مردويه أن رجلا جاء إلى أبي بكر بن عياش فقال : سمعت رجلا يقرأ : ( وكلم الله موسى تكليما ) . فقال أبو بكر : ما قرأ هذا إلا كافر . قرأت على الأعمش ، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب ، وقرأ يحيى بن وثاب على أبي عبد الرحمان السلمي ، وقرأ أبو عبد الرحمان السلمي على علي بن أبي طالب ، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وكلم الله موسى تكليما ) .
وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش ، رحمه الله ، على من قرأ كذلك ، لأنه حرف لفظ القرآن ومعناه . وكأن هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن الله كلم موسى عليه السلام ، أو يكلم أحدا من خلقه . كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ : ( وكلم الله موسى تكليما ) . فقال له : يا ابن الخنا ! كيف تصنع بقوله تعالى :{[2651]} ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ) . يعني ان هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل .